في أحد التمرينات التي أجريها مع ابنتي على القراءة، اكتشفت أنها تسكّن الحرف السابق على التاء المربوطة، متجاهلة وجودها هي نفسها، فما كان مني إلا أن أخبرتها أن التاء المربوطة تنصب ما وراءها دائماً، ولكن نظرة حائرة في عينيها نبّهتني أنها لم تفهم معنى «الوراء» في جملتي، ومعها حق، كما اعترفت لنفسي في اللحظات التالية، إذ يمكن للـ«ما وراء» أن يكون الحرف التالي كذلك، الحرف الذي يتبع الحرف، لا كما قصدت أنا؛ الحرف السابق له.
أزعم أن هذه الحيرة كانت من نصيب كثير من البشر في أزمنة مختلفة، وقد كتبت سابقاً منشوراً، أسمح لنفسي بتطوير بعض أفكاره هنا، عن كلمة قَدَم، وهي في العربية كفّ الرِجْل، ويُشتق منها «قادم» و«قديم» على حد سواء، ما راح وما سيأتي، أما الفعل منها في العبرية فيعني سبق وتفوق، ويُشتق منه ظرف الزمان قودِم أي «سابقاً»، كما يُشتق ظرف المكان قديما أي «إلى الأمام»، كما في حزب كاديما الصهيوني الذي أسسه آرييل شارون.
شرحت يومها قصدي لابنتي بأن ما قبل التاء المربوطة يكون منصوباً دائماً، ولكن هذا لم يكفِ لحل المعضلة، إذ سأنتبه في الأيام التالية لاحتواء جذر ق-ب-ل على نفس الخلط الذي يحويه جذر ق-د-م؛ هو أيضاً يشير للماضي، كما في تعبير «من قبل»، ويشير للأمام، كما في كلمة «قبال». خلاط هائل يمور بالزمكان في جذري ق-د-م وق-ب-ل، كأن العالم في سباق منذ بدء الخليقة، والفائز فيه من يصل إلى الأمام أولاً، قبل الآخرين وأقدم منهم.
* * * * *
يتساءل الشاعر محمد القصاص على لسان حميد الشاعري: أعرف منين إن الغرب غرب / وإن الشرق شرق؟ / أعرف منين الفرق / وأنا الغريب في البداية / وأنا الغريب في النهاية؟
,
صحيح أن الشمس، بغروبها وشروقها، قد ترد على سؤال حميد، ولكنها لا تحضر للأسف سوى لنصف يوم، وهي حارقة ومجهِدة ومؤذية للعين، كما أنه لم يعد بمقدورنا، نحن أبناء المدن، متابعة مواقع الظلال على الأسطح المختلفة، وبالتالي فغالباً ما نلجأ لحيل أخرى لتحديد الاتجاهات. يفعل هذا أبناء سواحل الشام مثلاً، فيما أخمّن، حين يحدّدون مواقعهم بدءاً من الغرب الذي يقع فيه البحر المتوسط، كما أفعل أنا هذا كقاهري، يمر النيل غرب مدينته فاصلاً إياها عن الجيزة بأهراماتها، وقد عرفت سابقاً أن الفراعنة، الذين ربطوا الموت بغروب الشمس، قد دفنوا فيها موتاهم.
فضلاً عن هذا، ولزيادة التعقيد، فأنا لا أتخيل النيل إلا على يميني، ربما لكون الطريق الذي اعتدتُ سلكه بجانبه، من ميدان التحرير شمالاً وحتى مصر القديمة جنوباً، لا يحوي سوى اتجاه مروري واحد، ويتوجّب على الراغبين في الاتجاه المعاكس قطع شارع قصر العيني الذي لا يرى النهر.
تمشي السيارات لجانب النيل بخرائط مقلوبة، الغرب يمينها والشرق يسارها، على غرار ما رُسمت الخرائط قديماً، الجنوب بالأعلى والشمال بالأسفل.
لا أستبعد أن تكون أسباب عبثية كهذه هي ما وقفت وراء صياغة كلمة «شَمال» كنقيض للجنوب، إذ قد يكون أحدهم فتح خريطة ببساطة، ورأى الجنوب فيها على يمينه، فسُمّي الاتجاه المقابل، القريب ليده اليسرى، بالـ«شَمال».
