لا شكّ في أن رسالة حيّ بن يقظان في أسرار الحكمة المشرقية، للفيلسوف الأندلسي ابن طُفيل، هي أهم أعمال الأدب الإسباني-العربي. كُتبت الرسالة نحو عام 1180، وترجمها إدواردو بوكوكي إلى اللاتينية عام 1671 بعنوان بات لاحقاً شهيراً في الغرب: الفيلسوف ذاتي التعلّم. وليس المُراد هنا مناقشة منابع إلهام هذا النص البديع، ولا ما يدين به لابن باجة أو ابن سينا. فالأنسب أن نستذكر حجّة السرد: يُخلَق طفل في جزيرة بالتولد الذاتي من الطين (أو ترميه هناك أميرة زانية، حسب صيغة أخرى يقترحها ابن طفيل نفسه)، وترضعه غزالة، ويكبر وحيداً في الطبيعة دون أي اتصال مع أي إنسان آخر. لا يستسلم حيّ بن يقظان، وهذا اسم بطل الحكاية، لشرطه الحيواني، بل يجعل من نفسه إنساناً – دعونا نقول كذلك – دون الحاجة لأي تبادل اجتماعي، بل عبر ممارسة عارية للمنطق المحض، القادر على ترتيب البيانات الحساسة التي يقدمها العالم له لبناء كامل العلوم البشرية، وبشكل متسلسل: من أكثرها إمبريقيةً إلى الثيولوجيا، ومن التشريح والفلك إلى «المعرفة الحدسية» للإله الحقيقي، التي يصل ابن يقظان إليها في خامس سباعيات حياته، أي عن عمر خمسة وثلاثين عاماً، صاعداً سلّم الروح من داخله.

تندرج الرسالة في تراث أفلاطوني (أو أفلاطوني محدث) وصوفي في آنٍ معاً. إذ يهتم ابن طفيل بوضع شخصيته في مختبر خالٍ من أي شوائب بغية اختبار الفطرة، هذا المفهوم الثيولوجي الإسلامي، الذي يمكننا تعريفه كاستعداد طبيعي لدى الإنسان للتوجه نحو الدين الحق، ولكن أيضاً للدفاع عن كونيّة سابقة للغة، وسابقة بالتالي للحياة ضمن مجتمع، وتحوي سلفاً كل علوم الإنسانية بما يسبق أي مؤثر خارجي. وهذا «المختبر» ذهني، وأدبي بالطبع. لا يبغي ابن طفيل أن تكون قصة ابن يقظان حقيقة، بل عبرها يعرض مرافعته عن أفلوطين، وعن فلاسفة الطرق الصوفية. وما يهمني عند هذه النقطة هو هذه الشخصية المركزية في النص، هذا «الفيلسوف ذاتي التعلّم»، أي هذا الإنسان الذي تعلّم كلّ شيء بنفسه، أو علّم نفسه كل شيء. ما يهمني هو البحث في إمكانية وجود معرفة دون وسيط، حيث المعلم والتلميذ هما الشخص ذاته.

يسرد المؤرخ اليوناني هيرودوت (القرن الخامس الميلادي) تجربةً قام بها الفرعون بسماتيك الأول، إذ تَرَك رضيعاً حديث الولادة برعاية فلاّحَين، في ركن جبلي بعيد، وأمرهما بألا يتحدثا معه ولا بكلمة واحدة. أراد الفرعون معرفة أي لغة سيعبّر فيها الرضيع «بشكل طبيعي» حين وصوله لعمر التكلّم، وبذلك يعرف أيّ لغة هي اللغة الأصلية للبشرية. وحسب هيرودوت، صاح الولد مع بدء تمكّنه من إصدار الأصوات «بيكوس»، «بيكوس»، أي «خبز» باللغة الفريجية. وقد أثبتت قرون من التجارب مع «الأطفال المتوحشين»، التي شغلت العلوم المتنوّرة في نهايات القرن الثامن عشر، وعلى الضد من توجهات النزعات القومية، أنه لا وجود لأي «لغة أصلية للبشرية»؛ وأن لدينا نحن البشر نوعاً من النحو الكوني الفطري، يمكنه لاحقاً أن يأخذ أشكالاً محددة. ولكن، بدون تماس مبكر مع أيّ من هذه الأشكال المحددة – مع لغة معينة – فإن الملكات الإدراكية للفرد تتأذى. ليس الكلام ممكناً لمن ليس لديه إمكانية الكلام أصلاً، لكن هذه الإمكانية تحتاج لتبادل اجتماعي مبكر كي تنمو. لم يكن بإمكان طفل بسماتيك، ولا رومولوس ورموس، ولا حيّ بن يقظان، ولا فيكتور الأفيروني (ولا ماوكلي أو طرزان، بطبيعة الحال) أن يتعلموا أو يعلّموا أي شيء، ولا أن يبنوا في رؤوسهم معارف رياضية وثيولوجية إنسانية دون مرافقة بشر آخرين. يحدّد الإدراج المتأخر بشكل أو بآخر في لغة – كما يحصل مع الصمّ، الذين أنقذهم ما تُسمى «لغة الإشارة» – المصير الإدراكي للأطفال، وبالتالي إمكانات التعلّم لديهم.

