لا يضاف جديد حين تُعزى للإصلاح الدينيّ، في تجربته الأوروبيّة، أهميّة فائقة، أو حين يشار إلى حاجة ماسّة، من حيث المبدأ، لما قد يعادله في العالم العربيّ. مع هذا فافتراض البعض أنّ إصلاحاً مشابهاً ممكن في الإسلام، في الظرف العربيّ الراهن، يبقى ممّا يصعب حمله على محمل الجدّ، علماً بأنّ إقراراً كهذا لا يحلّ شيئاً ولا يزوّد أحداً مخرجاً انتصاريّاً. إنّه يفاقم مأسويّة المأساة فحسب.
والحال أنّ بعض التفاؤل باحتمال الإصلاح وبقرب هبوطه على ربوعنا صادق، تؤرّق أصحابَه وطأةُ التخلّف وتستولي عليهم طريقة بسيطة في تقليد «الناجحين» الأوروبيّين، فيما بعضه الآخر زائف هاجس أصحابه الفعليّ دفع الناس بعيداً من التغيير السياسيّ صوب التغيير في الدين. وقد سبق للتفاؤل هذا، كائناً ما كان مردّه، أن حرّض على الكثير من نقده: هكذا رأى نقّاد تقنيّون أنّ الرجوع إلى الكتاب المقدّس وحده مستحيل في الإسلام بسبب ثنائيّة القرآن والحديث، فيما «صحيح» الحديث يُعدّ بالآلاف. لهذا فإنّ المبدأ اللوثريّ «الكتاب المقدّس وحده» (sola scriptura) لا يسري علينا. واقع الحال أنّ وصف هذا النقد بالتقنيّ يغمطه بعض حقّه. يكفي الرجوع إلى تجربة أحمد ابن حنبل في جمع الأحاديث التي استغرقت عشرات السنوات، وطالت عديد البلدان، ونهوض فقهه على ما جمعه وضمّنه «مُسند»ـه كي نتيقّن من محوريّة الحديث (السنّة) كـ«أصل ثانٍ» في الإسلام. أمّا النقّاد الإيديولوجيّون فتوقّفوا عند الافتقار إلى حامل اجتماعيّ يرتكز عليه الإصلاح، وهو ما كانتْه النُوى البورجوازيّة الأوروبيّة، وخصوصاً الألمانيّة، التي أرفقت سعيها الإصلاحيّ بتوحيدها السوق وإنشاء الأمّة ودمقرطة اللغة والتعليم. وظهر أيضاً من يشير إلى أنّ ثراء بعض الدول النفطيّة يمنع الإلحاح على الإصلاح الدينيّ ويطويه، لكنّ ما يُضعف هذه الحجّة أنّ فقر البلدان الأخرى لم يُسفر عن حضّ على ذاك الإصلاح.
ورغم ما قد تحمله الحجج المذكورة من وجاهة، تنحاز هذه الأسطر إلى سبب آخر تعزو إليه صعوبة الإصلاح في الإسلام، إن لم يكن استحالته. أمّا السبب هذا فأنّ ذاك الإصلاح الأوروبيّ جاء جزءاً من عمليّة تاريخيّة عريضة وسّعت نطاق الحرّيّة والفرديّة بقدر ما وسّعت رقعة الإنسان ومساحة العالم والكون، ممهّدةً لتوحيدهما الذي استكمله لاحقاً تنوير القرن الثامن عشر. وهي كانت عمليّة متفاوتة الأجزاء ومختلفة الحقول،لا يلغي هذا وجود مَن يستندون إلى هذين التفاوت في الأجزاء والاختلاف في الحقول ليضعوا النهضة والإصلاح الدينيّ في موقعين متضاربين، بل ليردّوا، داخل خانة الإصلاح، تضارب مارتن لوثر وديزيداريوس إيراسموس إلى تضارب الإصلاح (لوثر) والنهضة (إيراسموس). انظر مثلاً Michael Massing, Luther vs. Erasmus: When Populism First Eclipsed the Liberal Elite, NYRB, Feb 20, 2018. https://www.nybooks.com/daily/2018/02/20/luther-vs-erasmus-when-populism-first-eclipsed-the-liberal-elite/ وأحياناً متضاربة التوجّهات ومواضع التركيز. مع هذا صحّ وصفها بالعضويّة التي يؤثّر بعضها في بعضها الآخر وصولاً إلى تكامل واستواء عند محطّة تاريخيّة ما. ذاك أنّ تلك العمليّة، وفق برتراند راسل، «أوصلت إلى [مرتبة] الاكتمال تركيباً (synthesis) عظيماً، فلسفيّاً ولاهوتيّاً وسياسيّاً واجتماعيّاً». Bertrand Russell, History of Western Philosophy, Routledge, 2004. P. 439.
وتكفي، في المقابل، نظرة عجلى إلى راهن العالم العربيّ لإحباط الناظرين ودفعهم إلى مساءلة تفاؤلهم. ولسوف تكتفي هذه الدراسة في فقرتَيها الأوليين، الطويلتين نسبيّاً، باستعراضٍ، يعرفه كلّ مُلمّ بتاريخ تلك الحقبة، للعناصر الأهمّ التي سبقت الإصلاح، أو واكبتْه، ممّا يستحيل العثور على مقابل يشبهه في تجربتنا. أمّا جولتنا، هنا، على تلك العمليّة الأعرض التي اكتنفت الإصلاح، فليس هدفها إثبات «فضائل» التطوّرات الضخمة موضع التناول، ممّا فعله كثيرون على نحو أكفأ وأفضل، إذ الهدف التدليل على مدى النقص في شروط الإصلاح الدينيّ عربيّاً وإسلاميّاً، وعلى الجهد الذاتيّ الذي استدعته العمليّة الأوروبيّة ممّا لم نُعر مثله أدنى اهتمام لانشغالنا بهموم أخرى (الوحدة العربيّة، الاشتراكيّة، الإسلام، فلسطين…).
العالم اكتشافاً وتوسيعاً ووصلاً
ثمّة اتّفاقٌ، وإن لم يكن إجماعاً، على أنّ العمليّة التاريخيّة المشار إليها إنّما انطلقت مع التصدّعات التي ألمّت بـ«عصر الظلام» الناجم عن استيلاء «البرابرة» (الهابطين من ألمانيا واسكندينافيا الحاليّتين) على روما وتدميرها في 476، ومن ثمّ استيلاؤهم على أوروبا. فإبّان «عصر الظلام» ذاك، والذي نشأت بنشأته العصور الوسطى، انحسرت ثقافة روما وكادت تندثر لولا أنّ عصر النهضة أعاد، بعد قرون ستّة، اكتشافها.
هكذا ابتدأت «العصور الوسطى العليا» في حوالى 1100 مسكونةً ببُعد إحيائيّ مُلِحّ. وكان للحروب الصليبيّة التي انطلقت حملتها الأولى في 1096 أن رفدت الوجهة هذه، إذ باشرتْ تصديع الإقطاع، مُوفّرةً مصادر دخل تجاريّة ضعيفة الصلة بالأرض والزراعة. ذاك أنّ ما بدأ حملات دينيّةً انتهى وظيفةً اقتصاديّة وتبادليّة جعلت المتاجرة مع الشرق أحد شروط الثراء في الغرب، وهو ما كان أظهرَ وأفعلَ في إيطاليا ممّا في سواها، من غير أن يقتصر عليها. فعلى عكس ما نصفُ به غالباً الحروب الصليبيّة، جاعلينَها نزاعاً حربيّاً محضاً ومتّصلاً، اتّسعت تلك الحروب لعمليّات انفتاح وتعارُف وإعجاب أوروبيّ بالإسلام والمسلمين، فضلاً عن التبادل معهم، ممّا فاق عمليّات القتال زمناً وسِعَةً وعمقاً. عن النظرة الودّيّة، في إيطاليا خصوصاً، إلى الإسلام والمسلمين، انظر Jacob Burckhardt, The Civilization of the Renaissance in Italy, Harper Colophon Books, 1958. Vol 2, 1975. P. 274-75 & 269.
فقد برزت مثلاً «علامات لا تخطئ في القرن الحادي عشر على ظهور فائض سكانيّ لا تستطيع الأرض وحدها أن تُعيله». وفي تمثيلٍ، غير حصريّ، على ما بات يُعرف لاحقاً ببلجيكا، «انضمّ كثيرون من الفلمنك إلى الحملات الصليبيّة أو سجّلوا أنفسهم في جيوش النورمان (…) وهُرع آخرون إلى المدن مُضخّمين عدد الحِرَفيّين الذين لا يملكون أرضاً ومُوفّرين العمل المطلوب للصناعة المدينيّة الكبرى التي عاشت على مبادلة سِلَعها المَعمَليّة بالطعام (…) وقد نشأت مدن جديدة وأُحْيِيَت ووُسّعت أخرى قديمة، ومعها ضواح تعجّ بعمّال الملابس (…) مُكتسحةً ما كان، ذات مرّة، ريفاً». Eleanoha Carus-Wilson, “The Woollen Industry”, In M. M. Postan & Edward Miller (Ed.), The Cambridge Economic History Of Europe (Volume II), 2nd ed, Cambridge, 2002. P. 626.
ولئن اختلف المؤرّخون حول مدى أهميّة تلك الحروب في ما خصّ أوروبا وبُناها الاجتماعيّة، فإنّ الأهميّة نفسها لم تخضع للتشكيك. ذاك أنّ تقاطعات الطرق تحوّلت مراكزَ تجارة وتبادل ما لبثت أن تضخّمت وصارت مدناً وبلدات كبرى. وبدورها شرعت هذه «المدن الحرّة» (free towns) تنافس، على مركزيّة النشاط الاقتصاديّ، المنزولَ الإقطاعيّ (feudal manor) المكتفي ذاتيّاً، والذي يقيم فيه النبيل محاطاً بالعاملين على أرضه، وفق شروط تقارب العبوديّة. غامرنا بترجمة manor (بالفرنسيّة seigneurie) بـ«المنزول». من أجل وصف تفصيليّ للمنزول ووظائفه وأدواره، انظر Marc Bloch, Feudal Society (VOL. I): The Growth of Ties of Dependence, Routledge, 2nd ed., 1965. Chap. 18.
