لم أُحصِ عدد المرات التي فاض بها ثائر ديب عليّ بالشتم والتسفيه، لعلها لا تقل عن خمسين خلال عشر سنوات، توزعت على مواقع التواصل الاجتماعي وعلى مقالات تكرر الشيء نفسه كل مرة، بنبرة التحريض نفسها، وبشحنة الكراهية نفسها كذلك، ودوماً مع إخراج للموضوع عن السياق، ومع قلة أمانة في الاقتباس. وهو ما تجنبت الرد عليه إلى اليوم. من جهة عملت على تجنب المشاركة في تسميم الجو العام، باعتبار ذلك التزاماً مُعرِّفاً للكاتب والمشتغل بالشؤون العامة؛ ونفوراً مني، من جهة ثانية، من الصورة التي يعطيها كتاب ومثقفون عن أنفسهم ومجال نشاطهم حين ينساقون إلى عداوات موتورة وحروب كلام مديدة، مثل حروب القبائل. والحقيقة أنه كان وراء عدم الرد، فضلاً عما تقدم، ترفعٌ عن مجاراة سَبّاب رقيع، لا يمتنع عن شتم الأب والأم، وعن العنف اللفظي المميز لشبيحة الحكم الأسدي وعناصر مخابراته.

وإذ أرد هنا لأول مرة، فبغرض مخاطبة مهتمين، ربما يميلون إلى تصديق ما يقال بأثر التفاني في تكراره، دون كلل أو ملل.

سأعلق على نقطة واحدة تكررت في مقالة ديب المكرورة هي ذاتها، تتصل بـ «تبرير الإرهاب التكفيري» يفترض أني قمت به، وسأعمل عبر ذلك على إظهار ارتباط ذلك بموقعه ودوره هو في التشكيلة السياسية السورية الراهنة.

في آخر ما وقع بين يدي من ردحيّاته، يورد بين قوسين التالي منسوباً إلي: «لا أزال على موقفي الأول: لا لتبنّي الموقف الأميركي من النصرة، ولا لفتح جبهة صراع معها، طالما كان هذا ممكنًا.. الصراع مع النصرة ثانوي ويعالج بالسياسة، والصراع مع النظام وجودي.. تخوض الثورة معركة صعبة مع النظام، بينما النصرة لا تفتح جبهة ضد أحد في الثورة». هذا «قص ولصق» من المقابلة يهمل السياق الداخلي للكلام. ما ورد في المقابلة التي أجراها معي دارا العبدالله هو التالي:

لا أزال على موقفي الأول: لا لتبني الموقف الأميركي من النصرة، ولا لفتح جبهة صراع معها، طالما كان هذا ممكناً. كنت ذكرت في المادة نفسها [المقالة التي سيأتي الكلام عليها على الفور] أنه يستحيل على المقاتلين على جبهات المواجهة أن يمتنعوا عن التعاون مع النصرة، دع عنك أن يواجهوها، وأنّ من شأن قبول الموقف الأميركي توريد صراع إلى قلب القوى التي تقاتل النظام، وهو ما يناسب النظام وحده. ومن معاينة الواقع على الأرض في غير منطقة، بعد كتابة المقالة بشهور، يبدو لي هذا صحيحاً تماماً.

الإجابة تُحيل إلى مقالة نشرتها في مطلع العام نفسه، تعلق على إدراج الأميركيين لجبهة النصرة في قائمة المنظمات الإرهابية، وورد فيها ترتيب للخيارات السياسية وقتها، ليس على النحو التقريري في الاقتباس المزور فوق، بل على النحو التالي:

(1) اعتبار الصراع مع النظام أساسياً ووجودياً، ومع النصرة ثانوياً، ويُعالج بالسياسة؛ (2) اعتبار الصراع مع النصرة أساسياً مثل الصراع مع النظام، وخوض صراعين في آن معاً؛ (3) اعتبار الصراع مع النصرة هو الأساسي والوجودي، والصراع مع النظام ثانوي، ويعالج بالسياسة.

