في تاريخ 23 آب 2021، نشر موقع الجمهورية مقالةً بعنوان «حين الحال يُكذِّب المقال» لياسين الحاج صالح، كرّسها لنقد تناوليّ إيّاه في غير مكان. وهذه بعض التوضيحات أضعها، في هذا الشأن، بين أيدي القرّاء والمهتمين الذين قرأوا مقالة ياسين، مطالباً أن تُنشر في الموقع ذاته وبالشكل ذاته وعلى نحو يتيح ظهورها حيثما تظهر المقالة التي توضحها وتردّ عليها، كما تقتضي أصول النشر وأخلاقياته.
1- لطالما تغنّى أتباعٌ لياسين بأنّه مترفّع عن الردّ عليَّ وعلى سواي ممن يتناولونه. وهو يقول في مقالته إنّه تجنب الردّ على مرّاتِ شتمٍ وتسفيهٍ مارستُها حياله «لا تقل عن خمسين خلال عشر سنوات»، كي لا يشارك في «تسميم الجو العام»، وكي يترفّع عن «مجاراة سَبّاب رقيع».
حسنٌ، لا يورد ياسين في مقالته أيّ شتم أو تسفيه مما يشير إليه، وأتحدّاه أن يورد أيّ مقالة لي منشورة في موقع فيها أيّ شيء مما يزعمه. والأهمّ من ذلك بكثير إنني، وكثيرين ممن قرأوا المقالة، لا نصدّق زعم ياسين أنّه تجنّب الردّ للأسباب التي يذكرها. القصة وما فيها أنّ مقالةً لي عن اليسار السوري في العقد الماضي نُشرت مؤخّراً في موقع جدليّة أثارت حفيظة ياسين، وذلك بالضبط لأنّها ستكون متاحةً في ذلك الموقع لمعقلٍ لعلّه آخر معاقل ياسين ورهطه، أقصد الخارج، ولا سيما اليساريين والليبراليين والممولين الأجانب والعرب الذين هو بأمسّ الحاجة إليهم وإلى إبقائهم في جهل له ولاتجاهه وسياساته وتحالفاته، بعد أن كشف تطور الأمور تهافت تلك السياسات والتحالفات وأصحابها. ومن يتابع كتابات ياسين الأخيرة سيرى بيسر أنّها مكرَّسة لمهاجمة الإسلام السياسي التكفيري والطائفي الذي كان بجناحيه السياسي والمسلَّح حليف ياسين وأضرابه ومحلّ مديحهم ودفاعهم وصمتهم حتى البارحة.
2- في شأن القضية الأساسية التي تردّ عليها مقالة ياسين، أي ما يدعوه اتهامي له ولأشباهه بـ«تبرير الإرهاب التكفيري»، أقول إنَّ ما أتهمهم به لا يتوقّف في الحقيقة عند «التبرير»، بل يتعدّاه إلى «التحالف» مع الإرهاب التفكيري من موقع التابع الهزيل. ولن أقدّم دليلاً على هذا التحالف سوى تفنيد مقالته ذاتها لاتهامي، إذا ما استطاع القرّاء أن يخوضوا إلى النهاية ركاكة ذلك التفنيد وتهافته وإدانته لذاته وإثباته ما حاول أن ينفيه. أمّا الذين ينفرون من خوض غمار تلك الركاكة، فإليهم ما يقوله ياسين في 27 تشرين الثاني 2013:
«قبل عام كان زخم التحرير يبلغ ذروته في مناطق دمشق (الضواحي الجنوبية والغوطة الشرقية والغربية…)، ثم يتوقف بطريقة غير مفهومة لا تزال خباياها غير معروفة. اليوم كأنما يستعاد بعض هذا الزخم في شروط أصعب على كل المستويات. مقاتلو الغوطة يسترجعون اليوم العتيبة، وقبله مواقع عديدة فقدوها في الشهور الأخيرة. أهدرنا عاماً كاملاً، ما كان يجب إهداره بأية حال».
يوضح هذا القول إنَّ ياسين «شريك الدم» لمن يدعوهم مقاتلي الغوطة الذين لا يجهل أيّ سوري مَنْ هم ومن رأس حربتهم ومن الذي مولّهم وكيف كانوا وسلاحهم قارب نجاة النظام. غير أنّه، والحقّ يُقال «شريك دم مُضحك»، بتلك الـ«نا» الدالّة على الجماعة التي يستخدمها (أهدرنا… !) وفعل الأمر الذي يصدره كجنرال (ما كان يجب…!)، ليكتشف بعد رفّة جفن أنّ حلفاءه «في مناطق دمشق»، كما يدعوها، لا يتورعون عن تلقينه ما يُفترَض أن يكون أسوأ دروس حياته رغم خلافه «الثانوي» معهم والذي كان يُفترض أن «يُحَلّ بالسياسة»، كما قال عن خلافه مع «النصرة».
