كرّمَ الصديق ياسين الحاج صالح كتابي رومنطيقيّو المشرق العربيّ بمراجعة نقديّة، صارمة ودؤوبة ومسهبة نسبيّاً. هنا، سأمرّ، في التعقيب عليها، على نقاطها الأساسيّة، آملاً أن أتطرّق إلى مسائل إمّا أنّ الكتاب لم يعالجها بما يكفي أو أنّه عاملها كتحصيلٍ حاصل.

يضبطني ياسين متلبّساً بالهيغليّة، وإلى حدّ ما بالعُرويّة والحافظيّة، وبكلمة بـ «التاريخانيّة». أمّا برهانه والعبارة التي استوقفتْه فقولي إنّ الرومنطيقيّة تحضر «كسدٍّ لنقص فادح في الواقع الموضوعيّ» للمشرق العربيّ. وهو إذ يوحي باقتراح تعبيرٍ آخر هو «واقع مُذلّ لا يُطاق»، بدلَ واقع ناقص، ينسب لي ما يعادل التبشير بطوبى مُلزمة، أو بواقع بديل «كامل»، أو ربّما بالواقع البديل الكامل بألِف التعريف ولامه. والحال أنّه منذ محنة السيّد فوكوياما، ما عادت أيّ عين بصيرة تقود صاحبها إلى مثل هذا المَهلك. فإذا انقاد إليه، رغم ذلك، نبّهتْه أزمة الديمقراطيّة الضاربة اليوم، ومعها الصعود الشعبويّ، إلى أنّ الأمور ليست مُقدّرة ولا حتميّة أو مضمونة.

والأدعى للدهشة هنا أنّ استشهاداتي الكثيرة بكارل بوبر، أحد أشرس خصوم التاريخانيّة ونقّادها، لم تُلحَظ أصلاً ولم توجِد لي، في محاكمة ياسين، أسباباً تخفيفيّة.

ما أزعمه، بقدر لا يخفى من التجريبيّة، أنّ الإشارة إلى نقص فادح ليست بالضرورة اقتراحاً لكمال ناجز مُدرَك مسبقاً، وإن كانت لا تكتم تزكيتها قيماً بعينها يمكن تقديم عشرات البراهين على تفوّقها على القيم المضادّة لها. فهو ليس نقصاً بالنسبة إلى فكرة جاهزة مُثلى وخلاصيّة، بل نقصٌ (deficiency) في متطلّبات الواقع كما تفترضه حياة كريمة في ظرفٍ راهن ما، وكما تصفه مؤسّسات ومنظّمات دوليّة وإنسانيّة وكتابات نظريّة قليلة الأدلجة وكثيرة المعطيات والأرقام. والأمر، في آخر المطاف، ليس «نهاية» للتاريخ بل، إذا صحّ التعبير، محاولة استدعاء «بداية» له، بدايةٍ لا توفّرها إلاّ معانقة العقل والحرّيّة والعدل والسعي والمبادرة الإنسانيّين. هذا هو الواقع الذي دعا الكتاب إلى التطابق معه وقياس النفس ومحاسبتها على أساسه.

وإذا جاز الهبوط من المجرّد، الذي يستهوي ياسين، إلى المحدّد، الذي يستهويني، قلت إنّ واقعنا ناقص ليس فقط بسبب ضنّه بالحرّيّة والكرامة الإنسانيّة، بل أيضاً، وهو موصول بالنقص الأوّل، لعدم امتلاكه فرص العمل والتعليم الجيّد والبيئة النظيفة والشروط الصحّيّة التي يستحقّها كلّ إنسان… إنّه واقع لا يُعاش فيه بل يُفرّ منه إلى واقع يكون أشدّ احتواءً على الشروط المذكورة، على ما تدلّ حركات الهجرة واللجوء المليونيّة.