وشيئاً فشيئاً وسّع سكّان تلك المدن نفوذهم مقابل دفع قسط من أرباحهم التجاريّة إلى الإقطاعيّين، بحيث نشأت بين الطرفين عقود صارت تُعرف بـ«المواثيق» (charters) وتنظِّم، للمرّة الأولى، علاقة الفئتين. ويفسّر المؤرّخ الفرنسيّ الكبير مارك بلوخ تزايد «المواثيق» بأسباب كثيرة منها أنّ الأسياد باتوا يستسيغون «الوضوح القانونيّ»، أمّا الفقراء «فبسبب تقدّم التعليم، أُسبغت عليهم أهميّة لا سابق لها»، لكنّه يستدرك: «هذا لا يعني أنّ الكثيرين منهم أجادوا القراءة، لكنْ ما من شكّ في أنّ السبب الذي جعل جماعات ريفيّة وأمّيّة عديدة تطالب بالمواثيق وتحتفظ بها وجودُ جيران في نطاقهم، من رجال الدين والتجّار ورجال القانون، كانوا مستعدّين أن يفسّروا لها تلك الوثائق».المرجع السابق، ص. 276.
والمدن لم تعد خاضعة لسلطة الإقطاعيّ بل صارت تحكمها نقابات المهن القروسطيّة (guilds) التي تتفرّع تبعاً لتفرّع الأعمال والسِلع التي تتعاطاها. وإذ ظهرت، تسهيلاً لنشاط تلك المدن التجاريّ، النُوى المصرفيّة، تدفّقَ على المدن المذكورة أفراد آثروا العيش أحراراً، بعيداً من سلطة إقطاعيّيهم في المنزول، وهو ما أكسبها صفة «الحرّة».
وكان للمدن أن رعت نموّ روابط مستقلّة نسبيّاً، كبعض البلديّات والجامعات، كما واكبت توسّع العائلة النواة والأسواق التي تجرّدت من أصولها الشخصيّة والعائليّة. وفي تلك التجمّعات البلديّة عاش البرغر (burghers)، أو النُوى البورجوازيّة، قياساً بالأقنان المقيمين في القرى.انظر Joseph Henrich, The WIERDest People in the World: How the West became Psychologically Peculiar and Particularly Prosperous, Ferrar, Straus & Giroux, 2020, p.416. ومن جهته يشرح بلوخ أنّه بعد الخضوع لأشكال من الضرائب و«التقاليد» الجائرة، التي «لا تستوي مع الحرّيّة»، «رفض أعضاء الكثير من جماعات البرغر في شمال فرنسا، في القرن الثالث عشر، السماح بأن يُعامَلوا كأقنان». Marc Bloch, Feudal Society…, p. 262.
وعن التحوّلات هذه نتج تعليم وثقافة جديدان. فبعدما كان الدَيْر المكان الوحيد للتعلّم، منه يتحوّل الخرّيج راهباً ينتمي حُكماً إلى الكنيسة ويدين بالولاء للبابا، وُلدت من أرحام المدن الجامعات. وإذا صحّ أنّ الأخيرة ظلّت تدرّس الدين وتعلن انضواءها تحت راية الكنيسة، فإنّها بدأت تفسح المجال للتفكير الحرّ، وتدرّس التاريخ والجغرافيا والشعر واللغات أيضاً، كما توسّع هامش استقلاليّتها. ففي سبعينات القرن الرابع عشر مثلاً تجرّأت جامعة أوكسفورد (التي تأسّست في 1096) على رفض الاعتراف بسلطة التشريع البابويّ على أساتذتها.
ومن شمال القارّة إلى جنوبها، كان التاريخ يسرع الخطى. فمع البدايات النهضويّة التي ظهرت في شمال إيطاليا، في النصف الأوّل من القرن الرابع عشر، كان اللاهوت لا يزال أهمّ فروع التعليم. لكنّ الاهتمام بالحياة على الأرض، لا في السماء فحسب، أثار فضولاً تعليميّاً بالإنسانيّات ودرجةً أعلى من الاعتماد على العقل ضدّاً على الخرافة والتنجيم، وذلك لاختبار المسائل التي ظُنّ أنّها تساعد على فهم الحياة وتذليل مصاعبها. وهذا ما أوجب دراسة اليونان وروما القديمتين تبعاً لما اكتنزتاه من خبرة ومعرفة بالجوانب الإنسانيّة والحياتيّة: من اليونان، الفنّ والعمارة ومساهمات في العلوم والرياضيّات والأدب، وطبعاً في الفلسفة، ومن روما، ما استوعبه الرومان من حضارة اليونان مضيفين إليه تطوير أساليب الحكم والقوانين وبناء الجيوش ونشر اللغة اللاتينيّة، فضلاً عن الفنون والعمارة وبناء الجسور والمدن ذات الأنظمة المائيّة المتينة والمتطوّرة. وهكذا بدأ الحفر في خرائب روما بحثاً عمّا تبقّى من تينك الحضارتين، كما سافر مهتمّون وفضوليّون إلى أمكنة بعيدة سعياً وراء كتب ومخطوطات قديمة. وكان لهذه الخرائب، في روما وحولها، فعلُ إثارة يجمع بين استنهاض الحنين إلى ماض أركيولوجيّ واستنفار التوق إلى غد واعد.
alt=”Art and science in Renaissance Italy – Medieval manuscripts blog” data-noaft=”1″ jsaction=”load:XAeZkd;” jsname=”HiaYvf” src=”https://blogs.bl.uk/.a/6a00d8341c464853ef0240a46fa026200c-500wi”>
ومن مكان بعيد نسبيّاً جاء مدد آخر: فقد توجّه غرباً وشمالاً سكولائيّون يونان كثيرون هاربين من سقوط القسطنطينيّة للعثمانيّين في 1453، واستقرّ أغلبهم في إيطاليا. هؤلاء كانوا مُحمّلين بما هرّبوه من كتب ومخطوطات ووثائق، بحيث أنّ الكتاب المقدّس الذي كان لا يُقرأ إلاّ باللاتينيّة، صار يُقرأ بلغتيه الأصليّتين، العبريّة واليونانيّة، فيما راحت تشيع ترجمة النصوص الكلاسيكيّة وتعمّ.
ومن إسبانيا أتت ثقة بالنفس ومكافأة على صبر غير مسبوق. فقد تمكّنت إيزابيلّا وفرديناند باحتلالهما غرناطة في 1492 من تتويج «إعادة الفتح» المسيحيّ المديد الذي عاد أوّلُ انتصاراته، وكان ذلك في ساراغوزا (سرقسطة)، إلى 1118. لكنّ العام 1492 سجّل حدثاً آخر سوف يستولي على المستقبل، هو اكتشاف كريستوف كولومبوس الأميركتين. ولمّا كان الملكان الزوجان قد رعيا رحلته إليهما، أبحر كولومبوس في ظل العلم الإسبانيّ. وما هي إلاّ ستّ سنوات حتّى وصل البحّار والمكتشف البرتغاليّ فاسكو دا غاما إلى الهند واصلاً، عبر المحيطات، آسيا بأوروبا.
وكانت الرحلات والكُشوف الجغرافيّة قد بدأت في 1419 انطلاقاً من موانئ البرتغال، بحثاً عن الذهب والعاج والملح من أفريقيا، وللعثور على طريق بحريّ إلى آسيا يمكّن البرتغاليّين من السيطرة على تجارة التوابل والحرير والمجوهرات وسلع أخرى تنتجها ممالك آسيا. وللغرض هذا أرسل الأمير البرتغاليّ هنري قرابة 60 بعثة لاكتشاف عالم مجهول، وأنشأ مدرسة للملاحة ضمّت أفضل الجغرافيّين والفلكيّين والرياضيّين والبحّارة، وجمعت ما تيسّر من معلومات عن البحار والأنواء وحركتها.
وإلى التحسّن الكبير في بناء السفن، سجّل علم الفلك تغييراً في فهم الناس لموقع الأرض في الكون ولكونها كتلةً تتحرّك، ضدّاً على رواية الكنيسة من أنّها مركز جامد للكون. ومع الفلكيّ البولنديّ نيكولاوس كوبرنيكوس سدّد العلم ضربته، قبل أن يجيء لاحقاً الإيطاليّ غاليليو غاليلاي مستخدماً التليسكوب، المُخترَع حديثاً في مطالع القرن السابع عشر، ليدرس حركة الأفلاك. هكذا اقترب البعيد، وغدا كثير من المجهول معلوماً، خصوصاً وقد تأدّى عن اكتشاف الميكروسكوب في هولندا، عام 1590، إدراك الصغير والمُخبّأ الذي لم يكن وجوده ليخطر للناس.
وهي كلّها تطوّرات كانت تخطّئ الكنيسة والمركّب الدينيّ الخرافيّ الذي تغرف أحكامها منه. وعلى العموم، وباللغة البليغة لبرتراند راسل، «وسّع فاسكو دا غاما وكولومبوس العالم، ووسّع كوبرنيكوس السماوات».Bertrand Russell, History…, P. 447.
لكنّ العلميّة الصاعدة حينذاك كانت لها، بحسب مؤرّخ الأديان والأساطير المحافظ ميرسيا إلياد، «أهميّتها الدينيّة». وهو إذ يعود إلى «نظام لاهوتيّ أوحى به اكتشاف أميركا»، يرى أنّ كولومبوس كان «للتوّ، مُنطبِعاً بالطابع الأخرويّ لرحلته» التي اعتبرها «معجزة بيّنة» بسبب اختيار الله له في هذه المهمّة.Mircea Eliade, A History of Religious Ideas: From Muhammad to the Age of Reforms, Volume 3, Chicago, pp. 236 & 237. وتأويل كهذا يتيح التأمّل في وظائف مفتوحة ومُتجرّئة للدين عاشت طويلاً محبوسة في صندوق كنسيّ مغلق.