يشبه الأمر، مع بعض المبالغة، أن يُسمَّى حي سكني باسم «هُنا»، فقط لأن أحدهم سُئل أين يقف الآن فقال إنه يقف «هنا».
الاعتباط سيد الموقف فيما يتعلّق بالاتجاهات. قبل أن تشير كلمة قديما العبرية إلى الأمام، كانت تشير إلى الشرق، ما يدل على أن مجموعة كاملة من البشر، وفي ملابسات لا يعرفها أحد، رأت الشرق يقع أمامها. والاعتباط سيد الموقف لأن تسمية أحزاب اليمين واليسار جاءت بالأصل من صدفة قديمة، جلس فيها المعارضون على يسار البرلمان الفرنسي وجلس المؤيدون على يمينه. ثم إن الاعتباط سيد الموقف لأن اليمين، وإن كان يشير في لغات كثيرة إلى الحق والصواب، إلا أن اليسار لم يعدم نصيبه من المجاملة كذلك، فاشتُقَّ اسمه من اليُسر، أي السهولة في العربية والاستقامة والمباشرة في العبرية، في تسمية قد تكون انطلقت من سهل منبسط يقع بالصدفة على شِمال قبيلة مهيمنة لا يذكرها أحد الآن.
* * * * *
نادراً ما يخلط أحد بين الشِمال والشَمال. يتفادى كثير من العرب الخلط عبر استخدام «يسار» بدلاً من «شِمال»، ونتفاداه نحن في مصر عبر استخدام «بحري» بدلاً من «شَمال».
بحري وقبلي: هكذا يوصف الشمالي والجنوبي في مصر وليبيا وتونس والجزائر، وتخبرنا المعاجم أن كلمة قِبلي – أي جنوبي – منسوبة للقِبلة في مكة، وقد يصدق هذا على البلاد الواقعة شمال السعودية، أما شيوع الكلمة في شمال أفريقيا فقد ظل غير مفهوم لديّ، حتى سألت الكاتب الجزائري صلاح باديس عن معنى الكلمة في بلده، فلفت انتباهي لفيلم قبلة لطارق تقية والمترجَم إلى Inland، إذ ربما، كما يحدس، يأخذ القِبلي معنى الداخل أيضاً.
أفترض أن المعنى الأبسط لـ«قبل» يشير للاستقبال، ربما بطبع القبلات على خدود بعضنا، ومنه بالتأكيد جاءت {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبلَةً تَرضَاهَا}، ومنه أيضاً جاءت «قُبَال» المصرية بمعنى الأمام، وفي العبرية يعني فعل «قَبَل» شكا أو تظلّم، كأن اثنين يقفان قبالة بعض ويعاتب أحدهما الآخر. كأن ما هو أمامك هو مرآة لك، بكل الخلط الذي تقدّمه المرآة بين اليمين واليسار.
المقبل إليك هو مدبر عن غيرك، والمدبر عنك مقبل إلى غيرك. أعزّي نفسي بأني في طريقي المشار إليه بحذاء النيل، من الشمال للجنوب، وإن لم أنسجم مع تصورات الخريطة الحديثة، فأنا أنسجم على الأقل مع التصور اللغوي في لهجتي: ما هو قِبلي يقع قبالي.
يلتفت الروائي المصري إبراهيم عبد المجيد إلى الاهتمام الحالي بتسجيل حكايات الخروج من الوطن، فيما كانت الملاحم تُكتب سابقاً عن رحلة العودة إليه، وأتفق معه كثيراً في ملاحظته، حيث تتفنّن الأفلام والروايات الآن في وصف الجالسين بجنوب المتوسط، رانين بأعينهم للشمال حيث أوروبا التي يحلمون بالهجرة إليها، وهذا فيما يبدو في مقابل أجدادهم الذين رأوا رحلة مشابهة ولكن في المسار المعاكس، رحلة تبدأ بالبحر أيضاً، ولكن فقط بإدارة الظهر إليه والإيغال إلى الأمام، في أعماق أرض أفريقيا جنوباً.