وبدا لي وقتها أن الخيار الأول هو «ما يبدو متوافقا مع الثورة، وما تسير وفقاً له اليوم». أضفتُ إنه «حين تختلف الظروف، كأن يسقط النظام أو تنقلب النصرة إلى مواجهة مجموعات المقاومة المسلحة الأخرى، يتغير التقييم والموقف». وهو ما التزمت به لاحقاً، وما يفيد بأن الأمر يتعلق بـ«تقدير موقف» محدد. هذا واضح في المقابلة نفسها بالمناسبة. فقد ورد فيها: «نتكلّم من مواقع وأوضاع محددة، وفي إطار سياسي وتاريخي متغير وكثيف التغيرات، وما نقوله اليوم قد نقول ما يغايره بعد حين، أو ما يناقضه. هذا طبيعي. ولا أَعِدُ شخصياً بغير المثابرة عليه».

أما ما يخص عدم خوض جبهة النصرة صراعاً مع أحد، فقد ورد قبل ما تلاه في اقتباس ديب، وليس بعده، وبالصيغة التالية: «والشيء الثاني [الأول هو الاعتراض على التوافق مع الموقف الأميركي] هو الاعتراض على فتح معركة جانبية مع جبهة النصرة، بينما تخوض الثورة معركة صعبة مع النظام، وبينما النصرة لا تفتح جبهة ضد أحد في الثورة».

وعدا قلة الأمانة في الاقتباس، هناك إغفال للسياق الخارجي، أو حقل الصراع الجاري في البلد وقتها. المقالة كُتبت ونُشرت في مطلع 2013، في سياق حرب النظام المفتوحة على الثورة وتصاعد المواجهة المسلحة ضده وخروج مناطق متسعة من سيطرته، يعيش فيها جمهور كان معرضاً للحصار والقصف اليومي، بما في ذلك قصف طوابير الخبز، ومع مثابرة النظام على رفض أي حلول سياسية تتضمن التنازل ولو عن 2 بالمئة من السلطة على نحو يجنب البلد أسوأ المخاطر (قلت ذلك في المقابلة التي يحيل إليها بمستوى أمانته المعهود).

يتعلق الأمر في كل حال بتحليل لأوضاع بعينها، وليس بمعتقد لا يتغير، أو بـ«تبرير للإرهاب التكفيري»، على ما استطاع مُطبِّع الإرهاب الأسدي أن يقول. ما يمكن أخذه، وما آخذه أنا، على تناولي في المقالة هو الركون إلى منطق تعبوي ضيق، يصدر عن فكرة «التناقض الرئيسي»، ويقوم على التضاد، فيضيق في المحصلة حقل الرؤية السياسية. جدير بالذكر أنه نشرت لي بعد أيام من المقالة المعنية مقالة أخرى تتناول الموضوع نفسه، ليس من زاوية سياسية هذه المرة، بل من زاوية اجتماعية وثقافية، في محاولة للإجابة على سؤال ما هي مشكلتنا مع جبهة النصرة؟. والمقالة تنتهي بالسطور التالية:

من جهتنا لا نرى أنه يمكن مواجهة «جبهة النصرة» بالهروب وإشاعة التشاؤم، ولا بالنقد الليبرالي، ولا بالوعظ الوطني والعلماني. يمكن مواجهتها، ويجب، بجبهة اجتماعية سياسية قوية، تتطلع إلى أوسع انخراط للسوريين في الحياة العامة لبلدهم. ملايين السوريين الناشطين سياسياً هم القوة الأمنع أمام مصادرة الثورة لأي طرف سياسي أو ديني.

وحده ما هو جيد في مواجهة نظام الطغيان هو الجيد لمواجهة «جبهة النصرة» وأشباهها.

المقالتان كُتبتا في الوقت نفسه، ونُشرتا في الجمهورية بفارق أسبوع واحد بينهما. وبطبيعة الحال لن يجد من يعتمد على ديب في معلوماته إشارة للثانية. إذ لسنا هنا حيال نقد يعمل على قول الحقيقة، بل أمام معركة غير أمينة تحفزها ضغينة متجددة وغرضها التشويه.