على كلّ حال، ليس هذا إلا ابتذالاً علمياً. ما يهمنا هنا، كما سبق أن قلت، هو التفكير بمفهوم «الفيلسوف ذاتي التعلّم» لدى حيّ بن يقظان اعتباراً من الذخر الأفلاطوني، والسقراطي بالمحصلة. لنتذكر أن حيّ بن يقظان كان يعلم كل شيء حين تعلّم الكلام بلقائه آسال، واكتفى بعدها بترجمة معرفته الرفيعة إلى اللغة العربية وسط ذهول صديقه. ليس هذا الأمر ممكناً من وجهة نظر عصبية، لكن الفكرة مُلهِمة للغاية من منظور فلسفي.

أشهر عبارات الفيلسوف الإغريقي سقراط (المتوفى عام 399 قبل الميلاد) تلك التي يقول فيها: «أعرف فقط أنني لا أعرف شيئاً». لماذا يلحّ سقراط، أبرز علّامات البشر، على أن يظهر بهذا التواضع؟ لأنه كان قلقاً على ما يعتقد أنه يعرف، على ما يعتقد البشر أنهم يعرفون. هذه «المعرفة بأنني لا أعرف» هي في الواقع نتيجة اكتشاف لا معرفة حقّة دونه: اكتشاف أنني في الحقيقة لا أعرف ما أعتقد أنني أعرف. مع اللغة، التي لا نكتسبها إلا ضمن مجتمع، نكتسب أيضاً قيماً وأدلة ومعارف ذاتية لهذا المجتمع، وأيضاً تحيزات هذا المجتمع وقصر نظره. بقوله «أعرف فقط أنني لا أعرف شيئاً»، يهدم سقراط معارف لا شك فيها في زمنه وفي جماعته: عدم معرفة شيء يعني الجهل بقدرات الآلهة، وبالإجراءات الخطابية للمجالس، وبالأعراف الناظمة للسياسة الأثينية، وبالآليات التقليدية لانتقال المعارف، أي كل ما يشكّل جزءاً لا يتجزأ من هوية الإغريق. قراءة عبارته الشهيرة بهذا الشكل تساعد على فهم لماذا حكمت عليه محكمة بالموت بتهمة «الإفساد».

بقوله «أعرف فقط أنني لا أعرف شيئاً»، أخبر سقراط مواطنيه أنهم لا يعرفون شيئاً، وأنهم لا يعرفون حتى أنهم لا يعرفون. وكأنه يقول لهم: عليكم أن تتوقفوا عن معرفة ما تعتقدون أنكم تعرفون من أجل أن تشرعوا بالمعرفة الحقّة. اخترع سقراط منهجاً تعليمياً أسماه «مايوتيك» (المنهج التوليدي السقراطي)، بالإشارة لعمل القابلة، التي، من موقعها خارج عملية الولادة، تساعد الأمهات على إنجاب الطفل الخارج من داخلهن بقدرتهن الذاتية. وهذا المنهج هو ما عُرف بـ«الديالكتيك» اعتباراً من أفلاطون، إذ تبلور حرفياً على شكل «جدال» اشتُهر إثره تلميذ سقراط. لم يكن يعرف شيئاً، وبالتالي لم يكن بإمكان سقراط أن يعلّم أي شيء، بل اقتصر دوره على طرح الأسئلة. وعبر هذه الأسئلة يكتشف المُحاوِر، من حيث المبدأ، أنه لا أساس لكل ما كان يعتقد أنه يعرف، وأن كل معارفه المكتسبة تنهار أمام هذا الاستجواب كقلعة رملية تلعقها الأمواج. هكذا، يسلك السؤال بحد ذاته سلوك التصريف أو المسح التحضيري: بعجزه عن الإجابة، يجد المحاوِر نفسه فارغاً، ما لا يستجلب ردود أفعال ودودة وممتنّة على الدوام.

