احتلت كرة القدم مساحةً مجتمعيةً كبيرةً في مدينة حمص، وذلك من خلال أندية الكرامة الوثبة. وتعدّت هذه المساحة حدود الشغف إلى ما يشبه العرس الجماعي، كانت تعيشه المدينة بأكملها خلال أي مباراة للكرامة، الفريق الذي كان متنفساً وحيداً لمدينة حمص. مرّ هذا المتنفس بمراحل كثيرة خلال عمره الذي زاد على تسعين عاماً، بداية من سبعينات القرن الماضي التي بدأت فيها جماهيرية النادي بالارتفاع مع تحقيقه لأول لقب دوري كرة قدم، موسم عام 1975، ووصولاً إلى الثمانينات حين استقطب النادي معظم أهالي حمص مع تحقيقه لثنائية الدوري والكأس سنة 1983.

لاحقاً، جُرّب استغلال التصاعد المستمر في شعبية النادي، مطلع الألفية الثالثة، لأغراض أخرى غير رياضية، لا سيما مع تألق النادي آسيوياً. أبرز ملامح هذا الاستغلال كانت في تلميع صورة محمد إياد غزال، رجل الأعمال ومحافظ حمص آنذاك، وهو ما سبّب أرقاً للأهالي لسنوات، لكنه لم يقف عائقاً أما حب النادي الجارف والهوية الرياضية للمدينة.

نحاول في هذه المادة رصد التغيرات التي مرت بها الرياضة في حمص عموماً، وكرة القدم على وجه الخصوص، من خلال نادي الكرامة الحمصي، أحد أكبر الأندية السورية وأقدمها. كما نرصد علاقة الرياضة، من خلال نادي الكرامة، بالمجتمع والسياسة والمكان.

تأسيس نادي خالد بن الوليد

دخلت كرة القدم متأخرةً إلى سوريا مقارنةً بقدم انتشار اللعبة في أوروبا، وتحديداً في عام 1905، في مدينة دمشق على يد حسين إيبش، حيث كانت تقام المباريات بين طلاب معهد الطب (كلية الطب لاحقاً)، وطلاب مكتب عنبر. وانتقلت اللعبة إلى المدن السورية الأخرى بعد ذلك بسنوات يصعب تحديدها على وجه الدقة، أقلّها في مدينة حمص، حيث بدأت النوادي بالتشّكل في عشرينات القرن الماضي، ومنها نادي الكرامة الرياضي، أقدم أندية المدينة وثاني أقدم الأندية السورية بعد نادي بردى الدمشقي. ويعود تاريخ تأسيس نادي الكرامة إلى عام 1928، تحت اسم «نادي خالد بن الوليد»، بجهود أفراد من عائلات حمصية معروفة بطابعها البرجوازي ونفوذها ضمن المدينة كآل الأتاسي والدروبي والجمالي. ويبدو أنّ ما سهّل دخول كرة القدم إلى حمص هو دراسة عدد من هؤلاء الأشخاص خارج المدينة، حيث عرفوا كرة القدم ونقلوها في وقت لاحق.

تعددت الأندية بعد ذلك في حمص بدءاً من الثلاثينات، بين أندية لكرة القدم وأخرى تتخصص في رياضات فردية وجماعية متنوعة، فبلغ عددها رقماً كبيراً إذا ما قورن بمدينة صغيرة ذات عدد سكان قليل في ذلك الوقت، أو مقارنة بوضعها منذ سبعينات القرن المنصرم وحتى الوقت الراهن، حيث لم يبق إلا ناديان رئيسان في المدينة، تُلعب فيهما كافة الألعاب الرياضية المختلفة، وعلى رأسها كرة القدم.

من نوادي الطوائف إلى نوادي الأحياء

لفهم علاقة الأندية الحمصية بالمكان، وثم بالمجتمع التي بدأت فيه نشاطها، لا بد لنا من أن نعود قليلاً إلى نهاية عشرينات القرن الماضي. حينها، كان يعيش في حمص قرابة 150 ألف نسمة، بين مسلمين ومسيحيين في أحياء متجاورة ومتداخلة فيما بينها. ولم يمنع التعايش من وجود تمايزات بين الطرفين المتعايشين في مجتمع المدينة الواحد. ومن تجليّات هذه التمايزات، إن جازت تسميتها بذلك، نشوء أندية ضمن هذين الحيزين يتضح توجهها الديني من أسماء منتسبيها أو أماكن تواجد مقراتها ضمن أحياء حمص. ومنها، على سبيل المثال، نادي الفداء، وهو اسم ذو طابع مسيحي واضح، وتأسس في ثلاثينيات القرن الماضي في حي الحميدية.