ومن أجل إضاءة الموضوع، سأعرج على معركة مماثلة يكرر خوضها المجاهد ضد «تبرير الإرهاب التكفيري» (المحب بالمناسبة لحزب الله ولدولة الولي الفقيه في إيران التي يجاهر الحزب المذكور بتبعيته لها). يتعلق الأمر بـ«أطروحة الصفر الاستعماري التي طلع بها في تسعينيات القرن الماضي اليساري السابق رياض الترك» بحسبه. ليس صحيحاً، بداية، أن الأطروحة المزعومة تنحدر إلينا من تسعينات القرن الماضي (الرجل كان في سجن حافظ الأسد حتى أيار 1998). الواقع أن الترك سُئل من مراسل أجنبي بُعيد الاحتلال الأميركي للعراق في نيسان 2003 عن تقييمه لما جرى، فقال إن العراق كان تحت الصفر تحت حكم صدام، وأنه الآن في الصفر بعد إسقاط نظامه، وأن ما قد يرفعه فوق الصفر هو ما يفعل العراقيون بالتحول الذي جرى في بلدهم. لا يتعلق الأمر بـ«أطروحة» عن الاستعمار إذاً، بل بتعليق ظرفي له سياق بالغ التحديد، يمكن التحفظ عليه (التعليق) كثيراً أو قليلاً، لكنه يبقى تفاعلاً مع أوضاع بعينها في سياق بعينه. ثم إنه جرى تكرار الكلام على «أطروحة الصفر الاستعماري»، وفي قول آخر «نظرية الصفر الاستعماري»، ربما مئات المرات، من أشباه ديب ممن يُحتمَل أنهم صدقوا الكذبة لفرط ما كرروها (ومعلوم أن قصب السبق في هذا التقليد للنازيين)، تماماً مثلما يكرر ديب اجترار «تبرير الإرهاب التكفيري» منسوباً إلي.

عواطف ديب المعادية للاستعمار لا تشمل بطبيعة الحال روسيا وإيران وميليشياتها الطائفية المجلوبة من لبنان والعراق وأفغانستان. ما لدينا هنا ليس موقفاً مبدئياً من أي نوع، بل حصراً تطوع لتسفيه معارضي النظام الجذريين. وهذا ممن يتلجلج اللجلجة كلها في قول جملة مفيدة واحدة عن النظام الذي قتل محكوميه بالتعذيب والسلاح الكيماوي والبراميل المتفجرة، والذي له تاريخ في اعتقال وتعذيب معارضيه، والذي بعد ذلك يحكم سوريا منذ أكثر من نصف قرن. الواقع أن ديب، الذي سبق أن قضى أربع سنوات في سجن النظام، يعرف كيف يكرّ اللازمة التي تقول إن النظام هو المسؤول الأساسي، فقط كي يتبعها فوراً بلكن… تفرغها من أي مضمون. وخلال ما ينوف على عقد من الثورة والحرب في سوريا، وطوال سنوات قبلها، لم يكرس ولو مقالة صغيرة واحدة عن هذا «المسؤول الأساسي»، تقول شيئاً واضحاً بشأنه. ما يثير أشد انفعاله ويدفعه للكتابة ليس صور المعذبين في ملف قيصر مثلاً، ليس صور الدمار بالبراميل المتفجرة، ليس كذب بشار الأسد في شأن البراميل والتعذيب، ليس تطييف الدولة، ليس إفساد وظيفتها القمعية بالذات، ليس الشبيحة وتأليه بشار وأخيه ماهر، ليس النظام المسؤول عن تسعين بالمئة من فوق نصف مليون من الضحايا (داعش والنصرة وجميع الآخرين أقل من 10 بالمئة)، ليس حصار درعا وتجويع أهلها، ليس حرق جثث من قتلهم النظام تحت التعذيب وطمرها في مواقع مجهولة، بل مقالة لي وأطروحة مزعومة لرياض الترك وربما تصريح لبرهان غليون، مع تكرار غوبلزي لهذا «الربرتوار» طوال الوقت.

