بعد أن كنتُ مُبرِّرَاً لـ«الإرهاب التكفيري» في تقرير سابق له، يُظهِر ثائر ديب في تقرير أحدث أني «حليف» لذلك الإرهاب في الواقع، بل و«شريك دم». سأرد على هذه النقطة وغيرها هنا، وسأعتني بصورة خاصة بإيراد الوقائع والمعطيات ذات الصلة، وبالقدر الممكن من «الرواق» في هذا الشأن غير الرائق. ومثلما في الرد الأول، أخاطب قراء مجهولين، قد لا يحيطون بتفاصيل القضايا موضوع الجدال، ويرغبون في أن يعرفوا.

* * * * *

ليس تحالفي مع الإرهاب التكفيري عبارة عن واقع تقبل التحقق من مضمونها كي أرد عليها بعبارات عن واقع تقبل بدورها التحقق من مضمونها من نوع أني لم أقابل أحداً من «حلفائي» من الإرهابين التكفيريين يوماً، لا وقت كنت في الغوطة الشرقية لنحو 100 يوم ولا بعدها؛ أو أني نشرت ست بورتريهات لمقاتلين في الغوطة الشرقية في صيف 2013 ليس بينها واحدٌ لسلفي (البورتريهات هنا، وهنا، وهنا، وهنا، وهنا، وهنا)؛ أو أني كتبت في دوما صورة، علمان، وراية في منتصف تموز 2013، المقالة التي ترى أن تقارباً بين سورية الثائرة و«الجمهورية العربية السورية» ممثلتين بعلميْهما الأخضر والأحمر هو ما يؤسس لطي صفحة شكلين متطرفين واستبعاديين لسورية، واحد تمثله صورة حافظ ثم بشار الأسد وواحد تمثله الرايات السلفية؛ أو، أخيراً، أني التزمتُ بدور الكاتب لا أتعداه إلى عالم التحالفات والشراكات.

على أن ديب يقدم، والحق يقال، «الدليل» الواقعي على تحالفي مع الإرهاب التكفيري. بمستوى أمانته المعهود، يورد سطوراً لا يبلغ قارئه أنها بوست لي على فيسبوك، أَحتفي فيها بكسر الحصار عن الغوطة الشرقية في 28 تشرين الثاني 2013، كبرهان على ذلك التحالف وتلك الشراكة. يقول البوست- الدليل التالي: «قبل عام كان زخم التحرير يبلغ ذروته في مناطق دمشق (الضواحي الجنوبية والغوطة الشرقية والغربية…)، ثم يتوقف بطريقة غير مفهومة لا تزال خباياها غير معروفة. اليوم كأنما يُستعاد بعض هذا الزخم في شروط أصعب على كل المستويات. مقاتلو الغوطة يسترجعون اليوم العتيبة، وقبله مواقع عديدة فقدوها في الشهور الأخيرة. أهدرنا عاماً كاملاً، ما كان يجب إهداره بأية حال». غير الاحتفاء، يتضمن هذا البوست شعوراً بالانتماء ووحدة الحال مع مقاتلي الغوطة الذين كانوا يدافعون عن أهلهم المحاصرين، والمعرضين للقصف الجوي والبري طوال عام. ولا يظهر ديب إلا جهله هو حين يقرر بصيغة مراوغة أنه «لا يجهل أيّ سوري مَنْ هم [مقاتلو الغوطة] ومن رأس حربتهم ومن الذي مولّهم». كان مقاتلو الغوطة في معظمهم ينتمون إلى الجذع الوطني الشعبي للثورة، بحسه المميز بالعدالة وبعفويته وتناقضاته، على ما يظهر من البورتريهات الستة المحال إليها للتو، وكلهم سوريون ومحليون. وكانوا يدافعون وقتها عن بيئات اجتماعية محاصرة تتعرض لقصف يومي، وقبل ثلاثة أشهر فقط من معركة العتيبة كانت بعض بلداتهم قد تعرضت لمذبحة كيماوية سقط فيها من 1466 من الأهالي، بينهم مئات الأطفال. هذا بالطبع لا يمكن أن يُذكَر في سجلّات ديب.

تحالفي مع «الإرهاب التكفيري» هو، بالتالي، شهوة اتهام وقتل معنوي من صنف ما برع الإعلام الأسدي به. ونصيبُ هذا الاتهام من الحقيقة لا يزيد في شيء عن نصيب كتائبي المسلحة أو إقامتي في السفارة الأميركية خلال عامين قضيتهما متخفياً في دمشق، وكان أشباهٌ لديب في الأخلاق والسياسة أثبتوهما بأدلة مثل أدلته منذ 2011.