فالمسألة، هنا، مسألة مقارنة لا صلة لها بـ «سمة العصر» أو بـ «تحقّق الفكرة المطلقة». إنّنا دون ذلك بكثير، أوطانُنا قد لا تعود أوطاناً وشعوبنا قد لا تعود شعوباً فيما الشروط السائدة والكابحة تهدّد بتحويلنا عبيداً معاصرين هائمين على وجوههم في أرض الله الواسعة. أمّا أن تقود المقارنة إلى تغليب النموذج الذي نفرّ إليه على النموذج الذي نفرّ منه، فهذا بديهيّ لا أشكّ في أنّ ياسين يشاطرني الإقرار ببديهيّته، هو الذي عانى ما عاناه من سوء النموذج الطارد/المهجور.

لكنّ ما يؤتى على ذكره عربيّاً بوصفه بديهة إنّما يبقى عند معظمنا بديهة ميّتة كأنْ نقول، وكثيراً ما نقول: «وهل نحن مثل السويد؟»، ثمّ نمضي في سبيلنا إلى بيت الخلاء. فهي بالتالي بديهة لا تستحقّ التوقّف عندها، ناهيك عن البناء عليها والاستنتاج منها. وهذا، في ما أظنّ، مشكلة كبرى: فالبديهة تلك لا تُفضي إلى معنى، ولا تُشتَقّ منها خلاصات، ولا يُستَشهد بتجارب اشتَقّ منها أصحابها، على عكس حالنا، خلاصات. فحين يقال أنّ الملايين تلجأ من بلدانِ نموذجٍ معيّن إلى بلدان نموذج آخر فهذا يزكّي البلدان التي يُلجأ إليها، لا بوصفها جهات جغرافيّة، بل بوصفها تجارب تاريخيّة قابلة، من حيث المبدأ، للمحاكاة، بقدر ما يستحقّ أن يصبغ نقدنا لبلداننا، إن كأنظمة حكم أو كأنظمة تفكير، براديكاليّة قصوى تعصف بنماذجها المقابِلة. فإن عزَفنا، بحجّة استعماريّةِ النموذج المُفضَّل، عن المقارنات وعن البناء عليها، وهي غدت مقارناتٍ في اللحم الحيّ، كنّا كمن يؤثِر السير في عتم مفاهيميّ وسياسيّ كامل، أو الخبط هكذا بلا إشارات في هذا العالم. والحقّ أنّ تكراريّة التجارب والمقارنات، وهي بالضبط ما يجعل البديهيّ بديهيّاً، لا تترك للاجتهاد مساحات يُعتدّ بها.

فعلى العكس منّا، لم تحل القنبلة الذريّة التي ضرب بها الأميركيّون اليابانيّين دون تقليد الأخيرين لنموذج الأوّلين، ولا حالت الوحشيّة الهائلة التي مارسها اليابانيّون في بلدان جيرانهم الآسيويّين الصغار دون تعميم النموذج اليابانيّ في ذاك الجوار، وهذا كلّه لم يرافقه كلام، لا عن «سمة العصر» ولا عن «تحقّق الفكرة المطلقة».

وفي المعنى هذا لا تكون التخمة الإيديولوجيّة التي نعيشها، أنظمةً وتنظيمات وأفكاراً ومثقّفين وسياسيّين، بريئة من التعبير عن ذاك النقص من طريق إنكاره أو توهّم التعويض اللفظيّ عنه، وهو ما يحترفه اليوم الممانعون ويتفوّقون فيه من غير أن يقتصر أمره عليهم.

فنقد الرومنطيقيّة بالتالي ليس كنقد «المثاليّة» عند الماركسيّين، أقلّه لأنّ النقد الأخير جزء من مذهب سلطويّ كثيراً ما استُخدم لمصادرة الأفكار وامتصاص سيولتها، وهذا بينما تحتلّ الحرّيّة هنا موقعاً مركزيّاً وأساسيّاً لا يدعو إلى المصادرة على شيء بما في ذلك الرومنطيقيّة من أيّ جهة جاءت. وإذا كان المروّجون لـ «سمة العصر» يضمنون أنّ ما من رادٍّ لتحقّق السمة ولهبوطها المحتّم على كوكبنا بلداً بلداً، فإنّ أكثر ما أفعله، في هذا الكتاب وفي سواه، هو التوكيد على الانسدادات التي تحول دون انتصار الحرّيّة والديمقراطيّة في ربوعنا، وعلى الأدوار الذاتيّة التي تضمن وحدها التغلّب على انسدادات كتلك.