هكذا، لا يكون الخلاف بين ياسين الحاج صالح ومتزعّم «جيش الإسلام» زهران علوش في الأصل خلافاً بين نقيضين ولا حتى بين مختلفَين على المسائل الأساسية، بل خلاف بين حليفين، أو رفيقين في تحالف واحد. وما اضطرار ياسين وأمثاله ممن أدعوهم «يسار النصرة» اليوم إلى نقد هذا الضرب من الإسلام السياسي – بعد تكشّف الجريمة السياسية الكبرى التي ارتكبوها بتحالفهم معه، ومشاركتهم تالياً وبهذا المعنى في الجريمة الشخصية التي ارتكبت بحقّ النشطاء الأربعة في دوما وبينهم زوجة ياسين – سوى اضطرار لأن يتنصّلوا، ويمحوا ما لا يُمحى من آثار تحالفهم المشين والمجرم معه، الأمر الذي يفرضه، علاوة على التبرّؤ من إثم الجريمة، إرضاء الممولين الغربيين ورفاق اليسار الليبرالي الغربيين ممن لديهم نفاذ إلى خدمات كثيرة يمكن أن يوفّروها لياسين وأشباهه.
3- ينتمي ياسين لتيار سياسي وفكري أدعوه «مقبرة الأمل»، لطالما سارع برعونته وجهله إلى المساهمة (مع النظام وبعده) في اجتثاث كلّ بذرة أمل تبدأ بالتبرعم في سورية، ليعود بعد ذلك إلى التنصّل من أخطائه وجرائمه السياسية، كأنَّ شيئاً لم يكن. آخر التّحف على هذا الصعيد دروس جورج صبرا يوم 16 آب 2021 عن الانسحاب الأميركي من أفغانستان:
«الدرس الأفغاني الجديد شديد البلاغة للذين بنوا وجودهم واستراتيجية عملهم على قوة الأجنبي على أرضهم وفي بلدهم، والعمل بظل إرادته. الدرس ليس جديداً بالطبع، فهو من الحقائق الوجودية للبشر والعلاقات. ومن يتلحف بعباءة الآخرين بردان مهما استطالت المدة، وراودته أوهام الدفء» .
كأنَّ جورج صبرا لم يطلب التدخّل الأميركي وسواه طوال العقد الماضي. وكأنه ليس من رأى أنّ دخول دبابات تركية إلى الأراضي السورية «خطوة إيجابية في محاربة الإرهاب والمشاريع التقسيمية على بلدنا سورية»….
قبله كان رياض الترك، بعد مغادرته سورية، وفي مقابلة في أوائل نيسان 2020 على بي بي سي العربية، قد أتحفنا، في معرض الكلام على أخطاء معارضته في التحالف مع الإخوان المسلمين، بالقول: «لم يلتزموا تماماً [يقصد الإخوان] بتوجّهات الثورة الديمقراطية الشعبية [كذا]» ولجأوا «إلى العنف». كأنَّ الإخوان من ملتزمي «الثورة الديمقراطية الشعبية» منذ نعومة أظفارهم، وكأنّ الترك لم يسمع قطّ رفيقه جورج صبرا، حين كان رئيساً للمجلس الوطني وهو يصرخ: «نريد سلاحاً» مكرراً ذلك ثلاث مرات.
يمكن سوق أمثلة من هذا النوع إلى ما لا نهاية، لكن الذي يهمّني هنا ليس ذلك، بل التقديم لتبياني تهافت اتهام ياسين لي بأنني «معارض للمعارضة والثورة». وهذه التهمة هي من نوع «الخزعبلات» التي يسهل تبديدها على أيّ طالب في المرحلة الابتدائية، ما إن يزيل «أل التعريف» من كلمتي «المعارضة» و«الثورة» في عبارة ياسين ويشكك في اعتباره أنّه وتياره هم «الـمعارضة والــثورة»، فتصبح العبارة «معارض لمعارضة وثورة»، أنا معارضٌ لهما بالفعل حتى آخر نفس، هما معارضة ياسين وأضرابه الذين سبقت الإشارة إليهم.