نحن هنا حيال ممارسة كتابية تتهاون إلى أقصى حد في معايير قول الحقيقة، أي تشرِّع لنفسها الكذب، لأن هذا يناسبها. لقد اشتهى أن يقول إني حليف للإرهاب التكفيري، فهل يكفي اعتبارٌ شكليٌ من نوع أن هذا غير صحيح كي لا يقوله؟ لسنا حيال كلام يبتغي قول الحقيقة حتى يُدحَض بأنه بلا أساس من الواقع. نحن حيال كذب متعمد، يجري تكراره بلا توقف ليتحول إلى عقيدة راسخة.

وليس تحالفي مع الإرهاب التكفيري وحده غير الصحيح، بل كذلك ما يزعمه ديب من أن الإسلاميين، السياسيين منهم والمسلحين، كانوا «محلّ مديحهم [أنا و«أضرابي»] ودفاعهم وصمتهم حتى البارحة». فلم أمتدح الإسلاميين أو أدافع عنهم قط، ما دافعتُ عنه هو حقهم في العدالة والسياسة. قد يستعصي ذلك على فهم ديب، لكن إشكالية الاستيعاب التي انضبطت بها مقاربتي للإسلاميين من غير السلفيين والجهاديين لا علاقة لها بتقييم إيجابي لهم، فلا هي تقتضيه ولا تسمح به، وإن اقتضت تناولاً تفهُّمياً للظاهرة الإسلامية. نقطة انطلاق التصور الاستيعابي للنظام السياسي هي الاختلاف الأساسي والخصومة، وليس التوافق والمساندة، ثم الحاجة إلى قواعد لعب يتفق عليها المختلفون المتخاصمون من أجل قطع دورة العنف المتكررة. وفي بلد مثل بلدنا تسوده دولة مخصخصة ومُطيَّفَة، قتلت في جولة صراع أولى عشرات الألوف من محكوميها ومئات الألوف في جولة ثانية، لا يبدو هذا مجرد موضوع مهم من مواضيع السياسة، بل هو شرطها وتعريفها. ومهما أمكن لبناء نظام سياسي استيعابي، لا يستبعد الإسلاميين، أن يكون تحدياً عسيراً، فهو أدنى عسراً مما اقتضاه سلفاً تأبيد دولة التعذيب والكراهية الأسدية، أدنى كذلك مما أصاب سورية من تدمير على يد هذه الدولة وحُماتها الأجانب، الروس والإيرانيين وأتباعهم.

أدعُ جانباً هنا اجترار ديب لمفهوم «الإرهاب التكفيري» الذي تروجه الأجهزة الإيرانية والميليشيات التابعة لها، وهي قوى احتلال في سورية وضالعة في صنوف من إرهاب ديني بدوره ضد السوريين، كما ضد لبنانيين وعراقيين ويمنيين، وإيرانيين قبل الجميع. وهذا مع الدرجة صفر من الحس الإشكالي والعدد صفر من العناصر التحليلية بخصوص الإسلام السياسي والعسكري، مما يُنتظَر من كاتب معني بالنظر في شؤون بلده أن يقوم به، هذا إن لم يكن مُطبِّعاً لعنف الفاشية الأسدية. ليس تجريم كل مقاومة مسلحة للأسديين، بنسبتها إلى «الإرهاب التكفيري»، سوى الوجه الآخر لتطبيع عنف غير شرعي (تعذيبي، تمييزي، إرهابي، إبادي) لحكم غير شرعي.

* * * * *

ما أجد صعوبة خاصة في التعليق عليه هو استخدام تغييب زوجتي لتسجيل نقاط سياسية ضدي. يتحدث ديب في تقريره الثاني عن «الجريمة الشخصية التي ارتكبت بحقّ النشطاء الأربعة في دوما وبينهم زوجة ياسين»، ويرتب هذه الجريمة على تحالفي مع الإرهاب، الذي يرتفع هنا إلى شراكة دم، دم امرأتي. لا يفاجئني ديب مهما قال أو فعل، إلا أنني لا أجد بالفعل تعليقاً ممكناً على اختزال تغييب زوجتي إلى وظيفة البرهان على خطئي، وضمناً استحقاقي لما جرى لنا، وهذا ممن لم يُلمح إلى القضية قط إلا لغرض كهذا. هذه مقاربة توظيفية دنيئة لمأساة شخصية هي جزء من مأساة عامة هائلة، يتجاوز ضحاياها نصف مليون في أقل التقديرات، ويتجاوز ضحايا التغييب القسري مئة وثلاثين ألفاً. وهي بعد ذلك مأساة حمّلتُ نفسي قسطاً كبيراً من المسؤولية عنها طوال الوقت. أشك أن يوجد مثال آخر على هذه الدرجة من الخِسّة حيال قضية على هذه الدرجة من الإيلام.