فإذا جرى الاعتماد على ديب لتكوين فكرة عن سورية خلال عقد، استخلص المُعتمِد أن النظام وأجهزته ربما يكونان مشكلة من مشكلات سورية، لكن هناك مشكلات أكبر وتستحق النفير المستمر، منها مثلاً مقالة لي أو مقابلة، أو بوست على فيسبوك. فإذا كان ما يكتبه الواحد منا يعبر عن الوزن النسبي للقضايا التي تنال اهتمامه، ولذلك يكتب في بعضها كثيراً وفي بعضها أقل، كان من المفترض بـ«معارض وطني ديمقراطي» للحكم الأسدي أن يكتب عن تكوين هذا النظام وسجله التاريخي وبنية المصالح التي يرعاها وتعريف المجموعات التي تصعد في ظله وأولوياته العليا وهياكله السياسية والجهازية، ونوعية روابطه الإقليمية والدولية، وصولاً إلى عرضه البلد على أجانب مقابل حماية ملكه… لكن هذا غاب كلياً عن تقارير ديب المكرورة. يفترض المرء كذلك أن الصراعات المُعَرِّفة لواحد منا، أي المُشكِّلة لهويته الفكرية ككاتب، هي تلك الأشد حضوراً في كتاباته. فإن صح ذلك، كان الصراع المُعرِّف لديب هو الصراع ضد أمثال الداعي، وكان «الآخر»، وبالأحرى العدو، الذي يعرف نفسه بالتقابل الضدي معه هو أنا وآخرين، وكانت اللازمة الطقسية الخاصة بأن النظام هو المسؤول الأساسي، لكن… هي تعويذة الضمير الآثم ضد تشكك محتمل بأنه في واقع الأمر موالٍ خجول.

قد يجري التذرع بأن الموقف من النظام معروف، فلا داعي لقول المزيد بشأنه، فلا يقال بالفعل شيء. وهكذا يصير النظام مجهولاً أكثر بحجة أنه معروف سلفاً، ويجري تطبيع عنفه وعنف حُماته فلا يعود مرئياً، ويتم إغراق المساحة الأكبر من واقع سورية في الظلام. الأمر على كل حال لا يتعلق بـ«الموقف» حصراً، بل بتحليل يتجدد ولا يكف عن استكشاف أوجه من التكوين السياسي السوري، مما ليس صحيحاً بحال أنه معروف كفاية. وليس صحيحاً بعد أن موقف المذكور معروف حتى كموقف. الموقف السياسي والأخلاقي للواحد منا ليس شأناً من شؤون القلب أو علاقة خاصة بينه وبين ربِّه، مقرها أعماق النفس. يُعرف موقف الكاتب من كتابته، وتعرف هوية الكاتب الفكرية والسياسية والأخلاقية من نتاجه المنشور لا من غيره، فأين هو النص الواحد للكاتب الذي يقول لنا ما تركيب هذا النظام الذي قتل مئات الألوف من محكوميه، ودعا أجانب توسعيين لمشاركته وليمة القتل؟ وأين هي الهوية اليسارية لكاتب لم يكتب صفحة واحدة، مخصصة لمن يحكمون بلده منذ نصف قرن، بينما هو لا يقوم بأي عمل عام غير الكتابة؟ وما هو الفرق في النتاج بين الكاتب الذي لا يكتب عن أَولى ما يفترض به أن يكتب في شأنه وبين «كاتب التقارير» للمخابرات مثلاً؟ معلوم أن كاتب التقارير يستهدف حصراً معارضي النظام بوشاياته. والحال أن منبع الكذب الدائم هو بالضبط هنا: الفاعل الأكبر وشبه الأوحد في تاريخ البلد خلال نصف قرن غير مُمثَّل في كتابة مَن عمله الكتابة. بالمقابل، شعر صاحب «الموقف المعروف» من النظام أن عليه أن يجتر ما قاله عني عشرات المرات على الأقل، وليس في الأفق بعد ما يشير إلى أن «الموقف» مني ومن آخرين صار معروفاً كفاية. الأرجح أن طقس العبادة المقلوب هذا مستمر… «إلى الأبد».

أو قد يجري التذرع بأن ديب يقيم في البلد، وينبغي أن يكون مفهوماً أنه لا يستطيع أن يسمي أشياء كثيرة بأسمائها. يمكن التعاطف مع هذه الحجة، لكن جزئياً فقط لأن المرء لا يَعدم طرقاً للتعبير عن موقعه واصطفافه الحقيقي. هذا، حتى لو لم نقل إنه في مواجهة أزمة وطنية هي الأكبر في تاريخ سورية خلال قرن ونيف لا يجب أن يحول حائل دون قول بعض الحقيقة للناس إن تعذر قولها كلها، وهذا تحت طائلة ألا تقال الحقيقة أبداً. فضلاً كذلك عن اعتبار أخلاقي يقضي بأن من لا يستطيع تسمية أشياء بأسمائها يستطيع على الأقل ألا يسميها بغير أسمائها، وأن يُكرِّم المرء صمته الاضطراري عمّن يخشاهم بأن لا يتطوع طوال الوقت لتسفيه من لا يخشاهم. هذا من أجل ألا يكون المتطوع جلاداً رمزياً، يثابر على جلد أعداء النظام دون غيرهم، مكملاً عمل جلادي الأجساد من المخابرات الأسدية، وإن ربما متحسراً على أنه ليس في متناوله أجساد يجلدها. وفي هذا الشأن، لعله يمكن فهم التكرار الذي لا ينتهي كرغبة في التجسيد، كسعي وراء أجساد لا تُطال.

