افتحوا لي الطريق ومهّدوا لي الممرات
لتدخل روحي مطمئنة إلى بيت أوزير وتخرج في سلامٍ منه
لا يصدّها أحد أو يعوقها، تدخل ممجدة وتخرج محبوبةالتحيات لكم يا أرباب الأبدية، يا من خلقتم الزمن
لا تسرقوا مني قلبي هذا بأصابعكم تلك ولا تحجزوه هناك.من يقرأ هذا النص عظيم الطهر والقوة ينبغي عليه: ألا يدخل على امرأة ولا يأكل لحم الخنزير ولا السمك، ولا يملأ ماء التطهير في وعاء من الذهب، وأن يضع قلب المتوفى في وعاء، ويفتح الفم، ويدهن الجسد بالزيت والمر، ثم يرتل على رأسه هذه التعويذة
العفن، العفن، لن آكل الخراء، ولن ينزل على جسدي
أنا المحيط الأزلي ولن يسقطني الشر
أنا العظيم العتيق
أنا خالق الظلمة والذي وسع عرشه لحدود السماء
أنا رب السنين وسيد الخلود الأبديكل من يعرف هذا النص على الأرض سيخرج إلى النهار، ويتجول على الأرض بين الأحياء، ولن يسقط اسمه إلى الأبد.
تعود هذه الشذرات إلى آلاف السنوات الغابرة. نصوص كتبها كهنة الفراعنة كتعاويذ ترافق المتوفى في رحلته إلى مملكة العالم الآخر. تلك المملكة التي كان يعتقد بوجودها المصري القديم، لا بما هي عالم متعالٍ منفصل عن عالم الأحياء، بل بما هي عالم موازٍ له، عالم ليلي يبدأ مع غروب الشمس وأفولها، وينتهي مع الشروق الدائم، إلى الأبد. تلك التعاويذ مقتبسة من كتاب الخروج للنهار أو كتاب الموتى، المنقول من الهيروغليفية إلى العربية على يد المترجم والباحث المصري شريف الصيفي وبطبعة جديدة ومنقحة من دار تنمية وتوزيع خان الجنوب في برلين. يحكي الصيفي في مطلع كتابه لماذا اختار ترجمة الخروج «للنهار» بدلاً من «إلى النهار»: «قررت تغيير حرف الجر في الترجمة العربية ليتغير المعنى من كونه خروجاً في نهار يوم الدفن إلى الخروج للنهار، حيث الميلاد من جديد».
الخروج للنهار… كتاب الموتى
يشرح الكتاب في مدخله بنية المجتمع الفرعوني الريفي، وكيفية تقسيمه وشكل هرميته: «كانت علاقة الفلاح المصري بالثالوث المقدس (الأرض، الشمس، النيل) قوية، ورمى هذا الارتباط بظلاله القوية على كل مفردات حياته وما بعد الحياة وشكل مفاهيمه عن العالم». كان النيل في مرتبة المقدس في الثقافة الشعبية الفرعونية، هو ليس واحد من إعجازات الآلهة، بل هو إله بحد ذاته. لم يقدّس المصري القديم الموت كما توحي بعض الدراسات، بل إنه «لم يعترف بالموت كنهاية للحياة ونقيض لها، بل كجزء من صيرورتها، ورفض أن يكون الموت موتاً».
يقدم الكتاب مَسرداً تاريخياً عن اكتشاف كتاب الموتى على يد الحملة الفرنسية أولاً (1821)، وفك شامبليون رموز اللغة المصرية القديمة، ومن ثم ترقيم فصول الكتاب من قبل لبسيوس (1842). توالت الترجمات والأبحاث لاسيما واكتشاف «متون الأهرام في سقارة» (1881)، وزيادة الاهتمام ببحث العلاقة بين النصين. وما زالت الترجمات والأبحاث على هاتي النصوص حتى يومنا هذا. «تتكون النصوص من صلوات وابتهالات ومدائح وتعاويذ سحرية، ظهرت في عصور مختلفة، ووصلتنا مدونة على الجلود والأكفان والتوابيت وحوائط المقابر والمعابد وأوراق البردي». اختلفت أسماء هذه النصوص، بداية أطلقوا عليها اسم إنجيل المصريين، بينما الاسم الشائع حالياً هو كتاب الموتى، ولكن المترجم فضّل التسمية «التي أطلقها أجدادنا على هذه النصوص وهي (برت إم هرو) الخروج للنهار».