وليس مفاجئاً في خطاب بهذا القدر من العنف والذكورية السامة أن تُعتبَر سميرة التي لا تستطيع الرد ضحية سلبية لسياستي الضالة، لا ولاية لها على نفسها ولا تقرر لنفسها، ولا انتماء لها إلى من عاشت بينهم وشاركتهم حياتهم، على ما هو ظاهر في كتابها يوميات الحصار في دوما 2013. وبطبيعة الحال لن يَرِدَ في أي من تقارير ديب أنَّ سميرة انضمت إليَّ في الغوطة الشرقية لأنها صارت مطلوبة للنظام بفضل كاتب تقرير يشبهه، شملني معها وشمل قريباً لنا اعتُقِل وعُذِّب، وأنه لم يكن في متناولنا خيار جيد للتعامل مع هذا الوضع المستجد. في واقع الأمر لم تكن لنا خيارات جيدة طوال الثورة ومنذ البداية، مثلنا في ذلك مثل سوريين كثيرين اختاروا موقعاً إلى جانب مواطنيهم الثائرين، وتقطعت بهم السبل.

* * * * *

ليس في كل هذه المعطيات ما هو جديد. ذكرتُ أكثرها غير مرة هنا وهناك. لكن في مثل شروطنا قد يكون ذكر الوقائع أهم من تجديد التحليلات، لأن الوقائع ذاتها ما تتعرض للنكران أو للتزييف. ثم لأن تغييب الوقائع أو تزييفها هو أحد أوجه صعود الشفاهة، بما في ذلك في الكتابة، وحلول مزاج سياسي قائم على الهوى والنميمة والإشاعة والتكرار، ومناسب بفعل ذلك لتنازع الهويات الأهلية، محل الموقف المكتوب والتحليل المكتوب والمعطيات الموثوقة.

في بنية الموقع الفكري والسياسي لخادم الشفاهة هذا، النظام ليس موجوداً كموضوع سياسي مستقل، يُنظَر فيه ويُكتَب بشأنه، ولا حتى الإسلاميون. كلاهما ذريعة لإعادة كتابة المقالة نفسها مئة مرة ضد الداعي وأمثاله. موضوع المعرفة، أياً يكن، غير موجود في عالم المكيود الأبدي. ما يوجد هو «آخر»، شخص أو مجموعة يكرر المكيود إشهار كراهيته لهم بلا نهاية، أو حتى «آخر نفس» على ما تعهد في تقريره الثاني بخصوص استمرار معارضته لي ولأمثالي. وليس هذا إلا لأننا، بحسبه، ننتحل دون وجه حق الموقع المعارض، ما يبدو أنه يحول بينه وبين إظهار كيف تكون المعارضة الحقيقية للنظام وحماته.

ربما في حياة أخرى، بعد آخر الأنفاس.

ولأن غياب قوله في النظام بنيوي وليس عارضاً، فإنه يمكن التنبؤ بما سيأتي كما لو أنه أتى وانتهى. فمثلما يسهل التنبؤ بسير آلة، يسهل أن نتنبأ بأنه لن يقول شيئاً عن أي جريمة كبيرة سيرتكبها النظام وحُماته (وسيرتكب النظام وحُماته الجرائم الكبيرة حتماً)، مثلما لم يسبق أن قال شيئاً. يمكن التنبؤ بيقين كذلك بأنه سيواصل التراقص حولي مثلما داوم على فعله طوال أكثر من عقد.

* * * * *

تبقى بضع نقاط تفصيلية، تتصل من جديد بوقائع تقبل التحقق منها.

يُحيل ديب في تقريره الثاني إلى كلام قاله رياض الترك وكلام آخر قاله جورج صبرا، وهذا مع علمه بأني لست عضواً في حزب الشعب الديمقراطي السوري، ولا حتى عضواً سابقاً على ما أورد في تقريره الأول. قلة الاستقامة ليست مما يستغرب منه، فما يلائمه يستخدمه، حتى لو كان عارفاً بأن ما يقوله غير صحيح. في ردي السابق كنت قد تناولت «أطروحة الصفر الاستعماري» المزعومة لرياض الترك من باب التمثيل على مزيج الاختلاق والتكرار الذي يطبع كتابة ديب، وليس تبنياً لما يقول الرجل.

في موقع من التقرير يذكر ديب شيئاً عن صمتي «المطبق» بخصوص عبد العزيز الخيّر. هذا أيضاً غير صحيح. ذكرت الخيّر مرات في سياق الكلام على التغييب القسري. هذه واقعة يمكن التحقق منها بيسر (وللتسهيل، هنا، وهنا، وهنا).