وينسب ياسين إليّ «محطّة وصول» هي «الحداثة والتنوير والرأسماليّة»، ويضيف كما لو أنّه يترجم لسان حالي المُفترض: «فلمَ لا يكون كلّ مسعى من أجل الوصول مقبولاً». أي أنّني، وفق هذا الوصف، قد أبرّر العنف والقمع ما داما يخدمان بلوغ تلك «المحطّة»، تماماً كما يفعل ستالينيٌّ يبرّر قتل الملايين على مذبح انتصار الاشتراكيّة المحتّم. وهنا أيضاً يتغافل الصديق العزيز عن تمييزي، بناءً على ملاحظة للراحل صادق جلال العظم، بين الحداثة بوصفها modernity وبينها بوصفها modernism، حيث الأولى ديمقراطيّة وإنسانيّة النزوع والتوجّه فيما الثانية مذهب يتاخم العلمويّة ويتعالى على الناس ويخشى دمقرطتهم.

والغريب، هنا، غريبان. فأوّلاً، لم أقل، لا في هذا الكتاب ولا في سواه، إلاّ أنّ الحرّيّة تتقدّم كلّ قيمة أخرى وتعلوها، وأنّها الشرط الشارطُ لنهوض الناس إلى الخيار، وللخيار الذي يرسون عليه. ثمّ لو لم يكن ياسين هو الكاتب، وهو مَن لا تراودني ذرّة شكّ بحسن نيّته، لشككتُ كثيراً بالنيّة من وراء تنسيبي إلى «الحداثة والتنوير والرأسماليّة» حصراً، وإغفال الحرّيّة والديمقراطيّة. فإنّما لهذا السبب دافعتُ، في هذا الكتاب وقبله، عن ضرورة أن نتحمّل حاكماً إسلاميّاً، شديد البعد عن التنوير، وأن نرفض الانقلاب العسكريّ عليه، ما دام أنّ أكثر أبناء شعبه اختاروه رئيساً، ناقداً أولئك الذين لم يفعلوا، إمّا لأنّهم غير ديمقراطيّين أو لأنّهم ذوو نَفَس ديمقراطيّ قصير أو مستعجل.

ومن دون نفي البُعد الإيديولوجيّ في مفاهيم كالحرّيّة والديمقراطيّة، فإنّها تبقى أقلّ الإيديولوجيّات إيديولوجيّةً، فيما تستبعد كلّ عبادة، خصوصاً عبادة الدولة (التاريخانيّة)، وتزكّي صنع الناس تاريخهم ومستقبلهم، وليس صنع «عِلمٍ» ما لهما. والناس، في آخر المطاف، يصنعون ذينك التاريخ والمستقبل بما يلائم مصالحهم لأنّهم كائنات عاقلة وعقلانيّة حين يتاح لهم سبيلٌ إلى ذلك، وإذا ما أتيح.

وأظنّ أنّ ياسينَ ليس واحداً من أولئك الذين تعجّ بهم ثقافتنا السياسيّة في معظم تيّاراتها، ممّن يتجاهلون ما تُحدثه الديمقراطيّة من فارق كبير بين نظام وآخر. وكم يبدو هذا الغياب فاقعاً حين يحتلّ انشغالهم بنواقص الديمقراطيّة الغربيّة وعيوبها، وهي قائمة بالطبع، مساحة أكبر كثيراً ممّا يُعطى لتفوّقها على أنظمة شبيهة بأنظمتنا.