في هذه الغضون كان الألمانيّ جوهان غوتنبرغ قد اخترع المطبعة في خمسينات القرن الخامس عشر، ما تأدّى عنه توسيع التعليم ومحاصرة الأميّة والتشجيع على الكتابة باللغة المحلّيّة. فالكتب، في القرون الوسطى، كانت تُنسخ باليد وفق مهنة تكاد تقتصر على الرهبان، كما قلّ حتّى الندرة وجود الكتاب خارج الكنائس والأديرة. وإنّما بنتيجة المطبعة تزايدت الكتب، وإذ هبطت أسعارها ارتفعت القدرة على شرائها واقتنائها، وبات ذلك بلغات عدّة بعدما كانت اللاتينيّة تحتكر المكتوب. كذلك أوجدت الطباعة وانتشار الكتب وتعميمها توحيداً للّغة الواحدة بدل الطرق المناطقيّة المختلفة.
وإذ ينقل بنديكت أندرسون عن فرانسيس بيكون قوله إنّ الطباعة غيّرت «هيئة العالم وحالته»، يسجّل أنّ اللغات المطبوعة أسّست للوعي القوميّ بطرق مختلفة أهمّها «أنّها خلقت حقولاً موحّدة للتبادل والتواصل هي أدنى من اللاتينيّة وأعلى من العاميّات المحكيّة». وبينما صار ممكناً التفاهمُ الذي كان مُعاقاً بين الناطقين بالأنواع المختلفة من الفرنسيّات والإنكليزيّات والإسبانيّات، تنبّهَ مُتبادلو الكلام هؤلاء إلى وجود «مئات الآلاف، بل الملايين، من السكّان الذين يشتركون معهم في لغة-حقل بعينها، وانتبهوا، في الوقت نفسه، إلى أنّ مئات الآلاف أو الملايين أولئك هم وحدهم الذين يشاركونهم هذا الانتماء»، وبالتالي فمنهم، هم الذين يجمعهم «حيّز علمانيّ» مشترك، انبثق ما يسمّيه أندرسون «جماعة مُتخيَّلة».Benedict Anderson, Imagined Communities: Reflections on the Origin and Spread of Nationalism, VERSO, 2006. P. 37 & 44.
ولم يكن هناك أكثر من مارتن لوثر إفادةً من هذا التطوّر الخطير. فأعماله «مثّلت ما لا يقلّ عن ثلث مجموع الكتب الصادرة بالألمانيّة التي بيعت بين 1518 و1525. وبين 1522 و1546، ظهر ما مجموعه 430 طبعة (كاملة أو جزئيّة) من ترجماته الإنجيليّة». وبهذا، كما يضيف أندرسون، أصبح لوثر «أوّل المؤلّفين الأكثر مبيعاً» و«أوّل كاتب يستطيع أن ’يبيع‘ كتبه استناداً إلى اسمه».المرجع السابق، ص. 9 و39. وبالمطبعة وطباعتها عصف بالألمان، بحسب المؤرّخ الأميركيّ ثوماس أي برادي، شعور بالفخر مردّه أنّ الاختراع هذا يرفعهم «إلى سويّة الحاملين الروحيّين للمعتقدات المسيحيّة، ولكلّ العلم، المقدّس منه والأرضيّ»، كما غدت الطباعة تُسمّى «الفنّ الألمانيّ».Thomas A. Brady Jr, German Histories in the Age of Reformations, 1400–1650, Cambridge, 2009, p. 26.
alt=”7 Ways the Printing Press Changed the World – HISTORY” data-noaft=”1″ jsaction=”load:XAeZkd;” jsname=”HiaYvf” src=”https://www.history.com/.image/t_share/MTY2NTE2OTU2MzQ0NjI0MzUx/961d16d5-5443-409c-ac14-23c67cb6592f.jpg”>
… إنّها النهضة
لقد شكّل عصر النهضة إحدى الذروتين الكبريين للتحوّل التاريخيّ الكبير، وكان الإصلاح الدينيّ الذروة الثانية.
وربّما كان جاكوب بوركهارت، بصورة أساسيّة يستند تناول عصر النهضة هنا إلى Jacob Burckhardt, The Civilization …, سبق الاستشهاد. المؤرّخ السويسريّ الذي صدر كتابه في أواخر القرن التاسع عشر، ولا يزال من أهمّ المراجع في دراسة النهضة،وإن تزايد نقّاده الذين يعترضون على حدّة القطع الذي أقامه بين النهضة والأزمنة السابقة عليها، مع تسليمهم بأهميّة الانفصال الذي أحدثته من حيث المبدأ وبضخامته. خير من وفّاها حقّها. ذاك أنّ النهضة مثّلت له نهاية العصور الوسطى وبداية العالم الحديث، كما كانت المكان الذي انعقدت فيه تغييرات بارزة طالت العلم والفنّ والاجتماع والثقافة والسياسة. وهي، قبل كلّ شيء، ولأوّل مرّة في التاريخ، طرحت الفرديّةَ بوصفها ثمرة التوكيد على خصوصيّة الإنسان، فكان «الطابع الجوهريّ للنهضة» ولاء الفرد لذاته وعدم استلابه بولاءات أخرى.
أمّا المهد الذي كانته إيطاليا فتوزّع إلى مجموعة من الدول المدن التي نمّت التجارةُ ثراءها وقوّتها. وباستثناء روما التي يحكمها البابا، كانت الأسَر الأرستقراطيّة والماليّة تحكم هذه المدن الدول الكثيرة، وأهمّها ميلانو والبندقيّة وفلورنسا، وإلى جنوب روما، نابولي.
وفي القرن الخامس عشر كانت الصدارة لآل مديتشي، العائلة المصرفيّة الفلورنسيّة التي يصف المؤرّخ الاسكتلنديّ نيال فيرغُسون دورها بالتالي: «بينما كانت الكنيسة تُدين تقاضي الفائدة بوصفه ربا، لم يكن هناك ما يمنع تاجراً بارعاً من جمع الأرباح عبر تلك العمليّات. هذا ما كان جوهر البزنس المديتشيّ». وهو يدلّل على قوّة السلطة الماليّة التي أحرزها المديتشيّون ورسوخها بلوحة بوتيتشِللي «عشق المجوس». ذاك أنّ حكماءهم الثلاثة الذين أحاطوا بالمسيح الوليد زعماء مديتشيّون راحلون (كوسيمو وبيارو وجيوفاني). و«لربّما كان ينبغي»، كما يضيف فيرغُسون، «أن تُسمّى [اللوحة] عشق المديتشيّين. فالمصرفيّون، بعدما كانوا ملعونين ذات مرّة، أصبحوا الآن أقرب إلى القداسة».Niall Ferguson, The Ascent Of Money: A Financial History Of The World, The Penguin Press, New York, 2008. PP. 44 & 46.
وكان للعائلة المذكورة أن رعت سياسة دعم سخيّ للثقافة والتعليم والفنّ، كما أنجبت بابوين، أحدهما ليو العاشر، صاحب «صكوك الغفران»، الذي تمرّد عليه مارتن لوثر. ذاك أنّ القوّة الاقتصاديّة والسياسيّة للكنيسة لم تعد، على رغم جبروتها، تُغني عن التحالف مع الثراء الجديد، التجاريّ والمصرفيّ، وأحياناً الالتحاق به. أمّا سلطتها الثقافيّة والأخلاقيّة فكانت تتراجع حينذاك أمام النزعة الإنسانويّة وحسّ الحرّيّة الناشئ، على ما سوف نرى لاحقاً.
ذاك أنّ القناعة العريضة التي عمّمتْها الكنيسة لقرون كان مفادها أنّ الحياة على الأرض لا قيمة لها تتعدّى العبور: إمّا إلى السماء أو إلى النار. وتولّت الأعمال الفنّيّة القروسطيّة توكيد هذه المعتقدات، خصوصاً مع تسييد قصص العهد القديم مفهومةً بحَرْفيّتها وزرعها في سكّان أكثرهم أمّيّون. وكان لتركيز كهذا على الحياة الروحيّة الداخليّة أن أضعف الاهتمام بالحياة الماديّة التي تحيط الجميع وتُخضعهم لإملاءاتها، كما قلّصَ رقعة الإنسان حيال نصّ مقدّس مترامي الأطراف لا تقرب الاستعارةُ والمجاز تأويلَه.
وبدورها ردّت النزعة الإنسانويّة (humanism)، مُوحيةً بوجوب اقتصار السلطة الكنسيّة على النطاق الروحيّ وحده، بعيداً من الشؤون المدنيّة أو السياسيّة أو العلميّة، إذ الناس يتدبّرون هذه الأخيرة بطرقهم، وبأنفسهم يسيطرون على مصائرهم. وكما أنّ تلك التوجّهات لم تنفصل عمّا حمله الإصلاح الدينيّ ووسّعه، فهي ردّت على الطريقة التي درج الأوروبيّون على النظر بموجبها إلى أنفسهم، أي القبول بوضعهم خارج دائرة «الإنسان» الفاعل استناداً إلى مسيحيّة لم تكن تخلّصت تماماً من الوثنيّة والسحر والأقدار المسبقة والقوى غير المنظورة.
إذاً بدا بَشَر الإنسانيّة (humanity) أشبه بجزيرة تواجه محيطاً خانقاً يؤثّر ولا يتأثّر، فيما بدت الثقافة أوّلَ المدعوّين إلى تكثير هؤلاء البشر وتمكينهم.
وبالأدب يبدأ كثيرون ممّن تناولوا النهضة أو درسوها. فهي، لا سيّما بفعل بُعدها الإحيائيّ في إعادة اكتشاف اليونان وروما، حركة أدبيّة أساساً. وجهُها الأبرز كان دانتي أليغري (1265-1321)، الشاعر الذي عُرف خصوصاً بـ«الكوميديا الإلهيّة» بأجزائه/أطواره الثلاثة (الجحيم والمطهر والفردوس). وقد كتب دانتي بالإيطاليّة، وهو ما لم يكن عملاً مألوفاً، وهاجم الكنيسة وسخر منها، ما لم يكن مألوفاً أيضاً. وفي القرن الرابع عشر ظهر جيوفاني بوكاتشيو وفرانشيسكو بترارك الذي سُمّي «أب الإنسانويّة» لكتابته شعراً دينيّاً فيه عنصر وعاطفة إنسانيّان. وبعد قرنين وجدت مسيرة الأدب هذه تتويجها الكبير في اثنين: وليم شكسبير الذي، بين أمور كثيرة أخرى، درس طباع البشر وما تحت طباعهم، وعُدّ مؤسّس المسرح الكبير، ومعاصره الإسبانيّ ميغيل ثيربانتس الذي سُمّي عمله «دون كيشوت»، الساخر من عصر الإقطاع وبلهه، الرواية الأولى في التاريخ.