«لم يكن كتاب الخروج للنهار حكراً على المصريين. فقد رصدت حالات حمل فيها أسماء يونانية وكنعانية». ولكن في كل الحالات، لم تكن هذه النصوص المكتوبة على البرديات متاحة للعامة، بل هي حكر على علية القوم والتجار والأغنياء، وهذه النصوص – كما يشير المترجم – كانت بمثابة صكوك غفران يبيعها الكهنة للميسورين، وهناك نص من عصر الأسرة العشرين يشير إلى أن سعر البردية كان «نحو 90 غراماً من الفضة، أي ما يوازي سعر بقرتين، وهو مبلغ فاحش بتقديرات ذلك الزمان، لم يقدر عليه إلا علياء القوم من موظفي الدولة».
قبل الولوج إلى النصوص القديمة، يقدم المترجم كشافاً بأسماء الآلهة المذكورة والأماكن الجغرافية لمصر القديمة . يبدأ بالحديث عن آتوم وهو الرب الذي أخرج ذاته من المحيط الأزلي (نوم)، ويذكر الإله أنوبيس الذي عُد حارس المقابر له وجه ابن آوى أو كلب: «وكان كاهن التحنيط يرتدي قناعاً له هيئة وجه أنوبيس». وبالطبع يأتي الكتاب على الإله أوزير الذي لم تخلُ مدينة قديمة من ضريح له، والذي «يشبه في صفاته إلى حد كبير إله الخصوبة السوري أدونيس رب الخصوبة والخير». ويأتي الكتاب لاحقاً على ذكر إله العمال والفنانين بتاح، وهو «أقدم الآلهة التي صورها المصري على شاكلته، أي في صورة آدمية». كما يتوسع الكتاب في الحديث عن حورس ابن أوزير وإيزيس الإله الدائم الحضور في نصوص الموتى «كان تعبيراً عن وجه السماء، وعيناه القمر والشمس». يساعد هذا التعريف القارئ المعاصر على فهم دلالات النص القديم، ومعانيه. أما الأماكن، الحقيقية أو الميتافيزيقية المذكورة في النصوص، فيُفرد لها فهرساً واسعاً، يحدد فيه المكان ودلالته في الثقافة المصرية القديمة، من ذلك، مفهوم الاتجاهات عند المصري القديم، إذ لم تكن بالتقسيم المعروف بل «كان يولي وجهه شطر الجنوب، حيث منبع النيل لتحديد الاتجاهات، فيصبح الشرق مرادفاً لليسار، والغرب مرادفاً لليمين، حيث مدينة الأموات (مكان الحق)».
أسطورة الخلق المصرية وطقوسها الجنائزية
تختلف نظرية نشوء الكون عند الفراعنة عن ما كانت عليه عند شعوب قديمة كالإغريق. فالفراعنة كانوا يرون أن «الكون لم يُخلق من عدم، بل من مادة نشطة أبدية». يبحث الكتاب بداية في مسألة بداية الخلق في المثيولوجيا الفرعونية. كيف بدأ الخلق؟ ومتى هي لحظة البداية؟ وكيف حدثت؟ «في هليوبوليس كان التصور بأن الإله الخالق آتوم أوجد نفسه بنفسه من العدم. يشير اسم آتوم إلى اللاشيء وكل شيء. بالاستمناء باليد يخلق الخلاء والفراغ (شو)، وبالبصق (تف) خلق النداوة والرطوبة (تفنوت).
لفهم الخلفية المفهومية للموت عند الفراعنة، لا بد من الاطلاع على الحكاية الفرعونية الأشهر، حكاية أوزير وإيزيس، إذ «ظلت أسطورة موت أوزير وبعثه – لأكثر من ثلاثة آلاف عام – الخلفية الدافعة لاستمرار طقوس الدفن». وتحكي الحكاية أن ربة السماء نوت كان لها خمسة أبناء من الآلهة، الإخوة أوزير وست وأبولو، والأختان إيزيس ونفتيس. تزوج أوزير من إيزيس وأنجبا حورس، لكن بعد ذلك افترى ست على أوزير وقتله وقطع جسده ووضع كل قطعة منه في مكان من أقاليم مصر، ورمى بعضوه الذكري في النيل، حيث أكله السمك. «وتصنع إيزيس لزوجها عضواً ذكرياً جديداً بقدرتها السحرية، وهنا صار هذا القضيب رمزاً للخصوبة والتجدد، وتتحول إلى طائر سنونو وتحبَل منه». لم ينته الصراع بموت أوزير بل انتقل إلى حورس، وتروي الأسطورة أن لحم الخنزير كان محرماً عند الفراعنة لأن ست تمثل بهيئة خنزير بري حينما تصارع مع حورس وفقأ عينيه.