والراهن أنّ الديمقراطيّة هي أيضاً ليست معبودة أو خلاصيّة أو مُبرّأة من العيوب. فهي تعايشت طويلاً مع الاستعمار، وحتّى الأمس القريب كانت هناك ديمقراطيّة للبيض وحدهم في جنوب أفريقيا، ولا تزال هناك «ديمقراطيّة يهوديّة» في إسرائيل تمنح اليهود حقوقاً أكبر وأكثر كثيراً ممّا تمنح العرب، وحتّى إطاحته مؤخّراً على يد العسكر، قام في ميانمار نظام ديمقراطيّ يهجّر المسلمين من ديارهم…، وهذا ناهيك عن انتقادات وجيهة تطال بعض أعرق الديمقراطيّات الغربيّة، لا سيّما حين تجنح إلى الحرب وتقضم أطراف المؤسّسات المنتخبة أو تلتفّ على حُسن اشتغالها. لكنّنا لا نجد ما ينقد هذه الممارسات التمييزيّة كما نجده في الديمقراطيّة ذاتها. وقد يقول قائل إنّ الأفكار الاشتراكيّة، مثلاً لا حصراً، توفّر عناصر نقد مشابه للممارسات التمييزيّة التي تقدم عليها أنظمة اشتراكيّة. بيد أنّ الفارق كبير جدّاً، مؤدّاه أنّ نقد الاشتراكيّين أنظمتَهم يرفعه منشقّون ومنفيّون يعيشون في بلدان ديمقراطيّة، فيما يحصل نقد الديمقراطيّين لديمقراطيّتهم في بلدانهم نفسها، حيث فيها فحسب تُطرَح هذه المسائل وتُناقَش.

ويستشهد ياسين بالمعارضة التي واجهت الرأسماليّة والتنوير داخل أوروبا، ويذكر إدموند بيرك الذي أشرتُ إليه في الكتاب، مستخلصاً أنّ مبرّرات هذه المعارضة وأسبابها أكبر وأشدّ قابليّة للفهم في بلدان كبلداننا غزتْها أوروبا.

وهذا صحيح بالطبع، ومن المفهوم تماماً أن يُكرَه الاستعمار بجميع محمولاته، وأن يبادر المقهور إلى معاندة القاهر وإلى الردّ عليه. إنّه حقّ لا يرقى إليه الشكّ، إن لم نقل إنّه شأن إنسانيّ و، بلغة القرن الثامن عشر، طبيعيّ. لكنّ الإقرار بهذا الحقّ لا يحول دون مساءلته ومساءلة تعبيراته وتجاربه: ما هي طبيعة الردّ على الاستعمار؟ ما هي البدائل التي قُدّمت عنه؟ من هي القوى التي تخوض الصراع معه؟ ما تجاربها؟ ما الأكلاف قياساً بالعائدات؟ ما الذي تتعلّمه تلك القوى من صراعها بما يجعل دوراته الجديدة أشدّ إثماراً، أو أقلّ إيلاماً، من دوراته السابقة…؟

هكذا ظهر أوروبيّون عاصروا بيرك ونقدوه بقوّة معتبرين أنّه يتراوح ما بين محافظ ورجعيّ. أمّا عندنا فليس مأموناً حتّى اللحظة نقد الحاج أمين الحسيني أو باقي سابقيه ولاحقيه المتراوحين ما بين المحافظة والرجعيّة.

يقول ياسين: «والحال أن مقاومة عقلانية للأشكال الأشد عدائية من السيطرة الغربية وغير الغربية ممكنة وعقلانية، لو استندت إلى تركيب معاكس: تعدد فكري وسياسي في الداخل وسياسات وطنية جدية على المستوى الدولي». لكنْ متى حصلت هذه الـ «لو» على مدى مئة عام ونيّف؟ ألا يسمح هذا الغياب المديد بالقول إنّها، للأسف، غير مرشّحة للحصول ما لم تسبقها تحوّلات بنيويّة ضخمة يتّصل بعضها بفهمنا للصراع ذاته؟

أغلب الظنّ أنّ ذاك الاستعصاء، وهو بالطبع لا ينبع من جيناتنا، يرقى إلى تثبّت شديد التجذّر عند لحظة من التاريخ المعاصر هي انهيار الإمبراطوريّات (العثمانيّة والهبسبورغيّة والقيصريّة) وظهور الحداثة السياسيّة وشكلِها في الدولة -الأمّة. ونعرف أنّ إشكال التعامل مع هذه الواقعة الخطيرة التي حملها إلى العالم غرب هو إمبرياليّ وديمقراطيّ معاً، تأدّت عنه كوارث ضخمة في أوروبا الوسطى ليس الصعود النازيّ بعيداً منها، بينما لا تزال روسيا، ذات المخيّلة الإمبراطوريّة الخصبة، تصارع حتّى اليوم واقعها كدولة أمّة. أمّا نحن، في الزمن ما بعد العثمانيّ، فكانت لنا حصّتنا التي افتتحها ورثة السلطنة المنهارة وأورثونا إيّاها.