وكانت هندسة العمارة بعض ما غيّره صعودُ النزعة الإنسانويّة للنهضة. ذاك أنّ عين الناظر كانت، مع العمارة القوطيّة، تنشدّ إلى الراسخ والشاهق والأعلى، فيما لم يُلحَظ الذين هم تحت ما لم يُؤشَّر إليهم من فوق. وبالتالي كانت الأهميّة والمركزيّة تفوتان الفرد الناظر، وتفوتان بالطبع الفرد المنظور، مُثبَّتَتَين على نظام مُحكَم ومتكامل ومُسْتَولٍ. وعلى هذا الصعيد اعتُبر أهمّ أعمال النهضة كنيسة الدومو في فلورنسا التي بدأ بناؤها في 1296 وأُنجز في 1436، في عهد كوسيمو مديتشي، أحد أكثر رجالات النهضة إنفاقاً على الفنون. فالدومو التي تسقفها قبّة مستديرة (سُمّيت تبعاً لها)، يفرّقها الكثير عن المباني السابقة الحلزونيّة أو اللولبيّة التي تدفع النظر إلى الأعلى. معها تتّجه العين إلى مركز نصف الدائرة، فيطغى تواضع الإنسانيّ وإلفته على التعالي القوطيّ المُستلِب. وبالدومو، الرائية والمَرئيّة على مدى مسافة طويلة، يتأكّد أنّ المركز هنا، وبيننا، وأنّنا، نحن البشر، المركز.
alt=”Florence Cathedral – Wikipedia” data-noaft=”1″ jsaction=”load:XAeZkd;” jsname=”HiaYvf” src=”https://upload.wikimedia.org/wikipedia/commons/7/77/Florence_Duomo_from_Michelangelo_hill.jpg”>
أمّا الفنّ البيزنطيّ القديم الذي نقل عالَم القدّيسين والمسيح والعذراء والملائكة، وأوحى بعظمة الكنيسة وجلالها، أو حضَّ على الطاعة والسلطة والإيمان، فغيّرتْه النهضة أيضاً. فقد راح يظهر، في العمل الفنّيّ، ما يعني الإنسان ويهمّه وما يدلّ على اكتراث أكبر بالحياة على الأرض. هكذا شرع الفنّانون يطوّرون أنماطاً خاصّة في التعبير تطارد النمط المنتشر السائد، مُنتجين تمثيلات للواقع أكثر صلةً به وإحالةً إليه. فالقدّيسون المسيحيّون صاروا يُرسَمون ويُنحَتون ليحلّوا محلّ الفسيفساء والجداريّات البيزنطيّة، كما غدا الرموز المسيحيّون يُمزَجون برموز يونانيّة ورومانيّة.
ترافق هذا مع إغناء الممارسة الفنّيّة باستعمال الزيت على لوحة قماش (كانفاس)، وبمزجه والصبغةَ بما يمكّن الفنّان أن يخلق نطاقاً من الألوان أعرض وأغنى. وكان الأهمّ، هَهُنا، استخدام المنظور (perspective)، بما يبوّب عناصر اللوحة ومستوياتها، كما يُظهر الأبعد أصغر والأقرب أكبر، مُوجِداً تراتُباً في الأهميّة داخل اللوحة ذاتها. وإذ لم ينفصل اكتشاف المنظور في الفنّ عن تحوّلات علميّة لعبت فيها الرياضيّات دوراً أساسيّاً، بات ممكناً تظهير التعدّد في الأبعاد واختلاف المستويات. وبسبب الضوء والظلّ وتوهّم المسافة، نشأ البُعد الثالث الذي يضفي على التعبير عمقه المفترض.
وبعد الفلورنسيّ غيوتّو، الذي عاش في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، وأنتج رسماً دينيّاً تخترقه إيحاءات وتعابير إنسانيّة، مضت النهضة تبثّ التعبير والعاطفة في اللوحة، وتغلّب الأسطوريّ على الدينيّ، حيث يُضرب المثل بلوحة بوتيتشِللي «ولادة فينوس» العائدة إلى أواخر القرن الخامس عشر. لكنّ ما بدأ في إيطاليا وتنقّلَ بين مدنها ما لبث أن صعد شمالاً، خصوصاً بعد 1527 حين غزا الإمبراطور الرومانيّ شارل الخامس، وهو إسبانيّ، روما، فنزحَ الكثيرون من الفنّانين الإيطاليّين وانتشروا في سائر أوروبا.
وفي النحت أيضاً مجّد نحّاتو النهضة الجسد الإنسانيّ وحرّكوه كما فعل قدامى اليونان وروما، بعدما عُدّ الجسد في القرون الوسطى عائقاً أمام اشتغال الروح وتقدّمها. ومن دون أن يقتصر النحت الجديد عليه، بقي مايكل أنجلو، الذي رعاه المديتشيّون وضمّوه إلى عائلتهم، العلَم الأبرز على التحوّلات تلك. فقد نحت «ديفيد» (داوود) الذي صار رمز فلورنسا واستقلالها حيال روما لاعتباره مؤشّراً إلى إنسانويّة النهضة أكثر منه ديفيد التوراتيّ.
ومع نيكولو ماكيافيللي، ولد علم السياسة، إذ للسياسة أخلاقيّتها المستقلّة عن الأخلاقيّات المألوفة. أمّا «الفضيلة» عند الحاكم فقد تستدعي القسوة، بل هناك «فضيلة إجراميّة» (criminal virtue) معيارها الفعاليّة والإنجاز اللذان يتقدّمان على الأخلاقيّة المسيحيّة السائدة. وبحسب بوركهارت، كان ماكيافيللي «في الأحوال كافّة، قادراً على نسيان نفسه في قضيّته. لقد كان وطنيّاً بالمعنى الأكمل للكلمة (…) كان رفاهُ الدولة فكرته الأولى والأخيرة».Jacob Burckhardt, The Civilization…, vol. 1, p. 104.
ومعروف أنّ الكنيسة منعت أعمال ماكيافيللي لمئتي عام لاعتباره أنّ «المسيحيّ الجيّد» ليس بالضرورة «الحاكم الجيّد»، وأنّه يمكن التضحية بفضائل دينيّة وأخلاقيّة في سبيل إنجازيّة الدولة وأدائها وظائفها. وهو ما يتبدّى لنا اليوم من صنف القسوة التي يطالعنا بها مارتن لوثر.
وكنّا ألمحنا قبلاً إلى امتداد النهضة إلى العلوم، على ما رأينا مع كوبرنيكوس وغاليليو، ممّا بدا وثيق التداخل مع ما يجري في الفنّ والأدب. فقد نجم مثلاً عن اهتمام النحت الجديد بالجسد الإنسانيّ همُّ الإدراك العميق لبُنية ذاك الجسد واكتشافها. وبعدما كان التشريح، ولو لأسباب طبّيّة، عملاً مُداناً وشيطانيّاً، بِتنا أمام مغامرين يتقدّمهم الطبيب الفلمنكيّ أندرياس فيساليوس، «أب علم التشريح»، الذي راح يجمع الجثث من المقابر ومنصّات الإعدام كي يشرّحها.
alt=”Andreas Vesalius born in Brussels | History Today” data-noaft=”1″ jsaction=”load:XAeZkd;” jsname=”HiaYvf” src=”https://www.historytoday.com/sites/default/files/articles/AndreasVesalius.jpg”>
وبات اجتماع الحقول المعرفيّة والعلميّة والإبداعيّة، وهو سمة أساسيّة من سمات النهضة، يجد أبطاله في رموز كليوناردو دا فِنشي أو جيوردانو برونو. كذلك نشأ «إنسان جديد» وُصف بـ«إنسان النهضة» أو «الإنسان النهضويّ» (the Renaissance man)، يجمع الإلمام الواسع الذي يعبر الفروع والحقول والمهن واللغات إلى أنواع من السلوك الملائم لأوضاع متباينة تستدعي المهارة والكياسة والحذلقة. وكان هذا، تيمّناً بليوناردو وبرونو وغيرهما، تجسيداً للمدى الذي قد يبلغه صنع الإنسان لنفسه بعد انفصاله عن سلوك ضيّق ومُعلّب.
وتغيّر شكل المدينة وجعل نسيجها يتغيّر مع أواخر القرن السادس عشر وحلول النمط العمرانيّ الجديد محلّ النمط القوطيّ القديم. فقد باتت تُستخدم بكثرة أشكال رومانيّة قديمة كالعمود والقبّة والأقواس، وإذ رجع النهضويّون إلى اليونان وروما فقد استلهموا معماريّي هاتين الحضارتين. فليوناردو مثلاً درس نظريّات المهندس فيتروفيوس، وقبله تأثّر برونَلِسكي، أحد مهندسي الدومو، بالبانثيون في روما.
وكانت مساحة أوروبا، إبّان العصور الوسطى، منقّطة بالقلاع الضخمة والكنائس الشاهقة، وكانت القلاع خصوصاً تتميّز بالجدران الحجريّة المرتفعة والأبراج ذات الوظائف الدفاعيّة، فلم تكن بالتالي أمكنة تلائم السكن الرائق. لكنّ النهضة شرعت تحوّل النبلاء عن تحصين بيوتهم لمصلحة اهتمام مُستجدّ بالجميل والأنيق والمريح، المصحوب أحياناً بالحدائق. وقد أحبّ مهندسو النهضة الضوء فاعتمدوا الشبابيك الكبيرة التي تعبرها كميّات ضخمة منه إلى دواخل البيوت. وتماماً كمثل روما القديمة، غدا الكثير من البيوت الغنيّة يُزيَّن بتماثيل لآلهة «وثنيّة» قديمة.
عن مارتن لوثر
في 1510 أُرسل الراهب الأوغسطينيّ مارتن لوثر في بعثة حجّاج إلى روما التي «تقرّبُ زائرها من الله» فبلغها سيراً على قدميه. فهي مدينة الربّ والكنيسة وشهداء المسيحيّة القدّيسين. لقد زارها في ذروة عصر النهضة فصُدم، هو الشابّ الريفيّ الورِع، بما يراه من حياة البذخ والإسراف والحذلقة، مكتشفاً أنّ روما والبابويّة مهتمّتان بالمال أكثر ممّا بالدين.