لم يتوقف هذا التمايز الذي انعكس على الرياضة الحمصية مع انتشارها، بل توسع وازداد مع الزمن، فكانت الرياضة في حمص تعكس التنوع الطائفي في مجتمع المدينة ولو بشكل مستتر آنذاك، فالكرامة الذي اسمه الأصلي «نادي خالد بن الوليد» يحمل ضمناً هويته كنادٍ للسنّة في حمص. بينما الوثبة، الطرف الثاني في حمص والأقل جمهوراً، والذي كان نفسه سابقاً تحت اسم الفداء، فمعظم مسيحيي حمص من مشجعيه، إضافةً إلى العلويين الذي استقروا في حمص منذ ستينات القرن المنصرم، والذين توزع انتماؤهم على الناديين. يتخلّل ذلك استثناءات عديدة بلا شك، ولكنها لا تغير هذه الحقيقة، والحالة الجمعية في حمص تشي بذلك.

خفّ هذا التمايز في فترات متقّطعة، خصوصاً بالنسبة للكرامة الذي لعب له كثرٌ من مسيحيي المدينة، أبرزهم جميل جرّو، الذي حقق لقبي دوري مع الكرامة لاعباً ومدرباً، وهو من أهم رموز نادي الكرامة. بينما انقسم جمهور نادي الوثبة ولاعبوه بين طوائف المدينة الثلاث، ليكون ذا طابع أقلياتي، على عكس الكرامة الأكثر شعبيةً في المدينة.

ومع دمج جميع أندية حمص في بداية السبعينات ضمن الناديين، تحوّل هذا التمايز في عرف أهل حمص إلى تمايز «أحيائي»، بمعنى أن من يسكن حي باب السباع، وهو حي مختلط من سنّة ومسيحية حمص، هو حكماً من مشجعي نادي الوثبة. وكذلك الأمر بالنسبة للحميدية وبستان الديوان حيث يغلب الطابع المسيحي. أما بقية أحياء حمص، فمعظم مشجعيها من محبي نادي الكرامة، مع وجود قلة من مشجعي الوثبة.

من تأميم الأندية إلى مشروع «حلم حمص» 

 ككل الأمور في سوريا، لم تنجُ الرياضة من تداخل السياسة معها. أبرز هذه التداخلات، وأوضحها بما يتعلق بنادي الكرامة، يمكن تلخيصها من خلال ثلاث نقاط:

الأولى في مرحلة الخمسينات من القرن الماضي، عند انفصال أبرز وجوه نادي خالد بن الوليد عنه، وتأسيس نادٍ جديد تحت اسم نادي الوحدة، بعد خلافات بين ثلاثة أطراف؛ يُقال إن أسبابها تتعلق بانتماءات هذه الأطراف السياسية، خصوصاً مع ظهور الناصرية. ونتج عن هذه الخلافات انقسام النادي وتأسيس نادٍ جديد تحت اسم نادي الوحدة، وقد سمي النادي بهذا الاسم تيمناً بالوحدة بين سوريا ومصر، فنال النادي، حديث العهد، رخصته بعد ثلاثة أيام من قيامها، في دلالةٍ واضحةٍ على سبب الانقسام آنذاك.

النقطة الثانية كانت بإصدار حافظ الأسد، ضمن ما أصدره من مراسيم بعد انقلابه على السلطة، المرسوم (38) بتاريخ 18 شباط 1971، أو ما يعرف بالمرسوم «الناظم للحركة الرياضية في الجمهورية العربية السورية». جرى بموجب هذا المرسوم دمج الأندية بقرار من المكتب التنفيذي للاتحاد الرياضي العام رقم (59) بتاريخ 18 آب 1972. وقد تسبب المرسوم الذي أحدثه حافظ الأسد بتحويل الأندية الرياضية في سورية من أندية أهلية يقوم عليها أفراد من المجتمعات المحلية، إلى أندية هيئات يتم التحكم بها من قبل النظام الحاكم، لتكون أداةً يتحكم بها ويسيطر عليها متى أراد ذلك.

