تبدأ مسرحية ناطورة المفاتيح للرحابنة بقرار ملكي باستحداث ضريبة جديدة باسم «حصة الملك»، حيث يصير من حق الملك أخذ نصف أرباح المزارعين وممتلكاتهم، ويجادل القائد الفلاحة زاد الخير (فيروز)، بالقول «هيدي هلق مش ضريبة، هايدي حصة الملك؛ اللي عنده موسم، اللي عنده بيت، الملك إلُه منه النُص».
كاسم مفعول من فعل «ضرب»، «الضريبة» في الأصل هي كل ما ضُرب بالسيف، كما لو أن السيف ضرب الأرباح ليشتق قطعة منها، ولكن ما حدث هنا أنها، بتغيير مسماها، قد زادت عن حدِّها كثيراً، ضربت الأشياء من وسطها، حتى تقترح زاد الخير، الفلاحة الفقيرة التي لا تملك سوى عنزة وخمس دجاجات، أن يشق السيف حيواناتها إلى نصفين: «فوتوا خدوا له دجاجتين ونُص ونُص العنزة»، ترد متهكّمة.
,
في حدود ما أعرف، بين كل أوزان فعل الضرب لم يستعمل القرآن غير وزن فَعَلَ الثلاثي البسيط، وكذلك فعل المصريون الذين نسبوا للفعل الثلاثي وحده معاني شديدة التنوع، تاركين سائر الأوزان شاغرة، لتقرّر الفصحى – باشتقاق كلمات مثل «تضارب» و«إضراب» و«مضاربة» و«اضطراب» – أن تكون هي من يشغلها؛ كلمات تتمتع كلها بأصداء نخبوية، ولا تجري على ألسنة الناس سوى لإظهار ارتفاع مستواهم التعليمي، أو في معرض الكلام عن المحاكم والبنوك والبورصة والمؤسسات الرسمية.
في الآية القرآنية {أَفَنَضرِبُ عَنكُمُ الذِّكرَ صَفحَاً}، جاء الضرب الثلاثي البسيط، وبمساعدة «عن»، ليأخذ معنى التوقف: هل نصفح عنكم ونتوقف عن ذكركم؟ وهو نفس المعنى الذي قرّرته الفصحى الحديثة للفعل، وإن لم تفعل هذا سوى بعد أن أضافت إليه همزة أفعل، لتحوّله لـ«أضرب»، ويظهر الـ«إضراب» بالتالي: تكنيك سياسي حديث للمقاومة عبر إيقاف العمل وتعطيله.
كان بإمكان الفصحى الحديثة السير على النهج القرآني والقول «الضرب عن العمل»، ولكنها قرّرت صياغة فعل جديد، فيما يبدو بهدف التخفيف عن أصله الثلاثي المثقَل بالمعاني، فمَن منا لن يقفز لذهنه المعني العنيف لكلمة «ضرب» لو قرأها في عنوان صحفي؟ من منا لن يبتسم ساخراً لو قرأ عبارة «الضرب السلمي» بدلاً من الإضراب السلمي؟
* * * * *
«ضَرَبَ زيدٌ عمراً» هو المثال الأكثر تكرراً في دروس الفاعل والمفعول به، ويشيع استخدام الـ«ضرب» هنا لكونه أولاً فعلاً ثلاثياً صحيحاً، وثانياً لكونه فعلاً متعدياً، بل وعدوانياً، وأخيراً لأن عدوانيته هذه لم تصل بعد لدرجة الدموية، كما في فعل القتل مثلاً.
ولكن في الكثير من الأوزان الأخرى للضرب، وأخصُّ منها الأوزان المطاوعة، مثل التضارب والاضطراب، يتحوّل معنى الفعل من التعدي والاعتداء إلى الندّيّة والمساواة، حيث تتفاعل الأشياء وتفور معاً في نفس الإناء.
للأوزان المطاوعة في قلبي مكان أثير، بالمناسبة، كونها تدلنا على مسار بديل للبشر يمكنهم فيه العمل سوياً، دون فاعل سيد ومفعول مسود، فالمضاربة مثلاً تعني تبادل الضربات، ويخبرنا لسان العرب أن من الجائز أن يسمى رب المال والعامل مضارباً، لأن كل واحد منهما يضارب صاحبه، وفي «التضارب» كذلك – أي التناقض – لا يوجد فاعل ولا مفعول، وإنما فخار يكسّر بعضه، «حرب الجميع ضد الجميع»، على حد وصف توماس هوبز للمجتمع إذا ما غابت عنه السلطة السياسية، وهو الوصف الذي يشكّل نصف معاني الأوزان المطاوعة، أما النصف الآخر فهو «تعاون الجميع مع الجميع».
