التحق والِدي واثنان من أخوالي بنفس المدرسة التي التحقتُ أنا بها في سراييفو. وعلى الرغم من مرور خمسين سنة على التحاق خالي الأكبر بالمدرسة – عام 1934 – إلا أن ديكورها الداخلي بقي على حاله. جدتي هي من لاحظَت الأمر، فقد حضرت اجتماعات أهالي الطلبة والمعلمين عندما كان خالي طالباً وعندما صرت أنا طالباً فيما بعد. تتلمذ أبي وخالي الأصغر لدى أستاذ تاريخ الفنون الذي درستُ عنده أنا أيضاً. وعندما توفي الأستاذ المُسنّ في بداية عامي الثاني من المرحلة الثانوية، حضرَ ثلاثتنا جنازته.

لطالما كانت هذه المدرسة، منذ نشأتها في ثمانينات القرن التاسع عشر، مدرسة للنخبة البرجوازية. فمنها تخرّج الكاتب البوسني الذي حاز على جائزة نوبل إيفو آندريتش، بعد عذاب طويل تحدث عنه فيما بعد بمزيج من الرعب والقرف. ربما كان هذا سبباً لعدم ذكر اسمه خلال الأنشطة المدرسية، أو في كل مرة أحصى المدير كل الشخصيات المهمة والمعروفة التي تخرجت من هذه المدرسة. كان الثوريّون الشيوعيون في أيامي يُعتبرون خريجين جديرين بالذكر، وكذلك الأمر قتلة فرانز فرديناند، وريث عرش الإمبراطورية النمساوية-المجرية الإمبراطورية النمساوية-المجرية كانت إحدى القوى العظمى في القارة الأوروبية، وضمّت ما يُعرف حالياً بالنمسا والمجر (هنغاريا) والبوسنة والهرسك وإقليم السنجق في البلقان. كانت لدى هذه الإمبراطورية عاصمتان، هما فيينا في النمسا وبودابست في المجر، وامتدت فترة وجودها بين عامي 1867-1918. (المترجم). غافريلو برينسيب نفسه، الذي أطلق الرصاصات التي أصابت فرديناند وزوجته الحامل، لم يتخرج من المدرسة، لأنه انتقل إلى بلغراد قبل ذلك؛ ولكن العديدين من شركائه المقربين فعلوا.

كان أساتذتنا يقولون لنا إنه ينبغي أن نتخذ من هذه الشخصيات قدوةً لنا – فقد كنا نعيش في مجتمع اشتراكي في نهاية اليوم، مجتمعٍ يتمسك بقوة بأمثلته الساطعة والمشرقة. ومن بين هؤلاء الأمثلة، كان أهلي وأخوالي نماذج يُحتذى بها على التضحية والبطولة.

حول موضوع خالي الأكبر كان هناك صمت. لم يحصل خالي هذا على درجة أقل من الامتياز قط. كان لديه أصدقاء مراسلة من بلدان أخرى، تواصل معهم باللغة اللاتينية، كما كان يهوى حل المعضلات الرياضيّة، ويعزف على الغيتار، بل وكتب مرة مقالاً عن بول فاليري. بدا خالي في صوره طويلاً وهشاً، بشعره الأشقر وعينيه الزرقاوين، مثل أرستقراطيّ شاب في رواية لتوماس مان سيموت في نهاية الكتاب، إما من التهاب السحايا أو التجاويف المفتوحة في رئتيه، ولكن موته لن يكون موتاً عادياً، وإنما موتاً يختزل مصير عائلة بأكملها، أو حتى جيلٍ بأكمله. ينبغي أن أوضح أن خالي، على الرغم من ظهوره بهذا المظهر، لم يكن يشبه شخصيات مان في أي شيء آخر؛ ولكن كم كان ليسعدني لو حفرت على شاهد قبره الكلمات التي ودّع فيها أستاذ الفلسفة سيريونيوس تزايتبلوم صديقه الملحّن آدريان ليفيركون: «رحم الله روحك يا صديقي، ويا موطني».

ولكنني لست متأكداً من أنني أعرف موطن خالي. والأمر الأكثر وضوحاً على أي حال هو أنني أنا شخص بلا موطن، وأنني – بذلك – لن أعرف ما تعنيه هذه المرثية على شاهد قبره الافتراضيّ.

ميليِنكو يرغوفتش. ويكيميديا كومنز ©

وُلد خالي في أوسورا، وهي بلدة صغيرة في وسط البوسنة، حيث عمل والده – جدّي – ناظر محطة قطار. ترعرع خالي، إذن، بالقرب من سكك الحديد التي بنتها الإمبراطورية النمساوية-المجرية، وتغيّر مكان سكنه كما تغيّر أصدقاؤه أغلب الأحيان. تعلّم خالي اللغة السلوفينية من والده واللغة الكرواتية من أمه، ولكن لغته الأولى كانت الألمانية. هذه تعلّمها من جده، أي جدّي الأكبر، الذي كان موظف محطة قطار عالي المقام، سوابيّاً ألمانياً من منطقة بانات، وُلد في بلدة أصبحت الآن جزءاً من رومانيا، وذهب إلى المدرسة في فرجاتس وبودابيست وفيينا. هو أيضاً قضى كل حياته بالقرب من سكك الحديد في البوسنة.

