كلص تسلل عبر جدار إسمنتي من القيظ، هب نسيم مباغت ومنعش إلى حديقة جروبي.

تلقف الزبائن انفراجة الحنان تلك بصمت جماعي، استمر لأقل من نصف دقيقة، مرتبكين في البداية من الانعتاق المفاجئ، وعندما عاد الكلام للسريان صار أكثر رقة، أقل احتداماً، لكنّهم احتاجوا وقتاً أطول كي يتجرأوا على ذكر ذلك التحول، كأنهم لو فعلوا لتنبه ملاك الجحيم إلى الخطأ، فبعد أيام طويلة من حر جاف وأعمى تغلفه رطوبة تكاد أن تخلع الأرواح، ظنوا أنهم يستحقون طقساً كسوط جلاد، كلعنة استوجبها خطأ ما ويليق بمذنبين.

وسط ما بدا أنه انسجام يعيد تشكيل العالم، حراً وحلواً كلعبة بلا عواقب، كأنّه يمنح الجميع وبلا استثناء فرصة ثانية، انشقت الحديقة عن صرخة كبوق مسعور، أفسدت كل وعود النسيم ولفته بضباب من العار. ما فُهم من مقاطع غامضة مغبشة، أنّ زبوناً يصرخ في نادل من أجل فنجان قهوة رديئة المذاق، بعد أن تأخر تقديمه لمدة ساعة.

كان الصارخ رجلاً متوسط القامة، نحيلاً ذا كرش تقليدي بارز، في بداية الأربعينات من عمره، يداري غزوَ الصلع لشعره بارتداء كاب، يتصرف مع النادل كأنّها معركة فاصلة في حياته، لا شيء يرضيه إلا انتصار ساحق، يخضع فيه النادل نهائياً، يجثو على ركبتيه ويطلب العفو، لكنّ شيئاً من هذا لم يحدث.

جابهه النادل، الذي يفوقه مرتين حجماً وطولاً، بعينين مستهزئتين، مما ضاعف من هياجه وصراخه. صار يتلفت إلى الزبائن بعينين يتسولان دعماً ما، ولما لم يجد إلا وجوهاً مستنكرة، وأخرى تدعي الحياد، ألقى يائساً بالحية الأخيرة في جعبته، خطبة طويلة يعظ ويوبخ فيها النادل، مستجدياً عبرها عطف الجمهور وتأييده في معركته، ناثراً كلمات «الجودة والإتقان، العمل والنظام، الفارق بيننا وبين الدول المتقدمة، ما ينقصنا لنكون متحضرين»، مؤمناً أن كلماته هي العصا التي ستلتهم كل الأفاعي وستحسم المعركة لصالحه.

كانت كل عضلة في جسده ترتجف، وعلى الرغم من أن الجالسين في حديقة جروبي، عجائز وشباباً أو حتى رجالاً وسيدات في منتصف العمر، لم يكن ليرضيهم في موقف كهذا إلا خضوع النادل، كما أنهم يؤمنون بفحوى خطبته وقد رددها معظمهم في عدة مناسبات، إلا أنّ شيئاً ما في طريقة الرجل جعلته أقرب إلى مهرج أو طفل غاضب انتُزعت منه لعبته.

جاء المدير، حاول تهدئة الصارخ وترضيته بمشروبات وحلوى على حساب المكان، لكن شيئاً ما كان قد أفلت من عقاله، فرفض الرجل العرض قائلاً: «الأمر أكبر من كوب قهوة، بل إقرار النظام والجودة كمعيار وعقد بين طرفين»، وأنه «يهينه بعرض كهذا». لاحظ الجالسون شيئاً من الندم في نبرة صوته ما إن نطق بكلماته الأخيرة. كان أمله في أن يفهمه المدير، كرجل ذي سلطة عقله أكبر من العامة، لذا حاول نفاقه بإلقاء عبء كلماته على النادل، لكن المدير قال بوضوح: «إذن ليس بإمكاني فعل شيء».

جال الرجل بنظره يائساً لمرة أخيرة بين الجمهور، ثم رفع بصراً زائغاً إلى السماء، تلك المرة أدرك أنه لم يُتخلَّ عنه من قبل رواد جروبي ومديره، بل من الله أيضاً.

مغتاظاً، عاجزاً، أمسك بكوب القهوة، لوهلة بدا أنّه سيقذفه تجاه المدير أو السماء، لكنه رماه في وجه النادل الذي تلطخ وجهه وقميصه، فأمسكه غاضباً من ياقته ثم انهال على الصارخ بلكمات متتالية طرحته أرضاً.

لم يقاوم، لم يستغث ولو بنظرة، استقبل الضربات كمن يؤمن باستحقاقه للعقاب، كأن الهدف من كل تلك الجَلَبة أن يستدعي أقصى درجات الإهانة. الفكرة الوحيدة التي كانت تهمه في تلك اللحظة هو أن يبحث عن الكاب الذي طار مع الضربات المتتالية. تجمع عدد من الزبائن حول الشجار وأحاطوه كسياج، فظل ينظر حوله في ذهول، باحثاً عن الكاب وثغرة للفرار، حفر الأرض بعينيه كخلد عله يجد منفذاً.

في تلك اللحظة تقدمت إليه يد بمنديل ليمسح الدماء التي تحيط بوجهه. كانت تلك اليد هي يدي، أنا إيفلينا عبد الرسول. إن كان هناك شيء مهم يجب أن تعرفه عني الآن هو أني أكره الصراخ – التافه منه – وإن كان لا بد من الصراخ، فعليه أن ينبع من هوة شيطانية تستدعي الأرواح إلى الجحيم، أن يصعد من حفرة بقاع القلب مكدسة بالجثث والأشباح والظلام، مسكوناً بالرعب الخالص، أن ينطلق من حنجرة مشنوقة بغضب هادر كالريح، مهمته الوحيدة أن يرج العالم دون ذرة أمل في إصلاحه، وقوده اليأس وعجز نهائي عن الفهم أو الحركة لخطوة واحدة إضافية.