وبعد هذا القرار جرى دمج معظم الأندية في سوريا، كما أُعطيت أسماء جديدة. ومن الملاحظ أن هذه الأسماء هي صفات عامة لقيم احتكرها البعث في سوريا لفظاً لا عملاً: كالاتحاد والحرية والوحدة ..إلخ. لكن حتى الوقت الحالي هناك رفض شعبي لجمهور عدد من الأندية لهذه التسميات، وجميعهم ينادون فرقهم بأسمائها التي حملتها قبل تدجين الأندية تحت مظلّة الاتحاد الرياضي العام والحزب الحاكم؛ فالاتحاد أهلي حلب، والحرية هو النادي العربي، والجلاء هو الشبيبة الكاثوليكية. أما في حمص، فتم دمج أندية خالد بن الوليد والوحدة والجهاد والتضامن والطليعة تحت اسم نادي الكرامة. وبذلك انتهى عصر الأندية «الأهلية» بشكلٍ نهائي، وتحولت إلى أندية «هيئات» تخضع لإدارة اللجان التنفيذية في المحافظات، وتحت سلطة الاتحاد الرياضي العام.

أما النقطة الثالثة، فكانت مع بدايات الألفية الحالية، بتدخل سياسي في النادي عبر تعيين أحد رجال الأعمال المقربين من النظام وتقديمه، من بوابة النادي، على أنه شخصية فاعلة محلياً، وذلك لترويج مشروع «حلم حمص» المرفوض شعبياً من الكثير من أهالي المدينة، والذي كان غزال أحد أهم الفاعلين فيه.

لا شك أن نادي الكرامة، في تلك المرحلة تحديداً، قد دخل كل بيت، فقد تزامنت مع التطّور الطفيف للرياضة السوريّة من خلال فتح باب الاحتراف، ما أدخل النادي في عصره الذهبي، لتغدو نتائج الفريق ومبارياته القادمة وتحضيراته للدوري والبطولات القارية وأسماء اللاعبين، وصولاً إلى أصغر تفصيل يتعلق به، هي أحاديث أهل حمص اليومية. وفي ظل تغييب السياسة عن أحاديث السوريين، كان هذا الموضوع واحداً من أحاديث قليلة تسمح به السلطات في الفضاءات العامة.

في عام 2007، أعلن محافظ حمص محمد إياد غزال، الذي كان دائم التواجد في مباريات النادي، عن مشروع حلم حمص، الذي اعترض عليه الحماصنة آنذاك ضمناً وعلانية، من خلال مظاهرة أقامها تجار سوق الناعورة الواقع في مركز مدينة حمص، إضافة إلى وقفة شعبية أمام مبنى فرع الحزب للاعتراض على هدم وسط المدينة واستملاك البساتين الواقعة على طرفي العاصي كما هو مخطط في المشروع، والذي كان يهدف، حسب الكثيرين وبعيداً عن أحلام المحافظ، إلى إفراغ وسط مدينة حمص من سكانها بغية إحداث تغييرات ديمغرافية كبيرة، وكان هذا التخوف الأكبر لدى معظم أهل حمص.

عمل غزال على استغلال الحالة الشعبية الكبيرة للكرامة عندما فَرضَ رئيساً للنادي هو أحد رجال الأعمال الذين لا يربطهم بالرياضة أي رابط ، وإبرازه كداعم للرياضة الحمصيّة بضخ بضعة ملايين من الليرات في خزينة النادي. كان هذا الرجل هو محمد مرتضى الدندشي، الذي استلم رئاسة نادي الكرامة بتاريخ الثاني من كانون الأول 2008. الدندشي رجل أعمال معروف في الإمارات ومقرب من أبرز رموز النظام السوري آنذاك رامي مخلوف، ابن خال بشار الأسد والمُسيطر على مقدرات البلاد المالية، كمان كان مقرباً من محافظ حمص السابق محمد إياد غزال. وقد أسس الدندشي عدداً من المشاريع في سوريا، منها شام كابيتال وشركة سما سورية وشركة غاردينيا للاستثمارات العقارية، كما ورد اسمه في وثائق ويكيليكس كواحد من أربعة رجال أعمال دعموا النظام السوري أو أخفوا أموالاً لصالحه.

وليس أدل على حنق الأهالي على مشروع حلم حمص في تلك الفترة، إلا هتاف الناس في ثاني مظاهرات الثورة السورية في مدينة حمص، في شارع القوتلي ضمن مركز المدينة يوم الخامس والعشرين من آذار 2011، ومطالبتهم بإسقاط محافظ حمص.