وقد يكون من لزوم ما لا يلزم القول إن من ينكر عليّ كاذباً عدم ذكر الخيِّر هو من لا يمكن أن يذكر رزان زيتونة ووائل حمادة وناظم حمادي، ومحمد عرب، وفائق المير، وجهاد أسعد محمد، وعلي مصطفى، وعلي الشهابي، وفراس الحاج صالح، وباولو دالوليو، واسماعيل الحامض، ولا يشير إلى  سميرة نفسها إلّا في سياق النيل من زوجها. بل ليس ذكره للخيِّر نفسه تكريماً للغائب المحروم من الكلام، ولا إدانة لخاطفيه والتذكير بسجلهم في التغييب القسري لأزيد من مئة ألف من محكوميهم (وتغييب الجميع سياسياً، بمن فيهم الموالون)، وإنما هو يندرج ضمن المقاربة التوظيفية الرخيصة نفسها كمجرد أداة إضافية لاجترار سجلّ ضغائن سابق لتغيب الخيّر ولاحق له. مثل سميرة، عبد العزيز الخير لا يستطيع الرد، لكن قضيته تستحق أن يُذكِّر بها باستمرار على نحو يصونها كقضية حرية وعدالة، فلا تُترَك بيد موْتور يستخدمها في تسديد فواتير أحقاده.

يتكلم أيضاً على صمتي «المطبق» بدوره، في كتاب بالخلاص يا شباب، عن مازن شمسين (زميل سجن في عدرا وتدمر)، رغم أنه كان «يتلقى التعذيب» عني وعن سواي. أنا على يقين من أن مازن ليس مصدر معلومة ديب الكاذبة هي الأخرى. لقد عُذِّبت بالأصالة عن نفسي ولم يتلق أيٌ من رفاقي، لا مازن ولا غيره، تعذيباً بالوكالة عني في أي وقت. ثم أني لم ألتزم في الكتاب بذكر أسماء الرفاق والشركاء كلهم كي أغفل أسماء بعضهم لهوى في نفسي. وأعف هنا عن التعليق على استخدام النميمة في الكتابة، أياً يكن مدى صواب مضمونها. نحن حيال شخص لديه مشكلة مبدئية مع الأمانة.

مواصلاً مونولوجه المريض، يتوعد ديب بإفشاء «ضروب أخرى عديدة من الصمت [صمتي] ليس الآن أوان فضّها»، تُضاف إلى صمتي عن عبد العزيز الخير ومازن شمسين. انشغال كاتب التقريرين بكشف خفايا وفضح تحالفات و«فض ضروب من الصمت» يقربه كثيراً من المخبرين وكتبة التقارير السريين لأجهزة التعذيب الأسدية، يكشفون لها مثله أسراراً وخفايا، وإن لم يبلغوا مثله حد «فض الصمت». ديب موهوب أكثر في هذا الشأن، حتى أنه اكتشف أن السر وراء ردي عليه بعد طول تجاهل هو أني أخذت أحس بالخطر في «آخر معاقلي»، أي «الخارج»، من جراء كشفه عما خفي من حقيقتي لكل من «اليساريين والليبراليين والممولين الأجانب والعرب» ممن أنا «بأمسّ الحاجة إليهم وإلى إبقائهم في جهل» لاتجاهي وسياساتي وتحالفاتي. اكتشف كذلك أن «إرضاء الممولين الغربيين ورفاق اليسار الليبرالي الغربيين» هو سبب مكمل لتنصلي من الإسلاميين، يضاف إلى «التبرؤ من إثم الجريمة [جريمة تغييب زوجتي وأصدقائي]»، وهذا بعد تحالف وثيق تقدم ذكر الدليل الفيسبوكي عليه. انشغال بال ديب بأمر «الممولين» يرجح أن تتواتر تقاريره المخاطبة لهذه السلطة الجديدة.

ليس غير رقاعة في التكوين، أي انعدام جذري لاحترام النفس وللشرف في الخصومة، يمكن أن يوصل كاتب التقريرين إلى هذه المواصيل العُصابية. والطريف أنه يحتال على وصفي له بالسبّاب الرقيع بأن يتحدى أن أثبت وجود شتائم في مقالاته، فكأنما يوزع نفسه بين دكتور جيكل الفيسبوك الذي هو آية من آيات الرقاعة والإسفاف وبين مستر هايد المقالات الذي هو مسعور ومفعم بالكراهية فقط.

والخلاصة أنه حيث أورد ديب ادعاءات حول الواقع كانت كاذبة، وحيث أورد مرافعات اتهام كانت بلا سند من الواقع. يبقى الإخلاص في الكراهية حتى «آخر نفس» والرغبة العارمة في القتل المعنوي هما كل نصيبه من الحقيقة.