عليكم أن تفهموا، إذن، أن خالي الأكبر – ولنُسمّه ملادِن، لأن القصة ستصبح مشوشة لو استمررنا من دون أسماء – قد عاشَ في محيط مركب وضمن شبكة لغوية معقدة. يمكن للغة أن تحدد مصير المرء. كان جدّ ملادِن، كارلو، ألمانياً ذو عقلية وطنية، لم يتحدث مع أبنائه الأربعة، وحتى مماته، إلا باللغة الألمانية. لم يتوجه كارلو بكلمة كرواتية واحدة لأحد منهم قط. أما مع أزواج بناته – كرواتييَن وسلوفينيّ – فكان يتحدث بالكرواتية، رغم قدرة ثلاثتهم على التحدث بالألمانية بطلاقة. أما مع أحفاده فكان يتحدث بكلتا اللغتَين، ولكن فقط بعدما يتوجه أحدهم بالحديث إليه بالألمانية. ولو حيّاه أحدهم بالكرواتية، لتظاهر أوبابا (جدّي الأكبر) بعدم السماع.

يقال أن الموائد الأسبوعية التي كانت كل العائلة تجتمع عليها شيئاً يُذكر. فقد كان هناك بروتوكول لغويّ صارم من النوع الذي لا يوجد في يومنا هذا إلا في مقر الاتحاد الأوروبي على الأغلب، مع أن أحداً لم يتساءل يوماً عن السبب. كانت الهوية الألمانية مهمة بشكل خاص لكارلو؛ وكان على الجميع من حوله أن يتأقلموا. بالمقابل، لم يُمنع أحد منهم، كما لم يَمنعهم هو بالذات، من أن يكونوا شيئاً غير الذي كانوه أو من التحدث بأي لغة أرادوا التحدث بها. كان جدّي الأكبر يحب أزواج بناته، ولم يزعجه أنهم ليسوا ألماناً؛ بل كان – يجب أن أنوّه – فخوراً بعملهم المدنيّ. فأن تكون عضواً من نقابة عُمال سكك الحديد كان بالنسبة إليه يشبه الانتماء إلى جماعة سرية أو محفل ماسوني، يميّز أفرادها فهمهم للعالم ودورهم الخاص فيه. وقد تجمع بين عامل سكة ألمانيّ وعامل سكة كرواتيّ أخوة تسمح بنشوء تفاهم متبادل أعظم من تلك التي تجمع بين أبناء شعب واحد بين بعضهم البعض. كان أوبابا يسارياً، وفي بداية العشرينات من القرن العشرين تم زجه في السجن وطرده من العمل لدعمهِ إضراباً لعمّال سكك الحديد. لم يكن هذا الشيء بحد ذاته ليثير فضيحة لو لم يكن أوبابا ناظر محطة قطار وألمانياً بين سلافيين همَج. لهذا السبب عاقبتهُ الحكومة الملكية بقسوة، لخيانته لطبقته ولشعبه.

ترعرعنا في البيت على الإيمان بأن لدى كل الناس نفس الحقوق، بغض النظر عن معتقدهم أو وضعهم الاقتصادي. وكانت البوسنة، هذه الدولة الصغيرة التي عانى قرابة التسعين بالمئة من سكانها خلال العشرينات والثلاثينات من الأمّية، وحيث انتشرت أوبئة التيفوس والكوليرا بوتيرة مفزعة، وحيث دمّر داء الزهري المستوطن أجيالاً بأكملها من دون رحمة وكأنه إرثٌ خبيث، هذه البوسنة كانت – بالنسبة إلى أوبابا كارلو وأفكاره – المكانَ المثالي للعيش. لم تخطر على بال أوبابا كارلو فكرة الرجوع إلى بانات أو الانتقال إلى فيينا أو ألمانيا، فهذه كانت بلداناً غريبة بالنسبة إليه. وعندما كان يُسأل عن السبب، كان يقول بصوت خفيض أنه لن يستطيع العيش في هذه الأمكنة، لأنها «حيث يعيش الآخرون». لا يوجد، حسب معرفتي، تعريفٌ أدق لنقيض الوطن.

كان خالي ملادِن أكثر شبهاً بجده من أيّ من الأحفاد الآخرين، ولكنه لم يكن يشبهه بالشكل. كان لدى كارلو المسن شعر داكن ولحية رمادية طويلة؛ ولو رأيتم صوره، لوجدتموه أشبه بحاخام رومانيّ، أو يهوديّ متعلم على الأقل، من رجل ألمانيّ. ولكن ملادِن، بعينيه الزرقاوين النورديّتَين وهيئته، كان أكثر شبهاً بالفلاحين السلوفينيين من طرف والده. عندما أرى هذين الاثنين في صورهم الباهتة بالأبيض والأسود، أتساءل عن المنحى الذي كانت حياتهما لتتخذها لو أن ملادِن لم يتعلّم اللغة الألمانية بكل يُسر، أو يستمع طوعاً إلى جدّه وهو يعزف الكمان، أو يجلس أبعدَ من كارلو المسن خلال موائد يوم الأحد. كما أتساءل عمّا كان ليحدث لو أن كارلو المسن قد كره السلافيّ في حفيده ولو قليلاً.

في باحة المبنى الذي عاش فيه أهلي منذ ثلاثينات القرن العشرين، قامَ الكنيس. هناكَ صلّى الناسُ – أمثال أوبابا كارلو وجدّي الأكبر الثاني، السلوفينيّ – الذين نَقلوا، وفقاً لمشيئة الإمبراطور فرانتس يوزف، شؤونهم التجارية إلى سراييفو، حيث بقوا لوقتٍ طويل. قبل تلك الفترة، أي خلال الحكم التركيّ، لم يكن هناك أشكينازيّون في بلدتنا، وإنما فقط يهود سفارديون إسبان. وكانت الغالبية منهم مُعدَمين، يرتابون من سلطة الاحتلال الجديدة، ويرفضون السماح للواصلين الجدد بأن يدخلوا الحرم الخاص بهم. بل إنهم، إلى حد ما، لم يصدقّوا حقاً أن هؤلاء كانوا يهوداً آخرين، ولذلك سمّوهم، كما سمّوا رعاياهم الإمبراطوريين والملكيين، سوابيّين.

