لا يقبل النظام السوري من محكوميه شيئاً أقلّ من الخضوع التام لمخابراته، فمؤسسات الدولة التي يريد النظام عودتها إلى كل مكان من سوريا ليست سوى عناصر الأجهزة الأمنية، الذين كان إصرار النظام على انتشارهم في درعا البلد، وتفتيش كل بيت فيها، عقدةً رئيسية في المفاوضات طوال أسابيع. غير أن النظام وافقَ قبل يومين على أقلّ من هذا، إذ إن الاتفاق الذي تم إبرامه برعاية روسية في درعا البلد يسمح بدخول عناصر المخابرات، إنما مع قيود تحدّ من حركتهم. تُخبرنا التجارب السابقة أن النظام سيحاول التنصّل من الاتفاق، أو نسفه أو تعديل بنوده، في أول فرصة سانحة.

يريد النظام تسليم كل الأسلحة الفردية في درعا البلد، وأن ينتشر عناصر المخابرات فيها بعد ذلك كي يستطيعوا ممارسة «سلطة الدولة». وتعني سلطة الدولة على الطريقة الأسدية أن يستطيع عناصر المخابرات اعتقال وتعذيب وقتل أي شخص، دون الخضوع لأي رقابة من أي جهة ثالثة أو جهاز قضائي أو سلطة تشريعية أو مؤسسات إعلامية، ودون أن يكون في حوزة الضحايا ما يدافعون به عن أنفسهم. هذه القدرة المطلقة للمخابرات هي روح الأسدية وعقلها، ولهذا بالتحديد فإن الوضع في محافظة درعا يسبب لأجهزة النظام الأمنية كثيراً من الضيق.

فهذه مناطقُ يُفترض أنها عادت إلى «سلطة الدولة» باتفاق تسوية عام 2018، غير أنه ما يزال فيها من يحملون سلاحاً خفيفاً دون أن يكونوا منضوين في تشكيلات النظام أو تشكيلات حلفائه الأمنية والعسكرية، ولا يزال فيها من يستطيعون الاحتجاج على النظام علناً ثم العودة إلى بيوتهم دون أن تطالهم أيدي النظام؛ هذا وضع لا يطاق بالنسبة لمخابرات الأسد، وينبغي إنهاؤه بأي ثمن.

كان اتفاق التسوية المضمون روسياً ينص في أحد بنوده على أن مخابرات النظام لن تدخل إلى مناطق التسويات، وكان واضحاً وقتها أن النظام وافق مضطراً على هذا الاتفاق، وهو ما أثبتته مبكراً جداً عشرات الخروقات التي نفّذها النظام، وأبرزها اعتقال أشخاص بعد إجراء تسويات، وتصفية بعضهم في مراكز الاعتقال. يلتقي هذا مع رغبة إيران القوية بتعزيز وجودها في الجنوب السوري، وهو ما ظهر واضحاً من خلال قوات الغيث المدعومة إيرانياً، التابعة للفرقة الرابعة في جيش النظام ورأس حربة هجومه الأخير على درعا البلد.

ما يسعى إليه النظام اليوم هو إعادة صياغة الاتفاق في حوران بدءاً من درعا البلد، بحيث يصير مسموحاً لمخابرات النظام أن تصل إلى أي مكان، وهو ما يقاومه كثيرون من أبناء درعا بالاحتجاجات والسلاح، ويرفضونه مُمثَّلين بأعضاء لجان التفاوض المركزية، التي بذلت كل جهد تستطيعه لتجنّب المواجهة العسكرية، بما في ذلك القبول بدخول القوات الروسية بمرافقة عناصر اللواء الثامن إلى درعا البلد، وتسليم كميات من الأسلحة الخفيفة، وتهجير من لا يقبلون التسوية.

لكن هذا لم يكن نافعاً. لا يقبل بشار الأسد بعناصر اللواء الثامن بديلاً عن مخابراته، فهؤلاء مقاتلون من أبناء حوران، يتبعون اليوم رسمياً للفيلق الخامس في الجيش النظامي ويخضعون للسيطرة الروسية، غير أن ولاءهم ليس له، وقد هتف بعضهم ضده قبل نحو عام من الآن. هذا نذير شؤم على مقاتلي اللواء الثامن وسكّان مناطق سيطرته في بصرى الشام ومحيطها، إذ إن بينهم أشخاصاً هتفوا ضد بشار الأسد ولم تصل إليهم مخابراته؛ ترى هل يستطيع النظام احتمال هذا طويلاً؟

قد يستسهل كثيرون الإجابة على السؤال الأخير بالقول إن عناصر اللواء الثامن، خلافاً لمقاتلي درعا البلد ومناطق غيرها في حوران، محميون روسياً بحيث لن يجرؤ النظام على الاقتراب منهم. ليست هذه الإجابة مقنعة، وتشهد على ذلك أحداث درعا البلد الأخيرة. كان المحامي عدنان المسالمة، الناطق باسم لجنة التفاوض عن درعا البلد، قد قال في تصريح له يوم التاسع والعشرين من آب (أغسطس) الماضي إن النظام يرفض التجاوب مع الطروحات الروسية.