من الثورة إلى التهجير

مع انطلاق الثورة السورية عام 2011، وانتفاض مدينة حمص بكاملها في وجه نظام الأسد الابن، وككل الفعاليات في المدينة، لم يكن نادي الكرامة خارج مركب الثورة السورية. ورغم بقاء فعاليته الرسمية كناد رياضي، إلا أن الكثيرين من لاعبي النادي، وفي كل الألعاب التي يضمّها والتي يبلغ عددها 14 لعبة، شاركوا في الحراك الثوري الذي كان يكبر مع مرور الوقت، ومن أبرز وجوه النادي المشاركة في الحراك كان حارس نادي الكرامة ومنتخب شباب سوريا، عبد الباسط الساروت، الذي ملأ صوته ساحات وميادين حمص هتافاً وأغانٍ ليصبح وحده رمزاً لتمرد النادي من لاعبين وجماهير على النظام. ولم يكتفِ النظام بذلك حيث اعتقل لاحقاً عدداً من لاعبي فريق كرة القدم الأول، كما استشهد، على الأقل، 14 شخصاً ينتمون لنادي الكرامة. بين الشهداء لاعبو كرة قدم وسلة ويد، منهم قائد فريق كرة القدم جهاد قصاب الذي قضى تحت التعذيب، ورئيس نادي الكرامة السابق غازي زغيب، الذي قتل في منزله انتقاماً من موقفه وموقف عائلته المؤيد للثورة السورية، رغم كونه أميناً عاماً سابقاً لفرع حمص لحزب البعث الحاكم، وعضواً في لجنته المركزية.

لم يكن هناك أي تفاعل شعبي مع نادي الكرامة ومبارياته التي أقيمت خارج حمص لسنواتٍ تلت بداية الثورة، وذلك بسبب اشتعال كل أحياء المدينة، وتراجع اهتمام الكثيرين من أبناء حمص بالرياضة في تلك الفترة، كون جمهور النادي هو أساساً ذاته المنتفض في وجه النظام القمعي، ففقد النادي بريقه جماهيرياً، ولم يبق لجمهوره إلا ذكريات ناديهم قبل العام 2011.

بعد إخلاء حمص القديمة، وتهجير المحاصرين فيها منتصف العام 2014، وفي الشهر السادس من العام ذاته، أُقيمت أول مباراة رسمية بكرة القدم في حمص ضمن مسابقة كأس الجمهورية، كان أحد طرفيها فريق الكرامة. اعتبرت هذه المباراة الرسمية الأولى بعد غياب كرة القدم عن حمص لمدة ثلاث سنوات ونصف وفق تقرير لوكالة سانا الرسمية التابعة للنظام. كانت المباراة الأولى في حمص، بعد سنوات من غياب كرة القدم أو أي نشاط رياضي آخر عنها، بمدرجات خاوية تماماً. إلا أن النظام استغل المباراة لتأكيد سيطرته على مدينة حمص، عدا حي الوعر الذي كان محاصراً حينها على بعد 3 كيلومترات عن ملعب المباراة. ويتضح ذلك الاستغلال من تصريح طلال البرازي، محافظ حمص السابق، حول المباراة، إذ اعتبر أنها «تؤكد للجميع أن محافظة حمص تتعافى وتعود من جديد إلى سابق عهدها»، متغافلاً عن حقيقة أن جمهور الفريق الشاب قد هُجّر وقُتّل كثيرون منه، حتى صار أهالي حمص يسمونها محافظ التهجير.

السنوات الأخيرة

في السنوات الأولى بعد قيام الثورة السوريّة، انتاب معظم أهل حمص شعورٌ باللامبالاة والاغتراب تجاه الرياضة، وذلك نتيجة ما حصل في المدينة من قتل وتدمير ونزوح وتهجير. ولم يكن الحديث عن نادي الكرامة إلا ضمن إطار الذكريات التي المستعادة إلى ذاكرةٍ مثقلةٍ بالهموم والأوجاع، لترسم بسمةً على وجهٍ متعبٍ، وأسى على الواقع الذي أوصل النظامُ سوريا إليه. هو شعور قوامه الحنين لنادٍ ما زال موجوداً، لكنّ معظم جمهوره مفقود؛ حنينٌ لنادٍ هو جزءٌ من الذاكرة الجمعية لمدينة بأكملها، إن لم يكن هو الذاكرة الوحيدة للمدينة خلال بعض السنوات، وجزءاً من تاريخها الحديث وعلامةً فارقةً فيه.