قبل اندلاع الحرب (العالمية الثانية)، أيْ لحظة دخول الألمان إلى بلدتنا، وقبل أيامٍ من استيلاء الأوستاشا الأوستاشا، أو الحركة الثورية الكرواتية، هي منظمة فاشية كرواتية نشطت بين عامي 1929-1945. تبنت الأوستاشا الإيديولوجيات النازية والفاشية والكاثوليكية الرومانية والقومية-الكرواتية، وقتل أعضاؤها الآلاف من الصرب واليهود وغجر الرّوما والمعارضين السياسيين خلال الحرب العالمية الثانية. (المترجم) على السلطة، اقتحم حشدٌ من الناس الكنيس ودمّروا كل شيء فيه. لم يكن هؤلاء يرتدون زيّاً معيناً، بل كانوا أناساً عاديين، يصادفهم المرء في كل يوم. ومن بين من قاموا بنهب الكنيس عواطليّة البلدة وبلطجيّتها، ولصوصها الصغار ورجالها المحترمين، بالإضافة إلى غجر الرّوما الذين وجدوا أنفسهم، خلال أيام قليلة وبصحبة يهود سراييفو، مُحمّلين في ناقلات متجهة إلى معسكرات الاعتقال.

شاهد جدّي السلوفينيّ، الذي كان اسمه فرانيو، كيفَ دمّر أناسُه الكنيسَ من النافذة. وظلّت نونا (جدتي) أولغا تحاول سحبه إلى الداخل كي لا يراه أحد، ولكنه بقي عند النافذة رغم خوفه. وكان في ذلك قدرٌ من الشجاعة من طرفه. شاهد جدّي فرانيو الناس الذين عاشَ بينهم في لحظة تحوّلهم. في البدءِ صاروا خارجين عن القانون، ثم أصبحوا مجرمين، وفي نهاية المطاف شهداء وضحايا حرب.

عندما دُمّر الكنيس، كان ابن فرانيو وأولغا، ملادِن، قد بدأ عامه الدراسي السابع للتو. علّمَ الوالدان ابنهما أن ما يحدث غير مقبول، وأخبراه أن بافليتشأنتي بافليتش (1889-1959) سياسي وديكتاتور كرواتي، مؤسّس حركة الأوستاشا ورئيسها خلال الحرب العالمية الثانية. همجيّ، وأن هتلر مجنون، وأنه سيخسر الحرب بالتأكيد. كما شرحا له، وكذلك فعلَ أوبابا كارلو، كل ما يعتبر من منظورنا اليوم ضرورياً. كما أمراه، بالطبع، ألّا يقول كلمة عن هتلر أو بافليتش في أي مكان، إذا كان يقدّر قيمة حياته؛ وأن يبتعد عن معارضي حكومة الأوستاشا الجديدة. كان جدي وجدتي، مثلما كان أهلهما وعائلتنا بأكملها، وبأوسع معاني الكلمة، ضد أي مقاومة للسلطات من حيث المبدأ. لم يكن بالإمكان فعل شيء. لم يكن تغيير الحكومة عائداً إلينا؛ ولو حاول الواحد منا فعل ذلك، لزُجّ في السجن لا أكثر.

تخرّج ملادِن بعد عام، وأخذ يجهّز نفسه للدراسة في زغرب أو فيينا. كان يريد دراسة علم الحِراج: فقد كان أوبابا يقول له إن من الجنون أن يعيش المرء في البوسنة وألّا يتقاسم العيش مع الغابات.

ولكن طلب التجنيد وصل في صيف عام 1942، وكان مكتوباً بلغتَين (في بادرة احترام لأعراف «أوروبا الموحدة»). كانت الوحدة التي طُلِب من ملادِن الالتحاق بها جزءاً من جيش هتلر، وليست جزءاً من القوات المسلحة الكرواتية، وضمّ الطلب دعوة لأفضل وألمعَ الشباب من سراييفو من ذوي الأصول الألمانية أو النمساوية.

كان هناك احتمالان في تلك اللحظة: إما أن ملادِن سيحضر لأداء الخدمة العسكرية ويذهب إلى الحرب، أو أنه سيلجأ إلى البارتيزان الكرواتيين (حركة التحرير الوطنية). لم يراود أهل ملادِن، جَدّيَّ فرانيو وأولغا، أي شك بأن هتلر سيخسر الحرب، وأن بافيلتش سيُساق إلى حبل المشنقة. ولم يعتقد فرانيو، ولو ليومٍ واحد، بل ولا لساعة واحدة من حياته، أن أولئك الذين دمّروا الكنيس وقاموا بتهجير جيراننا اليهود، سيُكتب لهم النصر. لم يكن فرانيو شخصاً مؤمناً، ولكن انتصار الشر في نهاية المطاف كان أمراً غير وارد بالنسبة له.