مع هذا، فكثيراً ما تغفل المحكيات العربية عن المعنى المطاوع لأوزان مثل افتعل وانفعل، حاصرةً إياها في معنى المبني للمجهول، الفاعل والمفعول ولكن معكوساً، في مثل انضرب واتقتل، وفي مثال نادر، يُروى عن النبي أنه «اضطرب خاتماً»، أي طلب أن يُصاغ له خاتم، يُضرب له.
لا أعرف إن كان معنى الاضطراب هذا سيتغيّر لاحقاً، أم أن معنيين قد تعاصرا سوياً في نفس الحقبة، ولكن ما يبدو لي واضحاً أن الاضطراب في أدبيات العصور الوسطى سيعني ما نعرفه اليوم: فعلاً مطاوعاً يدل على الحركة والخلط والتشوش، يتخلّى الفعلُ فيه عن مفعوله ليعني حصراً ضربات تتدافع من كل الاتجاهات، كأن بداخل المرء قلوباً كثيرة تنبض في وجه بعض، ولا نعرف أبداً من منها بدأ بالنبض، من الفاعل ومن المفعول.
* * * * *
«تؤدي الموسيقى بالإنسان إلى الطرب، رعشة التأثر التي يداخلها شيء من الثمل… ولهذا يطلقون على المغنية الكبيرة مطربة، لا مجرد مغنية».
هكذا يكتب الكاتب اليهودي من أصل عراقي، ألموج بِيهار في روايته تشحلة وحزقيل، التي سُعدت من سنوات بترجمتها عن العبرية.
من المعنى المطاوع لكلمة اضطراب، أصل إلى أقرب نقطة يمكنني القفز منها إلى كلمة طرب، التي طالما شغلتني، وطالما حار المترجمون في كيفية ترجمتها للغات الأخرى، حتى أن بيهار نفسه يكتبها في روايته بالعربية كما هي.
لو قُدِّر للمحكية المصرية أن تصوغ فعل طرب على وزن افتعل لقيل «أنا اطّربت من الموضوع دا»، وستُسمع هذه بالضبط كأنها «اضطربت»، وهذا لأنه صحيح أن كلمة طرب قد تكون تنويعاً على ضربات القلب المتتابعة، التي نحسها وقت سماع الشعر أو الموسيقى، ولكن مع هذا، ورغم صياغتها في وزن فعل الثلاثي البسيط، أحب أن أرى فيها شيئاً من معنى الاضطراب أيضاً، أمواجاً متلاطمة من النشوة ومشاعر من اليمين والشمال تعربد فينا.
يعني الطرب، وفق المعاجم، أن يخفّ المرء ويهتز من فرح وسرور أو من حزن وغم؛ تتضارب مشاعرك لدى مطالعة العمل الفني، مع استسلام كامل للفنان ليقلّبك بين يديه كيف يشاء.
يصرف المتلقي انتباهاً أكبر لآخر مشهد في الفيلم، آخر كلمة في الجملة وآخر فقرة في الرواية، ومن هذا المنطلق، وأخذاً في الاعتبار ضربات الإيقاع في الشعر العربي القديم، فقد سُمِّيت آخر تفعيلة في البيت الشعري «الضرْب»، الضربة القاضية التي ستعلق بذاكرتك وستظل تردّدها بعد انتهائك من سماع الأغنية أو القصيدة، كما سيكون من شأنها إثبات استمتاع الفنان حتى آخر دقيقة بصنعه للعمل، كما في الموال مثلاً، ويتلذّذ فيه المطرب بإطالة حروف الكلمات وإشباعها تنغيماً وتجريباً وارتجالاً، فيما الناس متسمّرون وأعينهم معلّقة به، وفقط بعد انقضاء كلمته الأخيرة، بعد اطمئنانه التام لعودته لنفس النقطة التي بدأ منها، يأتي الإيقاع الراقص المعروف، فيهتف الناس «الله!» ويبدأون في التصفيق وقد اعترفوا لأنفسهم أخيراً بالطرب والوصول للأورجازم.