قبلها بأيام، في الرابع والعشرين من آب نفسه، انسحبت دورية روسية من درعا البلد بعد دخولها إليها، وبدا الأمر كما لو أنه فشل للمساعي الروسية. وقد جرى الحديث وقتها عن اتفاق يشمل تهجير رافضي التسوية إلى الشمال بمن فيهم عشرة أشخاص يشترط النظام تهجيرهم بالاسم، ودخول شرطة النظام وعناصر من اللواء الثامن والشرطة العسكرية الروسية دون عناصر المخابرات. خلال ساعات قليلة تم تمزيق الاتفاق برصاص النظام ومدفعيته، وأعقب ذلك تصعيد بالصواريخ ومحاولات الاقتحام. قال النظام وقتها إن سبب انهيار الاتفاق هو خروج ثمانية فقط من المقاتلين العشرة المطلوب خروجهم. وطبعاً، لا يمكن أن يكون رفض شخصين للتهجير سبباً جدياً لقصف منطقة يقطنها آلاف المدنيين بالصواريخ، وخوض مواجهة عسكرية يخسر الطرفان فيها كثيراً من الأرواح. كانت تلك مجرّد ذريعة، وهو ما تؤكده عودة النظام بعدها فوراً إلى شروطه القديمة نفسها، وأبرزها دخول مخابراته والسماح لها بتفتيش كل متر من درعا البلد دون أي مقاومة.

ثمة احتمالان هنا: إما أن روسيا متفقة مع النظام وإيران على مسرحية يتقاسمون فيها الأدوار، أو أن روسيا لا تستطيع فرض إرادتها على النظام وإيران بسهولة. يبدو صعباً ترجيح واحد من الاحتمالين بشكل حاسم، لكن المؤكد أن الضمانة الروسية ليست موثوقة، وأن المسألة لا تتعلق في جوهرها بوجود مسلحين بعينهم، بل تتعلق بالأنشطة الاحتجاجية التي تحتضنها مناطق يحميها مسلحون قادرون على التصدي لدوريات النظام الأمنية، ومنها دون شك المظاهرات الرافضة للانتخابات الرئاسية في درعا البلد في أيار (مايو) الماضي. قبل الاتفاق الأخير بأيام قليلة، قالت مصادر مقرّبة من لجان التفاوض إن النظام يشترط أن تُصدر لجنة درعا البلد بياناً تعترف فيه بعلم النظام وجيشه، وما هو أخطر، أن تعترف ببشار الأسد رئيساً شرعياً منتخباً لسوريا.

يعرف النظام سلفاً أن أعضاء اللجنة لا يستطيعون تقديم اعتراف كهذا، لأن فيه إذلالاً جماعياً لا يقوى أحد على حمل مسؤوليته. لم تكن هذه المطالب تهدف إلى شيء سوى دفع أبناء درعا البلد إلى واحد من ثلاثة خيارات: استئناف القتال في ظل تفاوت هائل في موازين القوة، أو التهجير، أو القبول بإهدار كرامتهم وتسليم أبنائهم لمخابرات بشار الأسد. وقد صمد المقاتلون من أبناء درعا في الميدان، وخاص المفاوضون جولات صعبة انتهت إلى اتفاق هشّ، انتزعَ فيه النظام مكسب إدخال بعض مخابراته إلى درعا البلد، وانتزع فيه أبناء درعا مطلب حماية حياتهم من الاستباحة المباشرة.

بعد نحو سبعين يوماً من الحصار، وأيام طويلة من القصف والاشتباكات، وعشرات القتلى والجرحى من المدنيين والمقاتلين، تم التوّصل إلى اتفاق يقضي بتثبيت أربع نقاط أمنية لمخابرات النظام فقط، دون أن يشمل ذلك تفتيش عناصر المخابرات للبيوت. شمل الاتفاق أيضاً وقف القصف وفك الحصار ودخول الشرطة العسكرية الروسية وافتتاح مركز للتسوية وتسليم بعض الأسلحة الخفيفة، والبدء في العمل على إطلاق سراح المعتقلين وكشف مصير المفقودين من أبناء درعا البلد بعد خمسة أيام من التوقيع. البند الأخير موجود في أغلب الاتفاقات التي تم توقيعها مع النظام، لكن الأخير لم يكن يلتزم به باستثناء إطلاق سراح أعداد قليلة من المعتقلين في بعض الحالات. مثلاً، بالتزامن مع معركة درعا البلد، نقلت صفحة تجمّع أحرار حوران أخباراً عن خروج أهالي بلدة قرفا في ريف درعا الأوسط إلى الشوارع، وذلك احتجاجاً على إخلال النظام بتعهداته بشأن كشف مصير معتقلين من أبناء البلدة. يبذل النظام قصارى جهده في تجنّب تقديم أي تنازلات تحت ضغط من محكوميه، حتى لو كانت كشفاً عن مصير أحبابهم، لأن في هذا مساساً بقدرته على الترويع والبطش.

الأسدية هي الاحتفاظ بقدرة غير محدودة على إيذاء من يعترضون عليها، هي التألّه على الناس مدعوماً بقوانين دولية وقوى إقليمية وعظمى. وهذا التألّه هو ما يقاومه كثيرون من أبناء حوران اليوم في درعا البلد وبلدات عديدة أخرى تشهد احتجاجات واشتباكات وقصفاً، وهو نفسه ما ثار عليه السوريون عام 2011، وهو ما لن يكون ممكناً تغيير الأوضاع في سوريا دون كسر دائرته الدموية.