ولكن بدلاً من أن يرسل الأهل ولدهم إلى قوات البارتيزان، قاموا بإرساله إلى الألمان. فقد ظنوا أن فرصة نجاته أكبر هناك، وأنه سيخضع إلى عدة أشهر من التدريب الأساسي، يكون هتلر قد خسر الحرب عند انقضائها. كان ذلك سوء تقدير من طرفهم، فبعد مرور أربعة عشر شهراً، وقع خالي الأكبر قتيلاً في معركة ضد البارتيزان. كانت تلك أول حرب خاضتها وحدته، وكان هو أول وآخر شخص يُقتل فيها. وبعد عدة أيام، انضمّت الوحدة وقائدها إلى قوات البارتيزان. وبعد انقضاء الحرب، صيف عام 1945، قام أربعة من رفاق ملادِن في الحرب بالبحث عن ذويه، فقد صاروا الآن أفراداً من جيش التحرير، وصار فرانيو وأولغا والدا مقاتلٍ عدو. توقفت جدتي، إثر مقتل ابنها، عن الذهاب إلى القدّاس، كما توقفت عن رسم الصليب والاحتفال بعيد الميلاد وعيد الفصح. وحينما سألتُها، عندما بلغتُ الخامسة من عمري، ما إذا كان الله موجوداً، ردَّت عليّ قائلة، «اللهُ موجود بالنسبة إلى بعض الناس، أما بالنسبة إلى البعض الآخر فإنه غير موجود».

«هل هو موجود بالنسبة  لكِ؟».

«لا».

«هل هو موجود بالنسبة لي؟».

«عليكَ أن تكتشف ذلك بنفسك».

عاشَ كارلو، بينما كان حفيده يقاتل في صفوف الألمان، في بيتٍ بضاحية إيليدجا جنوبي سراييفو، أغارَ عليها الجنود على اختلاف أنواعهم وسُكْر معظمهم. وكان كلما انطلق أعضاء الأوستاشا في جولاتهم الليلية لقتلِ ونهب السكان الصربيين، يقوم بإيواء جيرانه. لم يكن من المستغرب أن يجتمع خمسون شخصاً في منزل كارلو في بعض الأحيان. وعندما كان الأوستاشا يجيئون إلى باب داره ليقوموا بإجراء تفتيش، كان ينتظرهم على العتبة الغارقة في الظل، وينادي عليهم بالكرواتية قائلاً:

«هذا منزل ألمانيّ. لا يمكنكم الدخول!»

وكان الجنود، في كل مرة، وعلى سُكرهم، يقفلون راجعين من دون أن ينبسوا بكلمة. وكان هوَ يلاحقهم بنظرة كارهة وتعبير يغيّر ملامحه لدرجة يصبح معها وكأنه شخصاً آخر. شخصاً مرعباً. أخبرني أحدهم ذات مرة أنني ورثت هذه النظرة عنه.

تم تحرير سراييفو في نيسان (أبريل) عام 1945. وبعد شهر أو شهرين، أتوا ليأخذوا أوبابا إلى المعسكر، حيث كان سيتم ترحيله هو كل أبناء بلده إلى ألمانيا. مشى أوبابا كيلومتراً ونصف إلى محطة القطار في إيليدجا، وكان محاطاً باثنين من البارتيزان، وثالث ظل ينكزه من الوراء بماسورة بندقيته. ذاكَ الثالث كان يعرف أوبابا من قبل الحرب، وكان يفهم بالضبط من وماذا يكون أوبابا كارلو، ولكنه شعر بالسعادة لمضايقته قليلاً. هكذا تسيرُ الأمور. من المحال أن تعرف من سيتم ترحيله إلى معسكر اعتقال أو لأي سبب – لن تعرف إلا أن الناس نادراً ما يحسَبون أنهم هم من سيحدث لهم ذلك.

حال وصولهم إلى محطة القطار، أمام عربات الدواجن والمواشي التي استخدمها جنود البارتيزان لنقل ضحاياهم إلى المعسكرات، تجمّع جيران أوبابا الصربيين. قالوا إنه لأربع سنين قد أنقذهم من الأوستاشا، وحتى لو كان ألمانياً مئة مرة لما قاموا بتسليم الرفيق كارلو، ولذهبوا إلى حيث سيذهب. حاول جنود البارتيزان أن يفرّقوا الحشد، رفعوا أعقاب بندقياتهم، وهوَت الضربات على بعض الرؤوس، ولكن كانوا كلما ضربوا أكثر، ازداد صمود الناس أكثر.

أعادوا كارلو إلى منزله في ذلك اليوم، ولم يأتِ أحد ليأخذه بعدها قط. من كان ليعرفَ أنه سيصل هناك وهو على قيد الحياة؟ كان من المحتمل جداً أن تكون حياته قد أُنقذت بفضل نفس الناس الذين أنقذَ حياتهم. فعلةٌ صالحة تُقابلها فعلةٌ صالحة، كما في حكايات الأطفال. ماتَ أوبابا بعد عدة سنوات، قبل أن أولد أنا.

قام البارتيزان بتجنيد أبي وخالي الأصغر دراغان بعد تحرير سراييفو، فقاتلا في إحدى أكثر مسارح نهاية الحرب دموية، بالقرب من كارلوفاتش. دخلا الحربَ طالبَي مرحلة ثانوية، وتخرّجا عضوَي بارتيزان مُسرَّحَين. درسَ خالي بعد فترة علم المعادن ودرسَ أبي الطب. كلاهما كانا ناجحَين في اختصاصيهما، وكلاهما أصبحا فردَين محترمين في المجتمع. كلاهما حملَ في قلبه وعقله وصمة عائلية دخلَت ملفَي الشرطة الخاصَين بهما. كانت وصمة خالي أخوه الصغير، الذي ماتَ جندياً ألمانياً؛ أما وصمة أبي فكانت أمه، التي كانت مع أختيها عضوة ناشطة في منظمة شباب الأوستاشا في سراييفو – وحُكم عليها بالسجن بعد الحرب، بينما هاجرت أختاها إلى الأرجنتين.