ليست معارضة ياسين سوى نوع بعينه من المعارضة أرسله الله هدية للنظام تنقذه كلّما تمأزق وتساهم معه في وأد بذور الأمل في مهدها. وليست ثورة ياسين سوى ثورة بعينها، هي في الحقيقة «ثورة مضادة» قادها (بعد انطلاقتها الشعبية العفوية في الشهرين الأولين) أردأ إسلام سياسي مسلّح وبعض مطياته وصنائعه المتلبرلين أصحاب السوابق «اليسارية» ممن يعانون «اضطراب الوجهة» و«اختلال الهوية». أمّا أنا فلي معارضتي وثورتي المغايرة. معارضتي هي المعارضة اليسارية الوطنية الديمقراطية التي غادرها وغدر بها تيّار ياسين، معارضتي هي معارضة عبد العزيز الخيّر وأحمد فايز الفواز ومحمود جديد وحسين العودات ويوسف عبدلكي وآلاف من أمثالهم. وبذلك يغدو اتهامي بأنني «معارض للمعارضة» نوعاً من الكذب الرخيص ليس غير.
4- ليس اتّهامي بـ«الصمت» عن النظام – بعد إجراء ما يلزم من فحص ثوري لدى «حكيم الثورة» الذي يتوهّم أنّه مؤهَّل لأن يطلق أحكامه علينا ويمنحنا هوياتنا – سوى محض افتراء مُغْثٍ كاتهامي بـ«معارضة المعارضة»، ذلك أنني بيّنت في كتابتي مئات المرّات أنَّ النظام علّة العلل وأنَّ بنيته التي حاولت أن أشرّحها مرّات جعلته جاهزاً لارتكاب أيّ شيء، وأنّ مشكلتنا مع المعارضة، لا سيما الياسينية منها، ليست أنّها سبب ما جرى بل أنها تتبّوأ مكان المعارضة من دون أن تكون منطويةً على حلّ. وبيّنت، تالياً، أنَّ الفشل في ما كان يلزم من النقض (أكثر من النقد) تجاه النظام لم يكن بسبب قمعه الوحشي وحده، بل بسبب نخبةٍ منها ياسين احتاجها شعبها فأخذته إلى مزيد من الكارثة. ولطالما اشتبهت في أنَّ «الردح» ضد النظام قد يخفي افتقاراً لفهمه ولحسم الموقف منه، وقد يخفي أخطاءً وجرائم لدى «الرادح» من نوع أخطاء النظام وجرائمه. ورأيت، تالياً، أنَّ نقد المعارضة الياسينية ضروري أشدّ الضرورة لأنها لا تزال تعتبر نفسها «الـ» معارضة، ولأنّ من الضروري وضع حدّ نظري وسياسي لـ«مقبرة الأمل» التي تمثّلها.
5- المُضحك، أخيراً، هو وضع ياسين لي على سرير التحليل النفسي ليمارس من الضرب تحت الحزام وتهويل التّهم ما لا يمارسه أي محلِّل عارف و/أو نزيه. فما يزعمه لدي من «معارضة المعارضة» و«الصمت حيال النظام» علّته، كما يفتري، أنني «جلّاد رمزي» سيجفّ قلمه ويصمت بزوال النظام. وهذا لا يستحق التفنيد بالطبع، بل يستحق الشفقة. لكنني أذكّر ياسين، بالمناسبة، أنَّ صمته المطبق عن عبد العزيز الخيّر، شأن صمته المطبق في كتابه بالخلاص يا شباب: 16 عاماً في السجون السورية، عن مازن شمسين، معتقل حزب العمل الشيوعي الذي كان يتلقى التعذيب عنه وعن سواه، شأن ضروب أخرى عديدة من الصمت ليس الآن أوان فضّها، لم يدفعنا إلى تحليله نفسياً ولا إلى اتهامه بمعارضة المعارضة، مع أنّ الأمرين ممكنان، بمقدار من الحقّ والسداد يفوقان بما لا يُقاس ما وجدنا لديه.
إن كنتُ جلّاداً رمزياً، وهذه لا يقولها سويّ، فنحن مع ياسين أمام شريك دم فعليّ لا رمزيّ، يدهشك مقدار ثقته العَرْطَل بنفسه، كما يدهشك مقدار أنانيته الشخصية وافتقاره إلى أدنى درجات نقد الذات نقداً جوهرياً، حتى بعد كلّ الذي جرى. وما أرجوه، رغم كلّ شيء، ألّا يكون السبب في هذين الأمرين ما قاله أحد الأصدقاء معلِّقاً على مقالة ياسين من أنّه كان لـ«يشنق نفسه» لو فعل.