لم تكن الطقوس الجنائزية واحدة في كل الحضارة الفرعونية، بل اختلفت حسب الزمن وحسب الأسرة الحاكمة. لم يكن هناك تحنيط ومومياء في العصور القديمة. كان الدفن يتم في العصور الموغلة في القدم بتمزيق الجثة، وتقطيعها، ثم تجميعها، ثم دفنها، في استعادة لدراما أوزير وإيزيس. ومع تطور الفكر المصري القديم، بدأت تظهر فكرة التحنيط، وهي حفظ الجسد بعيداً عن عوامل التحلل بنزع الماء من الجثة باستخدام ملح النترون، وتجفيفها بوضعها تحت الشمس بعد إخراج المخ من فتحة الأنف، ونزع الرئتين والكبد والأمعاء ووضعها في أربع أواني مستقلة، أما القلب فكان يُنزع ثم يُطّهر ثم يوضع مرة أخرى في مكانه.
«في عصر ما قبل الأسرات كان المتوفى يدفن في وضع جنيني، دون تحنيط ودون كفن، في حفرة مستديرة أو بيضاوية الشكل بالبيت نفسه الذي عاش فيه». إن هذا النتوء، الذي يشير إلى النتوء الأول الذي خرج من المحيط الأزلي، سيتطور جيلاً فجيل. بدايةً، وُضع مع المتوفى بعض أغراضه وأوانيه، لاحقاً خرج القبر من المنزل وصار في الخارج، ومن ثم كبر هذا النتوء وصار يُطلى بالجير. «ومع الزمن تطور هذا التصور بالتوازي مع تطور الفكر الديني واكتساب المصري المزيد من التقنيات مثل بناء المصطبة، ثم الهرم الذي يتكون من عدد من المصاطب، ثم الهرم الكامل».
«نترك نهاراً خلفنا لنخرج إلى نهار آخر»
تعمل نصوص كتاب الموتى عمل صوت المتوفى، هي لسانه ولغته في العالم الآخر، هي صكوك براءته وغفرانه الرابضة بالقرب من مثواه. يحوي الكتاب على 192 بردية، ارتبط أغلبها برسومات فرعونية ذات دلالة دينية. تتفرع التعويذات إلى أكثر من فرع (تعاويذ عامة، التحولات، الكهوف، التلال….) لكل فرع فصوله وموضوعه وفكرته ووصاياه. الفصل الأول مختص بـ«الخروج والدخول إلى مملكة الغرب الجميلة»، وتشير الدراسات إلى أن هذا الفصل كان من أكثر الفصول المحببة لدى المصريين، «فقد وصل إلينا في جميع البرديات – نحو 335 بردية، كما وصلنا بصيغتين مختصرتين في مقبرتي توت عنخ آمون وتحتمس الثالث، كما وصلنا مدوّناً على جدران أكثر من عشرين مقبرة غرب طيبة». أغلب تعاويذ هذا الفصل تعنى بيوم الدفن وإنزال المومياء إلى القبر والخروج للنهار، أي الحياة بعد الموت، وتلعب دوراً جغرافياً في إرشاد المتوفى في طرق مملكة العالم الآخر، وحمايته من كل الثعابين والتماسيح، ومن عابب، إله الشر، «وهو تجسيد للقوة التي تحاول إعاقة مسيرة الشمس الليلية كي لا تشرق». وتساعد التعاويذ المتوفى في حركته داخل هذا العالم الجديد بعد الموت: «ولتجعلني أخرج وأدخل في العالم السفلي دون عراقيل تمسك بروحي، وتتاح لي فرصة رؤية الشمس والقمر إلى الأبد».
تختص التعاويذ التالية باستعادة المتوفى لجسده وأعضائه بعد الموت. «فلتعد له فمه لكي يتحدث به، وتقود قلبه في ساعة البؤس والليل»، كذلك تناجي التعويذة آلهة العالم السفلي في طلب لاستعاد المرء فمه وقلبه وباقي أعضاء جسده. احتل قلب الإنسان مكانة عالية في الثقافة المصرية القديمة، لذلك تراهم يعيدونه إلى الجثة على خلاف الدماغ وباقي الأعضاء الداخلية. «والقلب عند المصري هو مصدر الشعور والوعي والقوة»، ينفصل عن صاحبه في العالم الآخر ويعود إليه، يتعرض للسرقة وللمحاكمة أمام الآلهة التي يردد أمامها في تعاويذ القلب المختلفة: «قلبي من أمي…قلبي من أمي».