رغم ذلك، رثيت لحال ذلك البائس الذي استعرض حماقته بثقة، كشأن الرجال جميعاً. ربما هي عادتي السيئة الوحيدة التي لم أتخلص منها. كنت أحتقره كشأن كل من شاهده وهو يعنف النادل، لكن ما إن كف عن المقاومة حتى اندفعت لأمد له يداً مُشفقة ونظرة عطوف تَمسَّك بها كحبل نجاة. لم أحتج سوى نظرة أخرى زاجرة كي يساعده النادل على النهوض ويعتذر له مع المدير. سُقته إلى الحمام ليغتسل، دون أن ينطق أحدنا بحرف. انتظرته حتى انتهى. كان التيه والإهانة غائمين في عينيه، فأشاح بوجهه عني خجلاً، منصرفاً إلى خارج الحديقة دون أن يوجه لي ولو كلمة شكر واحدة. لم أكترث لجحوده، تفهمت أنّه لم ينس أني كنت أحد شهود إذلاله.

عدت إلى طاولتي وقد اختفى النسيم وعاد القيظ كسجن شاهق ومحيط. واصلت التدرب على فكرتي الخيالية، الغرق في أحلام اليقظة بهدف طموح ويائس، أن أتمكن من تحريف الواقع.

لا أتذكر متى استحوذ على روحي هوس أخرق كهذا، إيمان بلا سند أن نجاحي في تحقيقه هو الطريقة الوحيدة للنجاة.

آتي إلى هنا مرة كل أسبوع، أجلس لثلاث أو أربع ساعات، أحدق في اللاشيء حتى تُطمس الصورة ويتلاشى الصوت، يختلط ما يحدث أمامي بما يحدث في عقلي حتى أغرق في حلم. أفشل في كل مرة في الحصول على واحد ذي سيقان مغروسة في الأرض، أقرب نجاح حظيت به هو تحريك كوب ماء لسنتميترات قليلة، لكني غير متأكدة إن كنت قد فعلتها حقاً أم اختلط علي الأمر. تلك المرة قررت أن أركز على تغيير الطقس، آمنت بكل ما أوتيت بقوة أني قادرة على استدعاء النسيم، كنت ما أزال داخل حلمي، أمتطي غيمة بعد أن سرقت من السماء الهواء المضنون به، عندما أسقطتني الصرخة من فوق غيمتي. كم كرهته حينها. لم أتأكد تلك المرة أيضاً إن كنت قد نجحت أم خاتلتني الصدفة.

حاولت الحصول على حلم يقظة جديد، لكن مزاجي كان قد فسد بالكامل. طلبت الحساب، ثم رأيت الصارخ وقد عاد، يحوم بنظرته الشاردة، بوجه محتقن ببلادة الغضب، كان يخفي بإهمال سكيناً داخل صفحة من جريدة ورقية ويبحث عن النادل، وقد تصلبت ملامحه كلها على فكرة واحدة يرى فيها نجاته: أن يَقتل.

أتخيله من الآن وهو يمتطي جثة ضحيته المضرّجة بالدماء ليستكمل عظته الكبرى عن الجودة والإتقان، في تناقض صارخ مع كونه خطيباً مملاً وقاتلاً غير محترف. أي روح ضالة تسكن ذلك الجسد المعطوب والشقي! لا يعتصم بالعظة في تلك السن إلا من خسر أوراق لعبه كلها أو ربحها جميعا، وقد أدرك الآن كنه حقيقته كخاسر.

هل يفعلها؟ لا يمكنني الحسم، من ناحية فإن حافة كوبه ترغي الآن بالحقد والجنون، لكن من ناحية أخرى فهذا رجل تنقصه الشجاعة وإلا لما ترددت خطوته في الإجهاز على النادل.

تعلق نظري بالسكين، شحذت تركيزي كله نحوها حتى نجحت أن أطويها داخل عيني المغمضة. تحركت باتجاهه دون أن أبالي بنظرات الغيلان الجائعة، بالشرطي القابع في كل عين، بخناجر الأرواح التي طالما أدمتني، ثم احتضنتُه، دفعني كالممسوس لكني تشبثت به بكل جوارحي، قال محرجا: ما الذي تفعلينه يا آنسة؟

ابتسمت رغماً عني. ينخدع الكثيرون في عمري وخبراتي، لأن قامتي وملامحي هما لفتاة لم تتخط السابعة عشر، رغم أني كسرت حاجز الثلاثين قبل عام. لم أتزوج، لكني قطعاً لست آنسة.

حاول إبعادي مجدداً، لكن ليس بالقوة الكافية تلك المرة، في النهاية ذاب واستسلم، لم يكن ما يحتاجه حقاً هو بن جيد، بل حضن جيد يدفعه إلى أن يحسم أمره بشجاعة.

أفقت على صراخ عظيم، شهقة جماعية ملتاعة، نابعة من هوة شيطانية، صاعدة من حفرة بقاع القلب، مسكونة بالرعب الخالص.

لقد نحر نفسه.

أسقطت السكين من عيني المضرجة بدماء خيالية، وبهدوء غادرت طاولتي التي لم أبارحها قط وسط عويل رواد الحديقة.

طلبت عربة لتُقلّني إلى المنزل، لكني قررت أن أتمشى ما إن استشعرت ذلك النسيم العليل وهو يدغدغ وجنتي بملمسه البارد.