ولئن أزعج لوثر استخفافُ رجال الدين بالتعاليم وبطقوس الصلاة، كان أكثر ما أغضبه أنّ «المَطهر» بات مادّة لتكسّب الكنيسة، بحيث يدفع المؤمنون مالاً مقابل تقصير بقائهم وعذابهم فيه.
فعام 1513 وصل ليو العاشر إلى السدّة البابويّة التي بقي فيها حتّى 1521. لكنْ في 1515، أسفر حبّه الترفَ والإسفاف والمجون من كلّ نوع عن إفراغ خزائن الله التي استنزفها إنفاقُه. هكذا اضطُرّ إلى وقف العمل ببناء كنيسة القدّيس بطرس التي شارك في بنائها وتزيينها أكبرُ معماريّي وفنّاني عصر النهضة، وبذريعة إعادة تعميرها على نحو باهر بدأ بيع الصكوك.
بيد أنّ سيرة المديتشيّين التي جمعت الهوَس بالفنّ إلى الهوَس بالفساد، قدّمت دليلاً صارخاً على أنّ قوّة الكنيسة صارت، إلى حدّ بعيد، أسيرة التحالف مع المال المصرفيّ. فجيوفاني، ابن «لورنزو الرائع»، سِيمَ كاردينالاً وهو في الثالثة عشرة، قبل أن يغدو البابا ليو العاشر. بعده حلّ ثلاثة بابوات مديتشيّين، هم كليمنت السابع (1523-34) وبيوس الرابع (1559-65) وليو الحادي عشر الذي اختير في 1605 ومات في السنة ذاتها.
ومثقَلاً بعذاب الضمير وبالغضب الناريّ الذي ميّزه، مَسمرَ لوثر، عام 1517، أطروحاته الـ95 الشهيرة على باب كنيسة فيتزبورغ، والتي جعلتها الطباعة، كما سبق القول، تنتشر كالنار في هشيم ألمانيا وأوروبا الشماليّة. هكذا وَصَمتْه الكنيسة هرطوقيّاً، والهرطقة عقابها الموت، ثمّ فُرضت عليه المقاطعة الدينيّة والحياتيّة (excommunication) وأُحرقت كتبه.
ومع تعاظم الصراع بين لوثر والكنيسة ازداد الأوّل راديكاليّةً واعتبر أنّه يقاتل في البابا «المسيحَ المضادّ» (أو الدجّال) (Antichrist). وبالروحيّة والحماسة هاتين كتب نظامه الجديد للإيمان عن «الأسْر البابليّ للكنيسة»، بمعنى أنّ الكنيسة سيقت أسيرةً إلى بابل التي هي، في الكتاب المقدّس، رمز النفي والسبي، وأنّه يجب بالتالي تدميرها قبل بناء أيّ جديد.
وهاجم لوثر أهمّ عناصر قوّة الكنيسة، أي «الأسرار المقدّسة» (sacraments) التي رهنت بها الكاثوليكيّة الخلاص وبلوغ السماء، وهي سبعة أسراروهي: العمادة، والقربان (أو العشاء المقدّس: eucharist أو lord’s supper) والتثبيت (أو طقس العبور: confirmation) والمصالحة (أو المسامحة: reconciliation) ومسح أو دَهن المرضى (anointing of the sick) والزواج والسيامة المقدّسة (holy orders). يقوم على تنفيذها رجال الدين ويتربّحون من أدائها. وبعودته إلى الكتاب المقدّس كمرجع أوحد، لم يُبقِ من الأسرار إلاّ اثنين هما العمادة والقربان، أمّا الباقي فاعتبره اختراعاً كنسيّاً، مُحرّراً بقراره هذا علاقة المؤمن بالله وضارباً عدداً من الطقوس وعدداً من مصادر إثراء رجال الدين.
ففي فهم لوثر لم تعد ثمّة حاجة إلى وساطة الكنيسة لبلوغ السماء. ذاك أنّ العلاقة لا ينبغي أن تقوم بين المؤمن وكنيسته بل بين المؤمن والله، ما يفترض أنّ لكلّ إنسان وزنه ومعناه أمام ربّه، ويؤسّس للفرد والفرديّة حجّةً وسند ارتكاز.
وارتبط صعود لوثر، من جهة أخرى، بصعود القوميّة مثلما مهّد له. ففي خضمّ صراعه ضدّ البابويّة ألّف نصّاً سمّاه «خطاب إلى النبلاء المسيحيّين للأمّة الألمانيّة» وجّهه إلى حكّام الإمارات المبعثرة في ظلّ الإمبراطوريّة الرومانيّة المقدّسة، والتي كانت تُثقِل عليها المطالب الماليّة للكنيسة من دون أن تمتلك شجاعة مواجهتها. وفي نصّه هذا تحدّث عن تبخّر الأموال الألمانيّة وعن الإنفاق الباذخ والهائل للبابويّة، الذي رآه بعينه في روما، داعياً ألمانيا التي تُنهب أن تتصدّى بكلّ الوسائل المتاحة، ومشدّداً على أنّ ما يتعلّق بالكنيسة لا يقتصر على رجال الدين بل يعني الألمان جميعاً.
وفي هذا الحضّ للألمانيّ العاديّ كان لوثر يدقرط الدين ويقومنه، واجداً فيه أيضاً ما يوفّر له هو نفسه الحماية التي تمنع تسليمه إلى روما وإلى الموت تالياً. فالألمان، الذين خاطب هويّتَهم كألمان، يمنحونه تلك الحماية، وكذلك يفعل أمراؤهم ممثّلين بـ«فريدريك الحكيم» الذي كان يحكم منطقة ساكسونيا. والحال أنّ لوثر، منذ البداية، حين استدعاه البابا بُعيد مَسْمَرته أطروحاته في 1517، طالب فريدريك، المتجاوب مع دعوته إلى وقف نهب المال الألمانيّ، أن يتبنّى مبدأ محاكمته في بلده.
وفي 1521 كان مثول لوثر أمام الإمبراطور الرومانيّ شارل الخامس والأمراء في «الدييت» (أو المجلس التداوليّ)، في مدينة فورمز بألمانيا، وسط مخاوف بأنّه قد ينتهي إلى الموت. لكنّه في طريقه إلى فورمز لمسَ مدى الدعم الشعبيّ والكنسيّ الذي يمحّضه إيّاه الألمان، وفي تلك المدينة استُقبل كقدّيس أو كبطل وقائد ثوريّ، هو المُحاصَر بعقوبة المقاطعة الكنسيّة والحياتيّة.
في هذه الغضون، وكما نعلم، ترجم لوثر الكتاب المقدّس وألّف الأناشيد والترانيم الدينيّة كما ترجم المتوفّر منها إلى الألمانيّة، بما يوصل كلام الله إلى الإنسان العاديّ، جاعلاً فهم الدين مشروطاً بمكافحة الأمّيّة وشارطاً لحساسيّة قوميّة وليدة.
ففي أيّام لوثر لم تتعدّ نسبة المتعلّمين بين الناطقين بالألمانيّة الواحد بالمئة. هكذا حضّ على إنشاء المدارس، وحرّض الأمراء الألمان على القيام بالمهمّة، واضعاً حجر الأساس في ما عُرف بدور الدولة في التعليم. وهي وجهة بدأت بالفعل في بروسيا قبل أن تنتقل إلى إنكلترا والولايات المتّحدة،Joseph Henrich, The WIERDest People…, p. 14. ثمّ إلى بلدان أخرى في صدارتها اسكتلندا. فالإصلاح الذي وصل إليها، عبر جون نوكس، تأسّس، في 1560، «على المبدأ المركزيّ للتعليم العامّ والمجّانيّ للفقراء».المرجع نفسه، ص. 15. ويضيف الكاتب: «وهناك اعتُمدت أوّل ضريبة مدرسيّة محلّيّة في 1633 وعُزّزت في 1646. وسريعاً ما أنتجت هذه التجربة المبكرة في التعليم الشامل كوكبةً من المنوّرين الفكريّين، من ديفيد هيوم إلى آدم سميث، وربّما توسّطت التنويرَ الإسكتلنديّ. وكان للسيطرة الثقافيّة لهذا الإقليم الصغير في القرن الثامن عشر أن ألهمت فولتير كي يكتب: «إنّنا نرنو إلى اسكتلندا بحثاً عن كافّة أفكارنا في الحضارة».
فوق هذا، نجم عن المعتقد الدينيّ الجديد الذي يوجب على كلّ فرد أن يقرأ بنفسه الكتاب المقدّس نشر للتعليم الواسع بين النساء، فضلاً عن الرجال، أوّلاً في أوروبا وكونيّاً بعد ذاك. وكان لهذا التعليم الذي عرُضت قاعدته واتّسعت أن «غيّر أدمغة الناس وغيّر قابليّاتهم المعرفيّة في مجالات تتّصل بالذاكرة والمعرفة البصريّة ومعرفة الوجوه والدقّة الرقميّة وحلّ المشكلات. ولربّما أسهم، بصورة غير مباشرة، في تغيير أحجام العائلة وصحّة الأطفال وتطوّر الإدراك المعرفيّ إذ غدت النساء متعلّمات على نحو متزايد (…) وربّما حضنت تلك التغيّرات البسيكولوجيّة والاجتماعيّة اختراعات أسرع ومؤسّسات جديدة، ورَعَتْ، على المدى البعيد، بحبوحة اقتصاديّة أكبر».المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
وإذ راحت أعداد من الناس تفد إلى السياسة والشأن العامّ انجذاباً منها إلى إصرار لوثر، في فورمز، على مبدئه ومبدئيّته وتوكيده أنّ موقفه إملاء ضميريّ، كان لا بدّ لهذا التطوّر الكبير أن ينعكس على أفكار كالحقيقة والضمير والفرد والحرّيّة في مواجهة الطغيان، وعلى أنّ الفرد مدعوّ دائماً إلى الدفاع عن قيم تتعدّاه. وترافق ذلك مع تحطيم لأيقونات القدّيسين وتماثيلهم وللصور في الكنائس، ومع إقبال الكهنة على الزواج، فكان لتلك الحركة الثوريّة، صعوداً من القاعدة، أن أطلقت الإصلاح الدينيّ. وتبعاً لدرجة التداخل البعيدة بين الكنيسة والمجتمع، كان مستحيلاً ألاّ يتأثّر المجتمع، وإلى أبعد الحدود، بما يحصل في الكنيسة، وألاّ تباشر الجماعات المحلّيّة تنظيم نفسها اقتصاديّاً وتعليميّاً بمعزل عنها.