تعنى النصوص اللاحقة بالتحولات. يأتي التحول على مستويين في المثيولوجيا الفرعونية حسب نصوص الكتاب، التحول الإلهي والتحول الحيواني. في الأول يتحول المتوفى إلى إله، وفي الثانية يتحول إلى حيوان. «أنا آتوم، خالق السموات والكائنات، خرجت من الأرض وأخرجت سائلي المنوي فصرت سيداً لكل ما أنجبتهم من آلهة». كذلك يخاطب المتوفى نفسه، يجعل من نفسه كبير الآلهة (حورس، أوزير، رع، إلخ)، ويتحدث بصوتها ويذكر سيرها ومآثرها. أما في التحول الحيواني، فتحوله النصوص إلى الحيوانات الأسطورية بغية النجاة منها (الثعبان، التمساح…). لم يقف اهتمام المصريين بالمتوفى على الناحية الميتافيزيقية، بل اهتموا بالناحية المادية أيضاً، واعتنوا بأدق التفاصيل التي ترافق الميت بعد موته، فهناك تعويذة خاصة بحصول المتوفى على إناء ماء ولوح كتابة، أيضا تعاويذ للطعام والشراب و«الزرع والحصد وممارسة الحب، وفعل كل شيء كما كان على الأرض».
لا تقِل آخر فصول كتاب الخروج للنهار أهمية عن الفصول الأولى، وأهمها فصل «الاعتراف السلبي» أو فصل المحاكمة، وفيه استحضار لمشهد محاكمة المتوفى أمام الآلهة و«ما يقال عند دخول المرء إلى قاعة العدالة المطلقة وتبرئة نفسه». تجري المحاكمة الإلهية للبشر بذات منطق الحساب اللاهوتي في الأديان اللاحقة، أسئلة وأجوبة، لكن يبقى المشهد الأكثر تميزاً في هذه المحاكمة هو وزن قلب المتوفى للتبيُّن من صدق أقواله. بعد تلك الفصول يأتي فصل البوابات، وهي سبع بوابات على المتوفى اجتيازها بشرط معرفة أسماء هذه البوابات وأسماء حراسها. كذلك الحال مع فصول التلال، وفي اللفظ المصري «إيات» وتعني هضبة أو تل: «يا تل الممجدين، افتح لي الطرق لأمر عليها، لأدخل إلى الغرب الجميل، أعده أوزير الممجد، ورب الممجدين». يحوي كتاب الموتى في فصوله الأخيرة نصوصاً تُعنى بالقلادات والتمائم التي تخبأ في ثنايا المومياء، «أو تعلق حول رقبة المتوفى كتمائم تحميه من الشرور والتحلل والسرقة ولدغات الثعابين». وينتهي الكتاب بمجموعة نصوص تخص تمجيد المتوفى في مملكة الموت وهي النصوص الوحيدة المكتوبة شعراً. يظهر في هذه النصوص تقارب الجذر اللغوي بين الهيروغليفية واللغات السامية، إذ كان يطلق على المقطع الشعري اسم حوت، ذات الكلمة المستخدمة للدلالة على «البيت»، كما هي الحال في اللغة العربية التي تطلق ذات الاسم على المقطع الشعري والمنزل «بيت».
ثرثرة فرعونية فوق النيل
حينما نقلت مصر، منذ أشهر، توابيت بعض ملوك الفراعنة، انشغل العالم بحجم البهرجة والترف الذي يخفي وراءه أزمات خانقة. التزم منظمو الحفل بوقت الغروب لنقل المومياوات، بما هو وقت الأفول والنهاية عند الفراعنة. إذا استثنينا كوميديا السيسي وما فعله، ومحاولة تنصيب نفسه فرعوناً جديداً، فإن موكب المومياوات كان مهيباً: ثمانية عشر ملكاً وأربع ملكات من ملوك الأسرة الحديثة، تم نقلهم بتجهيز فني احترافي، وتم افتتاح متحف جليل كمتحف الحضارة في الفسطاط. تبع تلك البهرجة أخبار سد النهضة الإثيوبي الذي يهدد غزارة النيل في مصر والسودان، وما صدر إلى اليوم عن الموقف الرسمي المصري ما هو إلا ثرثرة فوق النيل. ثرثرة كالتي قدمها نجيب محفوظ في روايته ثرثرة فوق النيل، عندما صوَّر شباب مصر وصباياها هائمين، ثرثارين، عاجزين عن الفعل، خالين من المستقبل، وغارقين في النيل العظيم.
نعم، قد يظهر النص الفرعوني بعد آلافه الخمس بعيداً عنا اليوم، لكن في البحث بالموروث الشعبي العربي (مصر وبلاد الشام على وجه التحديد) نجد أن آثار تلك الميثولوجيا المصرية القديمة ولغتها ما زالت حاضرة بيننا، فاصطلاح «العين الحمرا» المستخدم في اللغة العامية الشامية والمصرية إلى اليوم، الدال على الحزم والقوة، هو اصطلاح فرعوني قديم، ويعني «عين حورس النارية»، وربما تلك العين التي يحتاجها النيل اليوم، إله مصر وربها، الذي يردد الموتى اسمه في تعاويذهم:
لم أمنع ماء الفيضان في موسمه
لم أبنِ سداً أمام المياه الجارية
لم أطفئ ناراً عندما كان إشعالها مهمّاً