لكن، احتوى المايوتيك في الوقت ذاته كموناً بنّاءً. هذا هو البُعد المُدخَل من قبل أفلاطون، والذي يبرزه «الفيلسوف ذاتي التعلّم» لدى ابن طفيل. فلحظة اكتشاف المُحاوِر أنه لا يعرف شيئاً، لأن ما كان يعتقد أنه يعرف لم يكن معرفةً حقّة، سيكتشف أيضاً، باتجاهٍ معاكس، أنه في الواقع يعرف أشياء أكثر بكثير مما كان يعرف: أشياء لم يكن يعرف أنه يعرفها، أشياء كان يعتقد أنه لا يعرفها. سقراط قال: أعرف فقط أنني لا أعرف شيئاً. ليضيف أفلاطون: كلنا نعرف أكثر مما نعرف. لنقل أن محاوِر سقراط كان يعلم كل شيء إلى أن بدأ بالكلام، إذ كان يعرف ما نقلته لغة الإغريق إليه، لكن حالما تم التخلص من المعرفة الزائفة، التي يفتّتها السؤال السقراطي، يتنبه المحاوِر أن هذا الفراغ ممتلئ، وبأنه بات يعرف كل ما كانت تلك المعرفة الزائفة تعيق معرفته. عبر سَلسَلة الأسئلة، بإمكان الروح أن تكتشف بنفسها، على سبيل المثال، الهندسة. لنتذكر حوار مينو الشهير، حيث استجوب الفيلسوف بصبرٍ عبداً حتى تمكن، أمام دهشته ذاته ودهشة سيّده، من استخلاص مبرهنة فيثاغورس: في مثلث قائم الزاوية، مجموع مربعي طولي أضلاع الزاوية القائمة يساوي مربع طول الوتر. أي أن أجنبياً، غير إغريقي، وفوقها عبد، يحمل في داخله معرفة معممة وكونيّة. ليس من المستغرب أن صيغة مبسّطة من «نظرية المُثُل» لدى أفلاطون – تلك التي انتشلتها الأفلاطونية المحدثة وتعلمناها في المدارس – قد عمدت للقول بأن البشر يولدون مع ذخرٍ مقموع من الأفكار الحقّة، المنسية داخل ضباب الجسد وعلاقاته الدنيوية، وبالتالي فإن اكتساب المعرفة ليس في الواقع، ببساطة، إلا تذكّراً. ويشكّل هذا المفهوم للمعرفة كذاكرة من حياة سابقة استعارة تشبيهية جيدة لعمل الفيلسوف: إنسان غرائبي بإمكانه، لأنه لا يعرف شيئاً، أن يساعد نفسه وأن يساعد الآخرين على استعادة ما يجهلون معرفته من أعماق أرواحهم.

فالمسألة تحديداً هي هذه. فنحن البشر، كحيوانات لغوية، نكتسب اللغة ضمن مجتمع؛ نكتسب مع اللغة – دعونا نقول – المجتمع بحدّ ذاته. لكن أيّ مجتمع، بما في ذلك أسوأ المجتمعات، مكوّن أساساً من مجموعة مستقرة من الأجوبة. فالمجتمع، أي مجتمع، عدا ما يوفره من رعايات وصدمات، فإنه يوفر لمواطنيه الكثير من الأجوبة المشتركة. وعلى عكس ما نتوقّعه، لا نعوز نحن البشر أجوبة في فترات الأزمات، بل إن لدينا فائضاً من الأجوبة. نولد في عالم قد سبقنا في بنيانه، ونستوعبه في أجسادنا عبر الكلمات عبر سلسلة من الانتشارات، في عملية تعلّم توسعية هي في الوقت عينه عملية اندماج اجتماعي ضرورية. فمنذ طفولتنا، ودون حاجة لأن نسأل، نعلم كم جنساً هناك، وما هو الأب وما هي الأم، وكيف نحيي، وكيف نأكل، وكيف نتعامل مع الضيوف وكبار السنّ والموتى؛ وما هي رايتنا وما هي ثيابنا؛ وما معنى البيت وما معنى السُلطة؛ وأين يجب أن نتحدث وأين ينبغي أن نصمت؛ وماذا عسانا أن نتوقع من حكومة، أو من جار، أو من حبيب، أو من مجهول. نعرف أن الأرض مستوية لنعرف لاحقاً أن الأرض كروية؛ نعرف أن الأرض في مركز الكون لنعرف لاحقاً أنها تدور حول الشمس؛ نعرف أن الإنسان قد خلقه الله لنعلم لاحقاً أنه قادم من تطوّر أصناف بيولوجية أخرى. بعض هذه الإجابات الأنثروبولوجية أو العلمية حصيف، وحتى خيّر، أو على الأقل بريء؛ فيما بعضها الآخر مغلوط وخطير. لكن كل الأجوبة مطمئنة على أية حال، إذ توفر علينا جزع أن نقرر في كل لحظة كيف يجب أن نتصرف حيال الأشياء ومع الأجساد. دون هذه الأجوبة تستحيل الحياة الاجتماعية، ودون مساءلة هذه الأجوبة تصير الحياة تدميرية ولا تُطاق. كيفما حصل، نولد وبحوزتنا كل الأجوبة تقريباً، وما يهمنا هو معرفة ماذا نفعل بها. أن نعرف أننا لا نعرف شيئاً، كما أراد سقراط، ليس إلا أسلوباً للتمرد على هذه الأجوبة المعطاة؛ ومعرفة أننا نعرف أشياء كثيرة غير معروفة دون أن نعرف ذلك، كما أراد أفلاطون، ليس إلا نوعاً من استباق عالم آخر ممكن. على أي مجتمع ديمقراطي أن يجد سبل الموازنة بين نقل الأجوبة التي رسّختها الأجيال السابقة وبين تجديد الأسئلة الواقي من التحجّر الاجتماعي والصدفة الجماعية. لا مجتمع دون تراث، ولا تقدم فردي أو جماعي دون مساءلة. وعلى كلّ مجتمعٍ أن ينشر نمطاً من التحيّة والاحتفاء والتعامل مع الموتى، ودفعاً من عدم الاكتفاء الدائم بطرح أسئلة جديدة.