هكذا أقلع المستعمِر إلى ما بعد الاستعمار ومكثنا نحن في حفرة المُستعمَر، فأغرينا كثيرين، فيهم العنصريّ وغير العنصريّ، بمعاملتنا ككائنات ماهويّة وكاستثناء لأنّ الكثير من قضايانا التكراريّة يتاخم الماهويّ محمولاً على جناحي «هجمة شرسة» لا تتعب ولا تتقاعد.

وهذا ليس تقليلاً من شأن «الإخضاع والاحتلال»، أي الاستعمار. لكنّه يسعى إلى الربط بين مشكلتين، مشكلة الاستعمار ومشكلتنا، سيّما وأنّ انعدام مثل هذا الربط هو ما جعل فكرنا السياسيّ، مرّة بعد مرّة وجيلاً بعد جيل، يغلّب الشرعيّة (هنا، بمعنى الهويّة التأسيسيّة للدولة: عربيّة، إسلاميّة إلخ) على السيادة (هنا، بمعنى تقديمها على الروابط القرابيّة في الدين والمذهب والإثنيّة…). وفي ظلّ تلك الأولويّة للشرعيّة، بالمعنى المشار إليه، جرى ويجري التسمين المتواصل لولاءات ما دون الدولة واستيلاؤها على آفاقنا الكئيبة.

فإن أضفنا النتائج البائسة التي أسفرت عنها المعارك القوميّة، من أعلاها مع عبد الناصر إلى أدناها مع الأسد وصدّام والقذّافي، حقّ لنا، بل وجب علينا، أن نجفل ونقف ونتساءل. يكفي أن نقيس ذلك بالحقيقة المؤلمة التي تتمثّل اليوم في  عاطفة جارفة تضرب بلداننا، مؤدّاها تمنّي الخضوع للاستعمار والعودة إلى زمن لم يصرمه إلاّ الاستعمار نفسه.

والحقّ أنّ ما انتهينا إليه يجيز القول، من دون تأتأة، إنّ التحرّر الوطنيّ كما عرفناه لم يكن سوى كارثة مطنطنة. وهذا لا يخفّف منه الإقرار المبدئيّ بحقّنا وحقّ أيّ كان من الشعوب بالتحرّر الوطنيّ، لكنّه يحول دون التصفيق الطروب لكلّ تحرير وطنيّ سبق أن أخفق ألف مرّة من قبل لأنّ التحرّر عنده ارتدّ إلى «ثأر» يتأدّى عنه إحلال سلطة محلّ سلطة، ولا يتأدّى أيّ مكسب كبير يُذكر على صعيد الحرّيّات والاقتصاد والاجتماع والثقافة…

وربّما كان تثبّت القطاع الأعرض من المثقّفين، على عكس الناس العاديّين، عند لحظة الاحتكاك الأولى مع الاستعمار، ما يفسّر عدم الاكتراث بظاهرات مضيئة تسبّب بها الغرب على نحو أو آخر. فمقابل ألف كتاب يُقرأ عن «المركز والمحيط» و«التبادل غير المتكافىء»، يكاد لا يُقرأ كتاب واحد عن نموذج «التصنيع من طريق التصدير» الذي اتّبعه الآسيويّون، وبفعله اختاروا أن يجافوا طريق «القطع» مع الرأسماليّة وأن يغدوا هم أنفسهم رأسماليّين. وكم هو مُحبط أنّ «الثورة الثقافيّة» البائسة في الصين الماويّة لا تزال، في بيئات المثقّفين العرب، موضع ذكر وتذكير لا تطمح بمثلهما ظاهرة صنعتها التوظيفات الغربيّة في الصين ومعها توظيفات الدياسبورا الصينيّة في الغرب، وخصوصاً الولايات المتّحدة، فأفضت إلى إخراج 600 مليون صينيّ من فقرهم في غضون ربع قرن فقط.