أصبح كلا الرجلَين عضواً في الرابطة الشيوعية، وبقيا مخلصَين لعضويتهما حتى تفكُّك يوغوسلافيا. كذلك فعلت أمي، التي كانت تبلغ عاماً واحداً من العمر عندما مات أخوها. هي أيضاً سوف يتم تذكيرها في بعض المناسبات أن ملادِن كان على الجانب الخاطئ خلال الحرب. شعرت أمي بشيء من الذنب حيال ذلك. كذلك فعلَ دراغان. وكذلك شعرَ زوجها المستقبليّ، أبي، حيال أمه وخالتَيه. هذا الشعور بالذنب وسمَ حياتهما وبقي جزءاً مهماً من هويتهما.

عندما غادرت سراييفو، التي كانت مطوّقة بدبابات ومدفعيات مجرمَي الحرب ملاديتش وكاراديتش، صيفَ عام 1993 (كنت في مروحية نقل عسكرية أمريكية استعارتها الأمم المتحدة، لكي تقوم بإدخال المساعدات الإنسانية وإخراج الصحفيين من سبليت)، خطرَ لي أن هذا قد يكون وداعي الأخير. كنت أنقذ نفسي، لا أكثر. أمي وأبي بقيا في المدينة. خطرَ لي أنني قد لا أراهما مجدداً. مع ذلك كنت، بعد مرور سبعة عشر شهراً من الحرب والحصار، أنقذ نفسي. كنت أفعل الشيء الذي لم يستطع خالي الأكبر أن يفعله. كنتُ أهرب من حربي.

عرفت أنني سأذهب إلى زغرب، كرواتيا. ولكن بالرغم من كونها موطن لغتي، وبالرغم من أنني أنا كرواتي، إلا أنني ذهبتُ إليها كما كان أوبابا كارلو ليذهب إلى ألمانيا – ولم أكن أعرف ذلك وقتها. لم يخطر لي عندما أنقذت نفسي أن «الآخرين» يعيشون في كرواتيا، وأنني قد أكون غريباً بينهم، كما كان أوبابا. كانت ألمانيّة أوبابا تقتصر على لقاءاته اليومية، وطقوسه الغريبة على مائدة العائلة الأسبوعية، ومعاملته المتغطرسة للفاشيين الكرواتيين عندما أرادوا تفتيش بيته. أما أنا فكرواتيّتي كانت بوسنيّة، بل بوسنيّة كوفيراشيّة. هكذا كانوا يسمّون الشعب الذي انتقل من مختلف أجزاء المملكة إلى البوسنة أيام حكم فرانتس يوزف؛ فهؤلاء جلبوا ثقافاتهم ولغاتهم معهم، وكوّنوا هوية فوق-وطنية تخصّهم، أساسها الثقافيّ أكثر صلابة من انتماءاتهم الإثنيّة. في حالتي، أو بالأحرى في حالة عائلتي، عنى ذلك أننا كرواتيون بوسنيون، وسمَ هويتنا سلافيّون وألمان وطليان، وأبناء شعوب نادرة أخرى كانت جزءاً من النظام الملكي السابق. ولو لم تكن هناك إمبراطورية نمساوية-مجريّة، لما وُلدت، ولما التقى أهل أجدادي… وبذلك يكون مولدي، منذ قبل البداية، مشروعاً سياسياً.

فهمت عندما وجدت نفسي في كرواتيا، في أرض «الآخرين»، أنني ربما سأعيش حياتي كلها هناك، وأنني قد أصبح سعيداً، ولكنني لن أصير واحداً منهم قط. عندما كنت أقول نحن، عادة ما كانت نحن زائفة، نحنٌ قد تُشعِر قائلها بالخجل. لذلك صرت أستخدم ضميرَي أنا وهُم أكثر. صرتُ أقول في الغالبِ أشياء عن نفسي لم يرغب الناس بسماعها، أو لم يكن الناس ليقولوها كي لا يلفتوا الانتباه. حالما تقوم بفصلِ نفسك عن الجماعة، يصبح الاختلاف باعثاً على النفور.

عندما وصلتُ إلى كرواتيا كانت بلداً بالغ التجانس إثنياً، 90 بالمئة من شعبه كروات وكاثوليك، وأغلبهم عدائيّ بشكل طريف مع كل من ينتمون إلى أيّ أقلية. كانت هذه العداوة أساس إيديولوجيا الدولة، ولكن الشيء الذي عززها هو مرور الدولة بحرب طويلة وخضوع ثُلثِ أراضيها للاحتلال. كان جيش يوغوسلافيا الشعبي يلعب دور المُحتل، أما الأقلية البوسنية فصاروا يُعتبرون خوَنة. في نفس الوقت، أصبحت الأقلية الكرواتية المسلمة في عداد الأعداء، وفي ذلك الحين، أي في صيف عام 1993، شنّت القوات الكرواتية هجومها على المناطق المسلمة في البوسنة والهرسك. وبعيداً عن الانتماءات الوطنية، فقد اعتُبر الملحدون أعداءً للمجتمع أيضاً، لأنهم كانوا يذكّرون المواطنين بالأربعين سنة السابقة تحت الحكم الشيوعي، وربما بنفاقهم هم أيضاً فيما يتعلق بالإيمان بالله. عندما كان الأمر بمثابة عرف اجتماعي، لم يؤمن أغلبية الشعب بالله، ولكن مع تغيّر الأوقات أصبحت نفسُ هذه الأغلبية تذهب أفواجاً إلى الكنيسة.