هذا الفتور شهد لحظات معاكسة في شهر آب 2017، حين أوشك نادي الكرامة على الهبوط إلى دوري الدرجة الأولى. ورغم أن الرياضة لم تكن بين أولويات أهل حمص في تلك الفترة، نتيجة حدوث ذلك بعد أشهر قليلة من تهجير حي الوعر وعودة المدينة بأكملها للنظام، ومعرفة الجميع أن النادي، كما كل شيء في سوريا، أداة من أدواته التي يتخذها ليُثبت للعالم أنه لا شيء يحصل في سوريا، إلا أنّ كثراً تركوا لامبالاتهم تجاه كرة القدم، وكانوا يحملون أمل عدم هبوط نادي الكرامة إلى الدرجة الأولى، فهو لم يهبط إليها سابقاً منذ بدء الدوري السوري لكرة القدم في الستينات. هذا الأمل من بعض الجماهير كانت ساحته الأولى صفحات فيسبوك، ما أعاد إلى الواجهة نقاشاً قديماً جديداً ضمن المجتمع حول الأندية وارتباطها بالنظام، الرياضة التي نسيناها سنوات، وعادت فجأةً إلى الذاكرة مع اقتراب هبوط النادي. النقاشات التي دارت بين المهجرين والنازحين داخلياً وبين من بقي في حمص، لم تخلو من التشنج. وكان طرفها الأول أصحاب الأمل، الذين اقتصر موقفهم على حنين سابق مع التأكيد أن الذاكرة لم تنسَ ولن تنسى. أما الطرف الثاني، قد استعاد أسماء الكثير من شهداء المدرجات لإثبات أحقية موقفه الرافض لدعم النادي.

لم يكن حضور المباريات كبيراً في الملاعب كما يلاحظ خلال السنتين التاليتين لعام 2017، إلا أن سيطرة النظام على أجزاء كبيرة من سوريا واستقرارها النسبي عسكرياً خلال هذه الفترة، زاد من وتيرة الحضور الجماهيري في الملاعب، لتعود النقاشات حول الأمر ذاته، وتحديداً من طرف المهجرين والنازحين عن المدينة. تنوعت الآراء بين مَنْ تحدث عن أحقية من بقي في حمص بحضور المباريات؛ كون النادي أقدم من النظام نفسه، وهو جزء من هوية المدينة التي يجب الحفاظ عليها. في حين اعتبر قسمٌ آخر جميع الذين يحضرون المباريات قد نسوا ما حصل، وأن الدماء التي أريقت في حمص كافيةٌ لاتخاذ موقف من نادٍ يتحكم به النظام وأزلامه.

واتخذ هذا النقاش أبعاداً أخرى منتصف الشهر السابع من العام الجاري، بعد حصول النادي على أول دوري لكرة السلة في تاريخه، وسط حضور كبير لأهالي حمص في صالة كرة السلة، واحتفالاتهم التي لم تهدأ في حمص حتى الصباح، وضجت بها جميع وسائل التواصل الاجتماعي عبر خدمة البث المباشر. كما شهد الحصول على لقب البطولة تفاعلاً واضحاً وغير مسبوق من الكثير من المهجرين عن المدينة الذين حضروا المباريات النهائية للفريق، ما شكل ردة فعل حادة عند من يرفض بشكل قاطع التفاعل مع أي حدث يتعلق بالنادي.

إلا أن هذه المباراة تحديداً قد أوجدت أيضاً طرفاً ثالثاً يعيش شعوراً متناقضاً تجاه نادي الكرامة منذ سنة 2011، بين اللامبالاة بالرياضة المحلية في هذا الوقت أمام كل ما حصل وما زال يحصل، وبين حنين جارف وحارق لنادٍ له جمهورٌ بعيدٌ ولكنه يتذكره دائماً، وبأن هذا النادي ملكٌ لجمهوره بغض النظر عن الطرف المتحكم به، وبأن أهالي حمص، خصوصاً من هم في الداخل، يستحقون الفرح في زحام الحزن والهم والعجز من تغيير الواقع الذي يعيشونه، وأن الواجب يقتضي أن نفرح لفرحهم، وأنهم هم – جمهور الكرامة الذي بقي في حمص – وحدهم القادرون على الحفاظ على النادي، وعلينا نحن أن نحافظ عليه في الذاكرة وتمرينها على عدم نسيان أي تفصيل يتعلق به، واعتبار ذلك مهمة واجبة لكون النادي جزءٌ من هوية مدينة وأناس لم يعودوا موجودين فيها، والحفاظ عليه يعني الحفاظ عليهم، الحفاظ على ذكريات أساطير النادي؛ الجمهور الذي اغتيل شبابه من أجل الكرامة الحقيقية.