لدينا فائض من الأجوبة، خصوصاً في أزمنة الأزمات. الآباء يقدمون أجوبة. الكهنة، والمفتون وآيات الله يقدمون أجوبة. والطغاة يقدمون أجوبة. الآلات تقدم أجوبة. السوق يقدّم أجوبة. الفلسفة، بدورها، تطرح أسئلة. لا يحتاج أي مجتمع لطغاة، بل نحتاج لآباء حتى وإن أخطأوا، ونحتاج – نوعاً ما – لكهنة وآلات وسوق. لكن ثمة ما نحتاجه أكثر: كل مجتمع، بالإضافة لحاجته لأمهات، يحتاج لحجز حيّز على هامش الإجابات المجتمعية، بل محمياً من الإجابات المجتمعية، حيث يقتصر الناس على طرح الأسئلة. أسئلة قد نتمكن من الإجابة عليها، أو قد نتمكن من تقديم إجابات مبدئية عليها بما يجعلها تعمل كممرات نحو أسئلة جديدة.

حين نتحدث عن التربية فإن بإمكاننا فهمها بإحدى هذه الطرق: إما كناقل بحت لإعادة إنتاج الأجوبة الاجتماعية المستنبطة سلفاً، أو كالتقاء غير مصلحي بين ذاتيّي التعلّم الذين يكتشفون، بمساعدة من قابِلة، كل تلك الأشياء التي لم يكونوا يعرفون أنهم يعرفونها. تهتم العائلات والآلات والأسواق بإعادة إنتاج الأجوبة الاجتماعية، أحياناً بما هو خير وأحيان أخرى بما هو ليس كذلك؛ أما إنتاج ذاتيي التعلّم، في مقابل العائلات والآلات والأسواق، فلا يمكن إلا أن يكون مهمة المدرسة، مدرسة – بطبيعة الحال – عامة وعلمانية وكونيّة. وهذا في الواقع ما نطلق عليه اسم «فلسفة».

في نهاية الرسالة، يقرر ابن يقظان ورفيقه آسال عدم نقل معارفهما إلى البشر، إذ يريانهم همجيين وغير جديرين بالتعلّم وعاجزين عنه، ويعودان إلى الجزيرة ليتفرغا للمعرفة الإلهية العليا. وهنا يحصل التفارق بين ابن طفيل وتعاليم أفلاطون حول ضرورة «العودة إلى الكهف» وتعليم كل البشر على حدّ سواء وسط الظلام، بما في ذلك العبيد (الذين سيصبحون أحراراً أيضاً بهذا الشكل). ليس هناك تعلّم ذاتي، على نقيض رواية ابن طفيل، لأنه لا وجود لمعرفة دون لغة ودون رفقة اجتماعية؛ لكن كل تعلّم هو، للمفارقة، تعلّم ذاتي، ذلك لأن المرء نفسه يكتشفه، بمساعدة مجتهدة، في أعماق ذهنه، مخبأً تحت رمال اللغة والرفقة الاجتماعية. وأكثر مفارقةً، حتى، أن المحبوس في قعر أذهاننا (يا للمعجزة) هو بالذات الأكثر عمومية – ما يربط جميع البشر عبر الفن أو العلوم – والمدخل الوحيد الممكن إليه هو الفلسفة؛ أي: هذا المكان الذي يجري فيه الحوار العمومي بين ذاتيي التعلّم الكثيري الأسئلة، والذي نطلق عليه اسم «مدرسة». تعرضت الفلسفة دوماً للتهديد من قبل الكنيسة والطغيانات وأجوبتها المتحجّرة، وهي مهددة اليوم من قبل الرأسمالية، التي تحتاج لأفراد غير متصلين (في العمل، في السوق، في الشبكات) وليس لمتعلّمين ذاتياً متصلين عبر الكتب، وعبر الأساتذة، وعبر نقاشات الحيّز العام.