في الحقيقة، كان يبدو أن الناس يستمتعون بكل هذه العداوات والخصامات. هذا أيضاً ليس بالشيء الجديد: فليس هناك شعور عارم ومُرضٍ أكثر من الشعور بالكراهية، وليس هناك شيء كالكراهية ينتقل بسرعة من كونه شعوراً خاصاً إلى كونه شعوراً عاماً ومشتركاً على نطاق واسع داخل المجتمع. في التسعينات، أي خلال رئاسة فرانيو تودجمان، أصبحت كرواتيا بالفعلِ أرضَ كراهية. وكان معظم هذه الكراهية موجهاً إلى الداخل، نحو مكونات معينة من مجتمع الدولة نفسها، وبالتالي نحو تركيبتها الثقافية والتاريخية والهوياتية واللغوية… في كرواتيا، كانت حتى الكلمات تُقابل بالكراهية إذا لم يكن صوتها كرواتياً بشكل كافي. ولكن الصوتَ قد يكون خدّاعاً في بعض الأحيان، كما قد يحدث نقصٌ في كمية الأشياء التي تستحق الكراهية؛ لذلك صارَ الناس يستمتعون بتوجيه كراهيتهم نحو أشياء غير ذات صلة بالأقليّات.

قد يجد المرء، في مثل هذه اللحظات، أعذاراً لا تُحصى لكي يصبح جزءاً من الجمهور. خصوصاً إذا كان قد وصل للتو من مدينة محاصرة، لوحده ومن دون معونة مادية، وبصفته ساكناً جديداً ومثقفاً بروليتارياً. كانت سراييفو محاصرة، في نهاية المطاف، من قبل أكثر الفئات المكروهة بشراسة في كرواتيا. ما الذي كان يمنع شخصاً مثلي من المشاركة في هذه الكراهية إذن، أو من الاندماج في المجتمع والتحول من لاجئ إلى فرد مقبول في المجتمع؟ ولو نسينا أن الكراهية تتطلب جهداً فكرياً وروحياً معتبراً، لكان من الصعب حقاً أن نجد سبباً يمنع شخصاً وصل لتوه من سراييفو في عام 1993، من المشاركة في الجو السائد الذي انزلقت نحوه المدينة.

تحدّث جدي الأكبر، الألمانيّ السوابيّ القادم من بانات والمقيم في سراييفو، لهجة كرواتية مليئة بكلمات مشتقة من اللغة التركية، مما كان من خصائص كلام البوسنيين المسلمين. وقام بإخفاء جيرانه الصرب من الأوستاشا ليسَ لكونه رجلاً طيباً وغير أناني، وإنما لأنهم كانوا جزءاً مهماً من عالمه. ما كان جدّي الأكبر ليفهم، في الغالب، ما يعنيه أن يكون المرء ألمانياً في مكان لم يكن فيه أي صرب أو كروات أو بوسنة أو مسلمين أو يهود… فمن منظوره، ومن منظوري أنا أيضاً، لا فرق بين أنواع الكراهية في دولة متنوعة إثنياً. لهذا السبب كانت كرواتيّتي مختلفة بشكل جوهري عن كرواتيّة الناس الذين وجدتُ نفسي محاطاً بهم حال وصولي إلى زغرب، وحتى عن كرواتيّة أصدقائي ومعارفي. ففي حين نبذ أولئك الكراهية لأسباب فكريّة وأخلاقية، أو ربما لتربيتهم الحسنة لا أكثر، نبذتُها أنا لأنها كانت تهديداً لمن أكون. فبالرغم من أنني كرواتيّ، إلا أن هذه الكراهية هدّدت الصربيّ والبوسنيّ في داخلي.

وُلِد خالي الأصغر دراغان، الذي أصبح فيما بعد خبير معادن مشهوراً وممثلاً للصناعات الثقيلة في البوسنة لدى الاتحاد السوفييتي، في بلدة كاكاني، حيث عمل جدّي فرانيو ناظر محطة. كانت أكثرية سكان كاكاني من المسلمين، وعندما بدأ دراغان تحصيله الدراسي، كان الولدَ المسيحي الوحيد في صفه. كان التعليم الديني إجبارياً في كل مدارس مملكة يوغوسلافيا في عقد الثلاثينات؛ لذلك كان من المحتم على عمّي، منذ أيامه الأولى وفي هذه الظروف غير الاعتيادية، أن يدرس مادة الديانة. كان كل الطلبة الآخرين، خلال الفترة المبكرة من اليوم المدرسيّ، يتلقون التعليم الإسلامي في مسجد قريب، أما دراغان فكان يبقى في الصف لوحده لأن أحداً لم يأتِ ليعلّمه مبادئ الكاثوليكيّة، كما لم يعرف قس الأبرشية، الذي كان من المفترض أن يستبدل المدرّس الغائب، أن حَمَلاً وحيداً جرى تعميده كان ينتظره لوحده في المدرسة. هكذا شعر خالي، بين أربعة حيطان بيضاء، تحت سبّورة سوداء وصور مختلفة لألكسندر الأول ملك يوغوسلافيا، شعرَ خالي بالوحدة المشوّشة، الخبيثة التي يهرب منها الكبار، وينتقلون بسببها من بلدان وأراضٍ هم من الأقلّية فيها، إلى بلدان وأراضٍ سيكونون من الأكثرية فيها.

ولكن بدلاً من أن ينقل جدّي فرانيو عائلته، أو يرضى بتعليم قس الأبرشية لابنه حول الإيمان بالله، بينما يتلقى زملاؤه جميعاً التعليم على يد المُلّا المحلّي، أخبرَ جدي المدرّس أنه لم يكن يريد فصلَ ابنه عن الأطفال الآخرين، وأنه ينبغي أن يتلقى الصبي التعليم الإسلامي برفقة أصدقائه. كان ذلك طلباً أبوياً غير مألوف، ولكنه لم يكن ضد القانون، ولم يعترض أحد عليه. هكذا أتمّ دراغان دراسة أربع سنوات في الكُتّاب، المدرسة الابتدائية الإسلامية؛ ورغم أنه قد جرى تعميده وإدخاله في الحياة الكاثوليكية، إلا أنه صار يعرف أركان الصلاة في الإسلام.