أخطر من ذلك في ما خصّ الاكتفاء الذاتيّ الفكريّ الذي أنجبه تثبّتنا ذاك، اضمحلالُ النقاش بين تيّارات فكريّة يُفترض أنّها متباينة في مصادرها وتعبيراتها وأهدافها، ومن ثمّ اضمحلال الحيّز الفكريّ ذاته. فالقوميّ والإسلاميّ واليساريّ إلخ…، هم اليوم، وكما حاولتُ أن أبرهن في الكتاب المنقود، «جبهة» واحدة تكمّل «الجبهات» الحزبيّة التي درج على إنشائها صدّام حسين وحافظ الأسد وأضرابهما.

أمّا المثل الصارخ الأشدّ حميميّة فهو مدى الإنكار الذي نواجه به تكسّر مجتمعاتنا وتفسّخ علاقاتنا الأهليّة، والميل إلى صدّ النفس عن معارف، وأحياناً عن معلومات، نأبى أن ينتجها إلاّ نحن فيما نحن لا ننتجها.

وعلى العموم، كان الحكّام ولا يزالون الطرف الأذكى والأقدر على استخدام التثبّت الثقافيّ هذا وعلى ضمّه إلى ترسانتهم «السياديّة» في وجه «التدخّل الأجنبيّ الإمبرياليّ» في شؤوننا.

أمّا أجيال الحكّام واختلافاتهم ممّا يشير إليه ياسين فهو ما لم يتطرّق إليه كتابي، وإن كان لا يزال يغلبني الظنّ بأنّهم يتقاطعون، بل يتكاملون، أكثر كثيراً ممّا يربط التغيّر والقطع بينهم. ولئن بدت هذه الاستمراريّة صارخة وكليشيهيّة في الحالة السوريّة، وكادت تغدو كذلك في الحالتين العراقيّة والليبيّة لو قُيّضت نهايات أسعد لصدّام والقذّافي، فإنّ «شرعيّة ثورة يوليو»، التي تمتدّ من عبد الناصر إلى السيسي، ليست قليلة الدلالة في شمولها المجمّع السلطويّ الواحد، والأدوات والتقنيّات التي يُمارَس القمع بموجبها (الأمن، التنظيم السياسيّ، الإعلام، التعليم…) وعبادة الزعيم وجيشه ودولته. وكم يبدو هذا التلاقي ساطعاً حين يجتمع «عملاء الغرب» و«عملاء الشرق» على استلهام نموذج مشترك في القمع والعدوان على حقوق الإنسان.

ويكاد ياسين يقدّمني بوصفي عدوّاً لـ «الكرامة» بإطلاق المعنى، وإن أشار مرّةً إلى تمييزي بين الكرامة والعنجهيّة. وغنيّ عن القول إنّ معاداة الكرامة ليست على أجندتي، لكنْ ما الذي نجده إذا حاولنا التأريخ لهذا المفهوم في استخدامه العربيّ الحديث؟

واقع الحال أنّه، وباستثناء السنة الأولى من عمر «الربيع العربيّ» الذي كان فعلاً طلباً على الكرامة الإنسانيّة بالمعنى النبيل للكلمة، وُلد هذا المفهوم في تجربتنا السياسيّة الحديثة مصاباً بالعوج وهكذا عاش. فهو تأسّس مع جمال عبد الناصر، صاحب «ارفع رأسك يا أخي»، والذي أمّم السياسة والصحافة والتعليم، وأنشب أظافر المخابرات في أعناق الناس، وحين قرّر محازبوه أن ينشئوا حزباً بعد رحيله لم يجدوا اسماً له أفضل من «حزب الكرامة». مذّاك والمصطلح لا يُفهم بوصفه كرامة إنسانيّة تندرج في حقوق الإنسان، كما يذكر ياسين بحقّ، بل ككرامة قوميّة أو دينيّة أو قَبَليّة يسهر على تنفيذها مَن يقيمون أنظمة من المهانة والإذلال لسكّانهم ومواطنيهم. فكرامةٌ تشتعل ضدّ الغريب وتخبو ضدّ القريب تقضم المعنى الإنسانيّ الشامل للمفهوم لتجعله جزءاً من عدّة الهويّة ومن متاعها. وهي المهمّة التي تتولاّها المخابرات والزنازين أداتيّاً، ويتولاّها المثقّفون والدعاة مفهوميّاً. وعلى هذا النحو ما إن يُذكر المفهوم حتّى يرد موصولاً بصدّام حسين أو حافظ الأسد أو آية الله الخمينيّ…