ينبغي فهم دور هذا الجلاد الرمزي كمساهمة واعية في الصراع الاجتماعي والسياسي والفكري في سورية والمنطقة، مساهمة تدرج عنف النظام، التعذيب والاغتصاب والبراميل والكيماوي والمجازر ضمن المتوقع والمألوف، الذي لا حاجة إلى الكلام عليه بالتالي، ما يعني عملياً تطبيع هذا العنف الإبادي كما تقدم. وهي مساهمة لا تقارب حتى «الإرهاب التكفيري» إلا من زاوية التحريض على «اليسار المتلبرل» أو «يسار جبهة النصرة»، فلا تنظر في جذور الإرهاب ذاك السياسية والاجتماعية والفكرية، المحلية والدولية، مما يفترض أن ينهض به المثقف اليساري، ولا تُسائل مفهوم الإرهاب ذاته عن شرعيته، ولا من باب أولى تستكشف العلاقة بينه وبين إرهاب الدولة المُخصخصة والمُطيّفة، المسكوت عنه برضا. عمل الجلاد الرمزي هو التعذيب الرمزي، وليس إنتاج معرفة بالواقع السوري. ومن هذا الموقع الثورة السورية ذاتها لم تحدث، وهي ليست محفزاً لتفكير يتجدد، لإعادة نظر في أدوات التحليل ومناهج العمل، ولتفكير متجدد في الأهداف، لإعادة تعريف الذات. بدل توسيع دوائر ما يُكتب في شأنه، يجري تضييقها فتصير كالزنازين. وما كان يقال من قبل يقال هو نفسه من بعد، فلا تاريخية ولا تاريخ، ولا قطيعة ولا إعادة هيكلة. وهذا المستنقع الراكد من ابتذال فكري وأخلاقي، ومن نصوص- زنازين، ومن التكرار واللاتاريخية، فضلاً عن عُصابية متوترة ومكيودة، هو ما يشهد لنفسه بأنه اليسار الصحيح. التشكيلة السياسية الأسدية، المهجوسة بدوامها الخاص أو بتكرار نفسها إلى الأبد، تحتمل دور مُكرِّرٍ يكره من تكره ويضع الثورة ضدها بين قوسين، وتُرحب بتقاريره الباسلة.

في الختام، الحقيقة التي لم تقل إلى اليوم لن تقال يوماً، والكذب الذي استمر إلى اليوم مستمر حتى الموت. ديب موال للقوى الحامية للنظام ومعارض لمعارضي النظام، وبهذه الصفة حاله يكذب مقاله، وموقعه الفعلي يكذب موقفه المُدّعى. تكراره العبدي لحفلة الجلد الرمزي نفسها مرة تلو المرة يؤشر على انفعال عدائي سلبي يستبد به، وسواس قهري قدير يمنعه من أن ينفصل عن مكروهيه، بل يوقعه في حب كرهه لهم، فيثابر على الصلاة لهذا الكُره الحبيب طوال الوقت. وإذ صار ديناً على هذا النحو، يحول الكره بين هذا العبد المؤمن وبين أن يستقل عن الأشرار من أمثالنا فكرياً وسياسياً وأخلاقياً، أي أن يتشكل كذات مستقلة، تنتج الأفكار وتوسع نطاقات المعنى، فتحرر نفسها بعملها هذا. عبد التكرار لا يناضل لا من أجل الديمقراطية ولا من أجل قضية تحررية عامة. قضيته هي استئناف رمزي لعمل الجلادين الأسديين، وشرط صلاحيته هو دوام التشكيلة الأسدية. تنتهي التشكيلة فتنتهي الصلاحية فوراً.