التمييز المهم لا يقوم بين مجتمع متعدد إثنياً ومجتمعٍ متجانس إثنياً، وإنما يقوم على موقف المجتمع من التعددية نفسها. يمكننا أن نجد متعة في الكراهية وأن نبني هويتنا على أساسها؛ أو يمكننا أن نعيش بطريقة مختلفة. إننا عندما لا نكره، نرى ذواتنا معكوسة في الآخرين. وقد عرف أوبابا كارلو هذا الأمر، ولذلك قرّر ألّا يذهب إلى ألمانيا. فكيفَ كان ليتواصلَ أو يصل إلى تفاهم معهم حتى؟ كيف كان ألمانيّ مثله سيقدر على العيش في ألمانيا، إلا عن طريق المقاومة والصراع؟

لقد كتبتُ في رواياتي وقصصي عن جدّي الأكبر، السوابيّ الألمانيّ من منطقة بانات، وعن عائلته، وعن الخال الذي عانى من كونه مقاتلاً عدواً، وعن الجدَّين اللذين أرسلا ابنهما إلى جيش العدو، وعن شخصيات كبيرة وصغيرة شكّلت مصائرها حياتي. وقد تمكّنت بمزجي للواقع مع الخيال، من إعادة إحياء هؤلاء الناس ومدّ حيواتهم. لا يمكنني أن أفصل نفسي عن هذه القصص، كما لا يمكنني أن أسمح لخالي، الذي اختفى قبره قبل سنوات طويلة تحت الأعشاب المهملة في مقبرة القرية في مكانٍ ما في سلافونيا، لا يمكنني أن أسمح له أن يرقد إلى جانب الملايين من الجنود الهتلريين. خالي هذا جزء من هويتي، ومن ندمٍ متوارث عبر الأجيال، سوف نحمله على الدوام. هذا أنا، الكرواتيّ، الشخص.

عندما ماتَ فرانيو تودجمان وتفكّكت الأوليغاركية القومية في كرواتيا، اعتقدتُ أن الفوارق بيننا ستزول، وأن سوء سمعتي لدى الصفوة الإثنية سيصبح أمراً من الماضي، وشيئاً مائعاً مثله مثل كل أنواع الكراهية الأخرى التي اختفت مع انتهاء الحرب. كانت هذه اللحظة التي بدأت فيها كرواتيا بالسماح لمعارضي عقد التسعينات بالعودة إلى حضنها الأموميّ، ووزّعت عليهم شرائط الانتماء الإثنيّ وإقرارات السلوك الوطنيّ المثاليّ. وبذلك تحوّل روح القومية في كرواتيا إلى روح أَورَبة (أو إضفاء طابع أوروبي) مثير بنفس الدرجة للضيق، إلا أن العيش معه أسهل. والآن، أصبح علم الاتحاد الأوروبي يرفرف بالقرب من العلم الكرواتي. ربما أشارَ ذلك إلى شيء يشبه الولاء الكولونياليّ، أو إلى إصابة الهوية بالتشظي والفصام، أو ربما إلى حقيقة مفادها أنه يوجد ثلاثة أعمدة أمام كل مؤسسة عمومية، ولذلك سيكون من السخيف رفع علم واحد فقط.

ولكن الأعلام ليست هي ما يحدد حيواتنا. فما كان البارحة شعاراً للكراهية قد يصبح اليوم راية للحرية، والعكس صحيح. يكفي أن تنظروا إلى الكيفية التي غيّر فيها حُكم جورج بوش الابن دلالةَ العلم الأمريكي بشكل دائم. كتبَ خالي الأكبر ذات مرة على بطاقة بريدية موجهة لعمّته في سراييفو، «اليوم الأحد. إنه يوم حر. المعسكر مهجور. العلم الألماني يرفرف. نحنُ بِعنا علَمنا». ربما لم تكن كلماتُ خالي مترابطة تماماً، ولكنها كانت تصريحه السياسيّ الوحيد. بإمكان أبناء عائلتي، ممن بقي على قيد الحياة منهم، أن يواسوا أنفسهم بهذه الكلمات، مهما كانت غير كافية في الحقيقة. نحن شعبٌ لا يعرف حتى أيّ علمٍ يدّعي ملكيته. أولئك الذين يعرفون، يعرفون أيضاً أن للكراهية طعماً حلواً عندما تنضوي تحت علم. وإلا فلِمَ تُعلق الأعلام في أماكن بارزة خلال بطولات كرة القدم وألعاب الأولمبياد؟ أعلامنا هناك لإهانة الخاسرين، أكثرَ مما هي للاحتفال بالمنتصرين. والكل يعرف هذه الحقيقة. تقولُ أشهر أغنية تشجيع كرواتية: «دع المتضايقين يتألمون، كرواتيا هي بطلة العالم!». لِمَ قد يتألم أحد لأن كرواتيا هي بطلة العالم؟ إن الشخص الذي يطرح هذا السؤال على نفسه ليس، على الأغلب، كرواتياً بما يكفي.