وبالطبع كان هناك عديد الأسباب السياسيّة والاقتصاديّة التي جعلت ملوكاً وأمراء يقفزون إلى حلبة الإصلاح، يكفي أن نذكر هنا اثنين منها: الأوّل، المزاج الشعبي المؤيّد للإصلاح تبعاً لمخاطبته الامتناعَ عن دفع الضرائب لروما ودغدغته العواطف القوميّة الناشئة، والثاني أنّ مصادرة أطنان الأراضي التي تمتلكها الكنيسة صارت في متناول الحكّام، ما يعزّز ثراءهم وثراء عائلاتهم ودولهم.
ورغم اختلاف الخلفيّات والظروف، عرفت إنكلترا، مع هنري الثامن (1491-1547)، حدثاً كبيراً يصبّ في الخانة ذاتها. فهي أسّست كنيستها المستقلّة عن الكنيسة الكاثوليكيّة، وكان السبب المباشر زواج هنري من آن بولين بعد طلاقه من الأميرة الإسبانيّة الكاثوليكيّة كاثرين أوف أراغون ممّا لم تصادق عليه روما. وبما أنّ الملك صار المتربّع على عرش الكنيسة أيضاً، قُيّضت له ولدولته ثروة خرافيّة، فيما بات التديّن الجديد وثيق الصلة بالانتماء الإنكليزيّ.أنجب هنري ابنته ماري من الأميرة كاثرين ثمّ أنجب إليزابيث من آن بولين. بعده حكمت ماري فأرجعت البلد إلى الكاثوليكيّة وتزوّجت ابن عمّها ملك إسبانيا فيليب الثاني فاستاء الإنكليز لأنّ المعنى الفعليّ لذلك، كما أوّلوه، أنّ ملكهم سيكون إسبانيّاً. وعاملت ماري البروتستانت بالقتل والتعذيب وصارت تُعرف بماري الدمويّة. توفّيت وهي شابّة فحلّت محلّها إليزابيث الأولى التي لم تتزوّج ولم تنجب وكانت آخر ملوك آل تيودور، وعلى اسمها كان «العصر الإليزابيثيّ» الذي ظهر فيه شكسبير. حكمت إليزابيث طويلاً وأعادت تأسيس كنيسة إنكلترا لكنّها أكّدت على الاعتدال الدينيّ. ولئن تبنّت البروتسانتيّة فإنّها لم تقمع الكاثوليك، إلاّ أنّها حاربت الكاثوليك «الأجانب»، أي الفرنسيّين والإسبان وهزمت أسطول الأرمادا الإسبانيّ الشهير.
وبما كاد يغدو سمةً من سمات السياسات البروتستانتيّة، غدا تغليب موقع الدولة ثابتاً لا يتزحزح، وهو ما أخذه الليبراليّون لاحقاً على لوثر فاعتبروه خادماً مطيعاً للدولة البيروقراطيّة الجانحة إلى الاستبداد. فحيثما كان هناك أمير بروتستانتيّ بدا مستعدّاً للاعتراف به رئيساً للكنيسة في بلده، وهو ما فعله هنري الثامن وابنته إليزابيث في إنكلترا، والأمراء البروتستانت في اسكندينافيا، ثمّ في هولندا بعد انتصار ثورتها عام 1648 على الإسبان. هكذا تعاظمت سلطة الملك ومملكته وصار ذلك تقليداً لا يعوزه الرسوخ.
وبالفعل كان لما بدأه لوثر في ألمانيا أن وجد امتداداته في بلدان ومدن أوروبيّة أخرى، فظهر مصلحون كجون كالفن في سويسرا وجون نوكس في اسكتلندا، وكالبيوريتانيّين والانفصاليّين في إنكلترا والهوغونوت في فرنسا، ممّن غيّروا أوروبا، وبمعنى ما، العالم.
الإصلاح «المضادّ»
لا تكتمل صورة الإصلاح الدينيّ البروتستانتيّ من دون التعريج على الاستجابة الكاثوليكيّة له، أو ما عُرف بـ«الإصلاح المضادّ». فقد استنطقت حركة لوثر ردّاً على الإصلاح بالإصلاح، لا بمزيد من التحجّر. وهذا، على الأرجح، ما جعل الصراع الذي دار بين العقيدتين وتوّجتْه «حرب الثلاثين عاماً» (1618-1648) وباقي «الحروب الدينيّة» الأوروبيّة من بعدها، أقرب إلى صراع بين برنامجين يطالان معظم شؤون الحياة وتنظيمها.توقّف برتراند راسل عند ذاك الترابط بين الدينيّ-الثقافيّ والسياسيّ-القوميّ والجغرافيّ-السياسيّ، حيث أنّ «الإصلاح والإصلاح المضادّ، سواء بسواء، يمثّلان تمرّد الأمم الأقلّ تمدّناً على سيطرة إيطاليا الفكريّة»، في الحالة الأولى قادت ألمانيا التمرّد، وفي الثانية قادته إسبانيا. Bertrand Russell, History…, p. 481.
فالتحدّي البروتستانتيّ ألحّ على الكنيسة الكاثوليكيّة في عهد البابا بولس الثالث الذي عاش، مثل باقي بابوات النهضة، في البذخ وغطسَ في الفساد، كما عيّن اثنين من أقاربه، وهما في سنّ المراهقة، كاردينالَين. لكنّه أيضاً، وبفعل ذاك التحدّي وضغوطه، تنبّهَ إلى ضرورة التغيير في الكنيسة، خصوصاً وأنّها بدأت هي نفسها تلمس تقلّص سطوتها. هكذا وفي مجمع ترِنت عام 1545 اجتمع قادة الكنيسة لوقف التقدّم البروتستانتيّ، واستمرّ المجمع حتى 1563 بحيث توفّي بابوان في تلك المدّة الزمنيّة: بولس الثالث نفسه وخليفته جوليوس الثالث. ولم تخلُ نتائج ذلك المجمع من تشدّد، بل تعنّت: فقد تمسّكت الكنيسة بمحاكم التفتيش وبتوسيع نطاق عملها. لكنّ التفتيش، الذي أنشئ أصلاً في القرنين الثاني عشر والثالث عشر لمطاردة الهراطقة في جنوب فرنسا وإيطاليا، بات يستهدف البروتستانت وهراطقة «العالم الجديد» الذي اكتشفه البرتغاليّون والإسبان. ولئن فسّر ذاك الموقفُ عدمَ ظهور بروتستانت في إسبانيا وبقاءهم بالغي الهامشيّة في إيطاليا، فإنّه ربط التشدّد بما قد نسمّيه بلغة اليوم فرزاً إيديولوجيّاً وتنظيميّاً، فرزاً يتأدّى عنه مزيد من بلورة الصورة الذاتيّة للكاثوليكيّة الجديدة قياساً بخصمها.
ومن هذا القبيل أكّد ترِنت على ما يبدو رجعيّاً. ذاك أنّ هدف الإصلاح المضادّ إنقاذ البابويّة وتعزيز قوّتها، أمّا الخلاف العقائديّ مع البروتستانت فيتناول المصدر الذي لا يقتصر، بحسب الكاثوليك، على الكتاب المقدّس بل يشمل الكنيسة أيضاً، فيما لا يكفي الإيمان وحده للحلول محلّ العمل الصالح. وقد منع المجمع كتباً وجدّد منع كتب، كما شدّد على مبدأ تحوّل الخبز والخمر إلى جسد يسوع (أو الاستحالة الجوهريّة – transubstantiation)، وعلى مركزيّة الأسرار المقدّسة السبعة، متمسّكاً بعدم زواج الكهنة. وكان لهذه الضراوة في الصراع مع البروتستانت أن ظهّرت اللون الخاصّ بالكنيسة الكاثوليكيّة وعزّزت انتشارها العالميّ.
لكنْ من ناحية أخرى، وهذا ما كان الأهمّ على مدى أبعد، أنشأ ترنت الحلقات الدراسيّة (seminars) لتعليم رجال الدين اللاهوتَ الكاثوليكيّ، خصوصاً في ظلّ احتدام السجال العقائديّ مع البروتسانت، ونظّم تدريبَ الكهنة وحدّ من سوء استخدام المال في الكنيسة مثلما ضيّق كثيراً نطاق «صكوك الغفران». كذلك أصدر ترنت توصية بشأن الفنّ وتواصُله مع الناس العاديّين بمن فيهم الفقراء، وضرورة أن يحرّك العواطف فيما يستحضر عظمة الله.
وكانت لذلك ترجماته وتجسيداته خصوصاً في أعمال جيان لورنزو بِرنيني، المهندس الرئيس لمعظم الأعمال النُصبيّة في منتصف القرن السادس عشر وأواخره، والمؤسّس المبكر للعمارة الباروكيّة التي عُدّت استمراراً للنهضة مثلما عُدّ برنيني خليفةً لمايكل أنجلو. فقد عبّرت العمارة الباروكيّة عن عظمة باهرة إنّما ممزوجة بالتزيين والمَسرَحة والضوء وحسّ الحركة، كما بالتعقيد الذي أحلّ الزوايا الصغرى والتضاعيف محلّ الزوايا الكبرى والخطوط المستقيمة، بحيث باتت العظمة تخالطها البغتة والحيرة والاندهاش. وكانت الرسّامة الباروكيّة أرتيميسيا جانتِلِسكي، التي تأثّرت بأسلوب كارافاجيو، أوّل امرأة تبرز على هذا الصعيد، مصحوبةً بأعمالها عن نساء ضحايا مُستمدّات من الأساطير كما من التوراة. أمّا كبار الرموز الباروكيّين في الموسيقى، والذين تأخّر قدومهم عشرات قليلة من السنين، فكان في عدادهم باخ وفيفالدي وهاندل.