وأغلب الظنّ أنّ محاولة «الربيع العربيّ» تحرير مفهوم «الكرامة» من استعماله الرائج هو من أكثر ما أهاج ضدّه الأنظمة، كما أهاج الأكثريّة الساحقة من المثقّفين المتمسّكين بالكرامة «في مناهضة الإمبرياليّة».

فوق هذا فإنّ ما يتأدّى عمليّاً عن هذه الكرامة يكاد يُختصَر في نقطتين: ردع مَن قد يتدخّلون من الخارج وقفاً لمذبحة يمارسها نظام بحقّ شعبه، أو أكثريّة بحقّ أقلّيّة، أو العكس، وحصاد هزيمة عسكريّة أمام الطرف الذي يتمّ تشغيل الكرامة تشغيلاً حصريّاً في مواجهته. وفي النهاية، يطرأ، مرّةً بعد مرّة بعد مرّة، مزيد من الاختلال لغير صالح الكرامة كائناً ما كان المقصود بها.

لقد بذل ياسين جهداً ملحوظاً ولافتاً، عبر دراسات ومقالات كثيرة، للبرهنة على الطبيعة الإباديّة للنظام الأسديّ وأفعاله. وحين يكون النظام إباديّاً، لا بدّ أن تنخفض الشروط الموضوعة على مَن قد يتدخّلون لوقف الإبادة. فإن كان هؤلاء مُحجمين عن التدخّل، وهم ليسوا متطوّعين أخلاقيّين على أيّ حال، فلا بأس بمحاولة إغرائهم بالتدخّل لأنّ وقف الإبادة يعلو كلّ اعتبار آخر. وحتّى في ظلّ اليأس من إمكان التدخّل في وقت بعينه، لا ينطوي على أيّ ضرر وضعهم أمام مسؤوليّاتهم الأخلاقيّة، التي لا ينكرونها لفظيّاً وخطابيّاً، وقد يمنح معارضيهم، الأصدق والأشدّ اهتماماً بتقريب الفعل من القول، حجّة عليهم.

وهذا ما يندرج في فهم للسياسة وللفعاليّة السياسيّة يخالف فهم ياسين لهما. وواحدُنا، في آخر المطاف، قد يجد ملجأ له في الملاحم حيث تنهار جبال وتفنى أمم لأنّ العدالة الكاملة لم تتحقّق، وهو قد يقول في نفسه «كذا أنا يا دنيا». لكنّني في وارد آخر يدفعني، لحسن الحظّ أو لسوئه، إلى الاهتمام بتعرّجات الطريق وتوازنات القوى ومراكمة الخطوات الصغرى، وأخيراً بالفعاليّة السياسيّة التي لا تعوّضها أيّة إطلاقيّة أخلاقيّة ولا تنوب منابها.

وفي هذا المعنى، وبالاعتذار من نقاء المثقّفين، أعترف بأنّ إعجابي تثيره المحاولات الهائلة التي بذلها تشرشل، وكانت تبدو قبل بيرل هاربر بائسة وميؤوساً منها، لتوريط الأميركيّين في الحرب العالميّة الثانية، أو محاولة بن غوريون، التي أثمرت أخيراً، لاستمالة الأميركيّين إليه بعدما هزموه وأذلّوه في 1956، أو تحمّل مانديلاّ ومشاركته العنصريَّ التائب دو كليرك مرحلة الانتقال إلى ما بعد العنصريّة…

وهما، في النهاية، طريقتان في النظر إلى الأمور، خصوصاً منها أمورنا.