بعد عام من انهيار الحكومة القومية، وإصلاح التحالف الذي قاده الحزب الديمقراطي الاجتماعي برئاسة إيفيتسا راتشان، وجدت نفسي في مهرجان سينمائي في إستريا. أقيم المهرجان في المدينة المسوّرة القديمة، فوق تلة لم يسكنها ذات يوم إلا الطليان الذين مُنحوا، بعدما أصبحت إستريا جزءاً من يوغوسلافيا، فرصة الاقتراع من قبل الشيوعيين، إما أن يغادروا بصفتهم طلياناً أو أن يبقوا بصفتهم يوغوسلافيين – وقرر هؤلاء أن ينطلقوا في طريقهم، وحقائبهم بأيديهم؛ فقضوا سنوات في مخيمات اللجوء الإيطالية، وتركوا ورائهم منازلهم الإستريّة للأبد. كان من بين الحضور وزير الثقافة الجديدة بالطبع، الذي صارَ داعموه والمقربون إليه يسمّونه «مالرو الكرواتيّ»، اللقبَ الذي أبدى هو استعداداً لقبوله، فقد كان من الممارسات الشائعة  في البلقان أن يُسمّى القادة وكبار الشخصيات تيمناً بالأجانب العظماء، أمثال فرانتس بكنباور أو الإمبراطور هيلا سيلاسي أو شكسبير – وباختصار، لا يُهِم. بأي حال، عَمِل وزيرنا هذا، مالرونا الكرواتي، واضعَ معاجمٍ في السابق، فكان شخصاً يأخذ الأمور ببساطة أو يخوض حوارات فكرية في الحانة بعد فحص مفردتَين أو ثلاثة وصلت إلى مكتبه في ذلك اليوم. لم أكن معجباً بالطريقة التي أدار فيها الوزارة، وكتبتُ مقالاً حول الأمر في الجريدة، رغم أنني كنت ألطف بكثير مما كنت عليه عندما وجّهت انتقادات مشابهة لساسة تودجمان القوميين.

لم أكن أفكر بمقالي عصر ذلك اليوم، عندما اقتربت من طاولة المقهى التي تحلّق حولها، تحت ظل شجرة سلافيّة عملاقة، مجموعة من المخرجين والمنتجين السينمائيين والمفكرين، وعلى رأسها الوزير مالرو. كنت أعرف هؤلاء الناس، كما كنت أعرف الوزير أيضاً، ولم أرغب إلا بإلقاء التحية عليهم بشكل عابر.

«امشِ من هنا، أيها الخرية البوسنيّة! ارجع من حيث أتيت كي لا نضطر نحن لإرسالك بأنفسنا!» هكذا صاح مالرو. لم أنزعج كثيراً، لأنني كنت أعرف أن الليلة الماضية كانت مليئة بالعمل الشاق، وأن الصداع الوزاريّ الذي تسببت به ربما امتد حتى عصر اليوم التالي. ولكنني مع ذلك أطلتُ الوقوف، لكي أمعن النظر في المُخرج الذي وُضع على اللائحة السوداء خلال أعوام تودجمان، والذي مُنعت أفلامه من العرض على التلفاز. كان هذا المخرج معارضاً صلباً، بصلابة كونديرا وأكثر. كسرَ المخرج عينه ولم يقل كلمة. كان عليه أن يلتزم الحذر من هذا الصداع الوزاري إذا أراد العودة إلى صنع الأفلام، فذلك لا يمكن أن يحدث من دون أموال الحكومة. خفضَ منتجٌ واعد وشاب، ومدافع عن المودة بين الجماعات الإثنيّة، ومحارب ضد القومية بكل أشكالها، خفضَ بصره أيضاً، كما فعل كل الآخرين، واحداً تلو الآخر، معارضينَ جميعهم منذ فترة تودجمان وحتى نزولي من الهضبة الإستريّة، ومالرو الكرواتي يصيح ورائي.

ذهبتُ وما زلت أذهب، رجلاً سعيداً، لأنني على عكس أوبابا كارلو لم يتم اقتيادي من قبل رجلين وثالث ينكز خاصرتي ببندقية. هذا تفصيل مهم في مكوننا الهوياتيّ – لماذا نعيش حيث لا ننتمي إلى الأكثرية. السعادة هي ما يُبقينا في هذا المكان، والسعادة – وأنا مؤمن حقاً بذلك – هي التي كلّفتنا حيواتنا في الكثير من الأحيان. في تصالحنا مع من نكون، وحملنا في نفس الوقت لفكرة ما لا نكونه، نمثل نحن هويات لا يمكن تحديدها بكلمة، أو جواز سفر، أو بطاقة هوية، أو إذن دخول. الجماهير تعرف من أين تكون – من شعار نبالة، أو علم، أو اسم – وتهتف به؛ أما نحن فلنا الشروح الطويلة، المرتبكة، والروايات والأفلام، والقصص الحقيقية والمبتدعة، والحاجةُ إلى زيارة قرية في بانات اليونانية حيث الأفق هو نفسه الذي كان عندما كان أوبابا كارلو ولداً صغيراً – رغم خلوّه الآن من الألمان. لنا القرى الخالية في بلغاريا وأوكرانيا وبولندا – حيث راح الناسُ في سحابة من دخان – كما لنا الذكريات الباهتة، والشعورُ بأننا اليوم شيء وغداً شيء آخر، وأن تراتيلنا وحدود بلادنا بعيدة المنال. إننا نشعرُ بالندم لأن أحد أقاربنا ربما عاشَ وماتَ بصفته عدواً، ولأننا نحن أنفسنا العدو إلى حد ما، ولأنه لم يتبق لنا إلا الإيمان بما دفنّاه تحت ألسنتنا – حقيقةَ أنه لا موطن لنا، وأن الحالَ ربما كانت هكذا منذ الأزل، لأن كل بقعة من هذه الأرض بلد غريب عنا.