ووجد الإصلاح الكاثوليكيّ أداته التي ولدت قبل ترِنت لتتبلور بعده. فقد ظهر الراهب واللاهوتيّ والجنديّ الإسبانيّ إيغناتيوس لويولا كقائد كاريزميّ موالٍ للكنيسة يقارع البروتستانتيّة، مؤسّساً في 1534 ما بات يُعرف باليسوعيّين. وقد أقرّ البابا الأخيرين، بعد خمس سنوات، كـ«نظام دينيّ» (order) يحمل اسم «مجتمع يسوع» أو «اليسوعيّين».
أمّا النظريّة التي أرشدت عمل اليسوعيّين فأنّ محاربة البروتستانتيّة تتمّ أساساً بالتعليم والمعرفة وإنشاء المدارس والإرساليّات. وأمّا لويولا، الذي سمّي «الحاكم العامّ»، فنظّم وأدار حياة تابعيه كما لو أنّهم جيش تحكمه مراتبيّة سلطات، فيما على واحدهم أن يقضي سنوات عدّة من التدريب والإعداد مذعناً إلى نظام صارم. ولأنّه رأى، هو الذي سِيمَ لاحقاً قدّيساً، أنّ على اليسوعيّ أن يكون في حالة حرب دائمة ضدّ الهراطقة، بدا له نقاء الكنيسة وتعليمها واهتمامها بالضعفاء شرطاً حربيّاً بقدر ما أنّ فسادها وأمّيّتها وإدارتها الظهر للبؤساء شرط لخسارة الحرب. هكذا اهتمّ بأعمال كبناء المياتم للأيتام والبيوت لعاملات الجنس السابقات، رابطاً «التأمّل» بـ«العمل»، وفق قول شهير له. ذاك أنّ إله لويولا، بحسب صياغة إلياد الذي اعتبره متفائلاً قياساً بالمصلحين البروتستانت، «يشجّع كلّ جهد يُبذل لتحويل البشر، ويشجّع تالياً كلّ جهد يبذله المرء لتحسين أحواله».Mircea Eliade, A History…, p. 250.
alt=”Jesuit | Definition, History, & Facts | Britannica” data-noaft=”1″ jsaction=”load:XAeZkd;” jsname=”HiaYvf” src=”https://cdn.britannica.com/22/116022-050-9E638E3E/Saint-Ignatius-Loyola-founder-Jesuit-order-engraving-Nicolas-Bazin-1703-Metropolitan-Museum-of-Art.jpg”>
وفي المدارس التي أنشأها اليسوعيّون، أتيح للتعليم الإنسانويّ واللغات الكلاسيكيّة، فضلاً عن العلوم الطبيعيّة، أن تزدهر إلى جانب التعليم الدينيّ، حتّى جرى القول إنّ معظم الرياضيّات التي تعلّمها ديكارت علّمه إيّاها اليسوعيّون. وعبر التعليم، الذي صالحوه مع العصر ومعارفه، غدت الإصلاحيّة الكاثوليكيّة توازي تلك البروتستانتيّة وتنافسها. وإنّما بسبب ذاك التعليم أحكم اليسوعيّون قبضتهم على عقول قطاع عريض من الشبيبة الأوروبيّة، ثمّ عملوا على مدّ مهمّتهم إلى خارج أوروبا وتحويل الكاثوليكيّة ديانةً كونيّة لها حضورها في الصين والهند واليابان كما في أفريقيا و«العالم الجديد». وبإنشائهم تلك المواقع المترابطة في العالم، باتوا ينتجون تقارير دوريّة تُكتب باللاتينيّة لكنّها لا تلبث أن تُترجم إلى لغات أوروبيّة أخرى، ما خلق لوناً من عولمة مبكرة. ولئن قُيّض للعولمة هذه أن تتجاوز قارّتها المهد، فإنّها استمرّت متمركزة حولها، متعدّيةً نطاقي الدين والثقافة إلى التجارة والاقتصاد. هكذا تولّت تعريف الأوروبيّين ببعض صناعات العالم وحِرَفه (كالبورسلان من الصين)، كما طوّرت مشاريع تجاريّة وزراعيّة في البلدان التي نمت فيها الدعوة. وهذا ما سمح لبعض مؤصّلي الأحزاب الأمميّة اللاحقة أن يسجّلوا تأثّرها بهذا البناء المسكونيّ والتنظيميّ الجبّار.
مداخلة ماكس فيبر الثقافويّة
لقد بنى السوسيولوجيّ الألمانيّ الكبير ماكس فيبر، في 1905، نظريّة باتت ذائعة الصيت في تأثير القيم البيوريتانيّة البروتستانتيّة، خصوصاً منها الكالفينيّة، على تطوّر الرأسماليّة. وسريعاً ما حذت حذو كتابه، مع اختلاف في التفاصيل، أعمال شهيرة ربّما كان أبرزها كتاب الاشتراكيّ المسيحيّ البريطانيّ أر أتش تاوني «الدين وصعود الرأسماليّة» (1926). لكنّ ما انتقده مراراً الماركسيّون ممّن رأوا أنّ فيبر حوّل السبب (الرأسماليّة) إلى نتيجة، والنتيجةَ (الدين) إلى سبب، يحتفظ براهنيّة لا تقلّ عن راهنيّة ما كشفه فيبر، من دون الاضطرار إلى اعتماد استبداليّة في العِلّيّة دائمة ومغلقة ومُحكَمة.
فممّا رآه فيبر، في تأويله الثقافويّ،كان فرنسيس فوكوياما قد نشر في النيويورك تايمز عام 2005، مع حلول الذكرى المئويّة لكتاب فيبر، مقالة طويلة ذكّر فيها بأنّ «الاقتصاديّ الألمانيّ فِرنِر سومبارت زعم أنّه وجد المعادِل الوظيفيّ للأخلاق البروتستانتيّة في اليهوديّة، واكتشفه [السوسيولوجيّ الأميركيّ] روبرت بِللاه في بوذيّة يابان التوكوغاوا». ومعروف أنّ هذه الأحكام تستند إلى وجهة نظر، كان سومبارت نفسه من أصحابها، ترفض ردّ الرأسماليّة إلى الأزمنة الحديثة. كذلك انتقد فوكوياما التأويل الثقافويّ للصين واليابان الذي يتجاهل «المؤسّسات الخانقة والسياسات الرديئة والتوجّهات المضَلَّلة»، أو تفسير الإرهاب ونقص الديمقراطيّة في العالم الإسلاميّ بالإسلام، من دون أن ينكر «أهميّة الدين والثقافة في تقرير السبب الذي يجعل المؤسّسات تعمل في بعض البلدان أفضل ممّا في بلدان أخرى»، مؤكّداً على تأخّر البلدان الكاثوليكيّة في هذا المجال عن تلك البروتستانتيّة. انظر Francis Fukuyama, The Calvinist Manifesto, The New York Times, March 13, 2005. https://www.nytimes.com/2005/03/13/books/review/the-calvinist-manifesto.html أنّ نزعة الخلاص لدى أوروبيّي ما قبل الإصلاح كانت تلبّيها الممارسات القروسطيّة للكنيسة الكاثوليكيّة. فهم ابتغوا الأمان والحصول على الحياة الأبديّة في السماء، والكنيسة نفّذت لهم ما ابتغوه بالحجّ والاعتراف والغفران. لكنْ مع الإصلاح، راحت تنهار تلك الممارسات وتنحسر رقعتها، فلم يعد بروتستانت ألمانيا وسويسرا وعموم الشمال الأوروبيّ يستفيدون من ممارسات الكنيسة، وبات عليهم اختراع ممارسات جديدة تقودهم إلى السماء. وقد اندرج هذا في سياق ما هو عزيز دوماً على قلب فيبر، أي «عقلنة العالم واجتثاث السحر بوصفهما وسيلة للخلاص».
والحال أنّ الممارسات الجديدة التي كانت أكثر دُنيويّة (wordly practices) حضّ عليها المصلحون، هي التي أثمرت أخلاقيّة العمل البروتستانتيّة ومبدأ الجهد وروحيّة الرأسماليّة حماسةً للربح وللاستثمار. «فحتّى الغنيّ لن يأكل إن لم يعمل، إذ وإنْ كان الأغنياء بغير حاجة إلى العمل كي يلبّوا حاجاتهم، فهناك مشيئة الله التي عليهم أن يطيعوها، مثلهم مثل الفقراء».
وافترض لاهوت لوثر أنّ الخالق يدعو مخلوقيه المسيحيّين كي يكونوا كلّهم كهنة، أي أن يقوموا بـ«عمل الله» في العالم الزمنيّ، من خلال ما يشغلونه من مهن ووظائف. أمّا مبدأ التكرّس الذاتيّ للمهنة، أو رساليّتها (vocation وبالألمانيّة beruf)، ممّا أكّد عليه لوثر وكالفن،كان كالفن أشدّ راديكاليّة من لوثر في بضع مسائل ربّما كان أهمّها توحّد النفس المتصوّفة مع الله (unio mystica). فالإيمان عند لوثر، وفق تحليل فيبر، من أفعال النعمة الإلهيّة، يُعانى ويُسعى إليه عبر تجربة «دخول المقدّس في روح المؤمن» التي وحدها تُدخِل فيه الحقّ. وهذا إنّما يجعل البحث عن الله عملاً «تأمّليّاً»، وبالتالي يميل نمط السلوك الأخلاقيّ الذي يظهر داخل هذا الوسط الروحيّ لأن يكون عاطفيّاً وصوفيّاً وتأمّليّاً، يسعى صاحبه إلى الهرب من هذا العالم لبلوغ الله في تجارب العالَم الآخر. في المقابل، وعلى الضدّ من محاولات بعض الفِرق البروتستانتيّة، فإنّ الكالفينيّة، التي تؤكّد على الزهد والتقشّف، ذات «تماسك حديديّ» وعمليّ ينأى بها عن تلك العاطفيّة. فإنّما يشجّع البروتستانت على «العمل الشاقّ» والتفوّق في تلك المهن بوصفه وسيلة لـ«تمجيد الله». هكذا ينبغي أن يكون البروتستانتيّ الأفضلَ في عمله، تقوده إلى الخلاص ممارسته الزمنيّة المتفوّقة هذه. وقد استند الميل هذا إلى تبشير لوثر وكالفن بالمُقدّر (predestination)، حيث يعرف الله مسبقاً كلّ شيء ويعرف مَن الذي سينجو، في النهاية، ومَن الذي سوف يغرق. ولأنّ المرء، للسبب هذا، لا يستطيع أن يفعل شيئاً يفضي إلى تغيير قدره المرسوم، فقد أقلقَ البروتستانت الراغبين في الخلاص جهلُهم ما إذا كان الله سيختارهم أم لا. صحيح أنّ «واجب المرء المطلق هو أن يعتبر نفسه مختاراً وأن يقاتل كلّ الشكوك بوصفها إغراءات الشيطان»، لكنْ كيف يعرف هذا المرء أنّه مختار أو غير مختار؟ يجيب فيبر بأنّ كالفن، في كتابه «مرتكزات الديانة المسيحيّة»، جادل بأنّ إحراز الرفاه الاقتصاديّ والنجاح الدنيويّ «علامة ظاهرة» (أو خارجيّة – outward sign) على خلاص الكائن. وبهذا، فإنّ مبدأ «المُقدّر» يشتغل ضدّاً على التواكُل الذي يفترضه البعض فيه، دافعاً الناس إلى العمل بجدّ وجديّة. وقد كان لهذا التعقّل تحديداً أن أنتج روحيّة الرأسماليّة، ومبدأ العمل للعمل بغضّ النظر عن النتائج. فالاستثمار والمراكمة إنّما يترافقان مع الزهد والتقشّف وإنكار الملذّاتِ الدنيويّة ورفض التنعّمِ بالثراء وتأجيل المِتَع إلى وقت لاحق، حتّى ليغدو أيّ سلوك معاكس «خطيئة». فعن الربح والإثراء لا ينجم البذخ والاستعراض بل يتحصّل مزيد من الاستثمار في المشروع، وفي الاقتصاد تالياً. ولمّا كانت مساعدة الفقراء والمحتاجين مرفوضة، لأنّها، وفق ذاك التأويل، تشجّع على الكسل والتسوّل، زادت الأرصدة التي يمكن استثمارها في الاقتصاد.
ولم يكن لنشأة دياسبورا من المُضطَهَدين واللاجئين البروتستانت، ككالفن نفسه، سوى نشر الصناعة الرأسماليّة الحديثة وثقافتها. وعلى النحو هذا ساهمت البروتستانتيّة في صعود الرأسماليّة بخَلقها جيلاً من الشغّيلة وأصحاب المشاريع، الذين يعملون بأقصى طاقتهم، مثلما أعطتهم الحافز إلى ذلك. وهي شجّعت أصحاب المشاريع على استثمار فوائضهم مجدّداً في النظام الاقتصاديّ، كما خشّنت نفوس المسيحيّين فجعلتهم يمنحون أولويّتهم لتفوّق مهنيّ يوصل إلى الخلاص.Max Weber, The Protestant Ethic and the Spirit of Capitalism, Routledge, 1992, PP. 66, 106 & 71.
ولئن اعتمد فيبر، في صياغته مفاهيمَه، على عمل بنجامين فرنكلين، أحد «الآباء المؤسّسين» لأميركا، الذي شدّد على أهميّة الصناعة والتقشّف والاستقامة في العمل، من دون لجوئه إلى سند دينيّ أو روحيّ، فقد رأى هو أيضاً أنّ الرأسماليّة الحديثة لم تعد راهناً بحاجة إلى سند كهذا، إذ باتت مستقرّة بذاتها ووطيدة، وإن كان من أثمان ذلك احتمال خضوع البشر إلى الصناعة المؤلّلة، بل العبوديّة لها.
ضعف الكنيسة القويّة
لطالما قُدّم الإصلاح الدينيّ كحدث ثقافيّ مستقلّ عن العمليّة التاريخيّة الأعرض التي شقّت أوروبا، حدث يستند إلى تجربة مارتن لوثر الشخصيّة (زيارته روما، تعرّضه للصاعقة…) ولا يجمعه بسواه سوى حدّ أدنى من المشتركات والصِلات. لكنْ لئن اختلفت النهضة والإصلاح في مهامّ وجوانب لا يمكن إنكارها، بقي من الصعب إغفال أنّ التطوّرين يندرجان في التحوّل الأكبر الذي ابتدأ في قرابة 1100، وتالياً التداخل الكبير في نتائجهما. هكذا رأينا بوركهارت يتساءل، كما لو كان يتعامل مع ظاهرة واحدة برأسين متفاوتين: «لماذا لم تردّ إيطاليا، بعظمتها الفكريّة، على تلك المراتبيّة [الكنسيّة]، بنشاط أكبر؟ لماذا لم تُنجز إصلاحاً [دينيّاً] شبيهاً بذاك الذي حصل في ألمانيا، وفي وقت أبكر؟»، أمّا الجواب الذي خطر له (مستخدماً لغة القرن التاسع عشر)، فأنّ «العقل الإيطاليّ لم يذهب أبداً إلى ما يتجاوز إنكار المراتبيّة، فيما عاد أصل الإصلاح الألمانيّ ومتانته إلى معتقداته الدينيّة الإيجابيّة».Jacob Burckhardt, The Civilization…, vol. 2, p. 444.
وكائناً ما كان الجواب، يبقى أنّ عديد المقدّمات متداخل بقوّة، وكذلك عديد النتائج التي عكست نفسها على الكنيسة كما على المؤمنين فلاّحين وغير ذلك.
صحيح، كما أسلفنا، أنّ المؤسّسة الدينيّة امتلكت مكانة ونفوذاً ماديّين جبّارين، غير أنّ وزنها كمرجع أخلاقيّ لم يكفّ عن التآكل عهدذاك. هكذا ظهر مبكراً ما أسماه راسل «كُسوف البابويّة» بسبب الوسائل التي استخدمتها في تعزيز سلطتها الزمنيّة.Bertrand Russell, History…, p. 439 & 459.
وكان من التعابير المبكرة عن تآكلها المديد تجرّؤ ملك فرنسا فيليب الرابع على البابا بونيفاس الثامن في أواخر القرن الثالث عشر، وكان موضوعه حقّ الملك في أن يفرض الضرائب على رجال الدين الفرنسيّين. وبالفعل اتّهمَ الملكُ البابا بالهرطقة وأرسل قوّة لاعتقاله بحيث هرب إلى روما حيث توفّي. ولم يجرؤ، بعدذاك، أيّ من البابوات على معارضة ملك فرنسا الذي تصدّى للحدّ من جشع الكنيسة ورغب في أن ينتزع لنفسه «المطلقةِ» الكلمةَ الأولى من روما.
وما لبثت روما نفسها، وفي أواسط القرن الرابع عشر، أن تمرّدت على بابويّة كليمنت السادس، بقيادة السياسيّ الشعبويّ والديماغوجيّ كولا دي ريانزو (أو ريانزا) الذي أعلن سيادة الشعب ضدّ الإمبراطوريّة الرومانيّة والنبلاء، والبابا الذي اعتبره الثوّار لزوم ما لا يلزم. بيد أنّ الكنيسة انتصرت وتمكّنت من أن تسجن المتمرّد الذي حظي بمديح بترارك. ولم يمض سوى سنوات حتّى قادت فلورنسا عدداً من الدول المدن الإيطاليّة ضدّ البابويّة في ما عُرف بـ«حرب القدّيسين الثمانية» (8-1375).
وكان يطرأ من العوامل ما يزيد في التدهور البطيء لسلطة الكنيسة قياساً بسلطة الدولة والملك، معرّضاً تحالف السلطتين لتوتّر متعاظم. ذاك أنّ وصول البارود من الصين في القرن الثالث عشر قوّى الحكومات المركزيّة على حساب روما والنبلاء الإقطاعيّين. وهذا الإضعاف للبابا جعلت تزيده الهُدَن التي تتخلّل الحروب الفرنسيّة-الإنكليزيّة الكثيرة والمديدة، أو انحياز هذا الملك أو ذاك إلى «الطبقة الوسطى الغنيّة» ضدّ الإقطاع.
وكان أنّ البابويّة نفسها انقسمت في 1410 بين بابوين متنافسين ومتكارهين، فرض كلّ منهما المقاطعة الحياتيّة على الآخر. لكنْ في 1415 صار هناك ثلاثة بابوات متنافسين، وكان ذلك جزئيّاً فصلاً من فصول التنازع بين روما وفرنسا. ذاك أنّ كرادلة روما انتخبوا كاردينالاً إيطاليّاً لكنّ الآخرين انتخبوا كاردينالاً يوالي الفرنسيّين. هكذا بدأ الانشقاق الكبير الذي استمرّ 40 سنة بحيث أنشئ «مجلس عامّ» أعلى من سلطة البابويّة لفضّ نزاعاتها. وإذ طُرد البابوان وأُعلنا هرطوقين وصِير إلى انتخاب بابا ثالث، بتنا أمام أحبار ثلاثة لم يُحسم التنازع بينهم إلاّ في 1417، مع انتخاب البابا مارتن الخامس.
ومثلما ابتدأ القرن الخامس عشر بفضيحة الانشقاق فقد انتهى بفضيحة الاعتراف. فلم يكن بلا دلالة أنّ سيّد فلورنسا المديتشيّ «لورنزو الرائع» لم يطلب للإدلاء بالاعتراف أمامه، قُبيل وفاته، سوى خصمه الراهب الدومينيكيّ المتزمّت سافونارولّا، الذي سنعود إليه لاحقاً، مستبعداً كبار حلفائه في الكنيسة. فلم يحلّ العام 1494 حتّى طُرد الحاكم بيارو دو مديتشي وعائلته من فلورنسا بتأثير الجوّ الرؤيويّ الذي خلقه سافونارولا، ولجأ المطرودون إلى حليفهم البابا في روما.
ويلاحظ الباحث الأميركيّ جوزيف هنريش انشقاقاً ثقافيّاً يتعدّى مسائل الفساد والنزاهة، حيث «أنّ الكنيسة [الكاثوليكيّة] نفسها، وربّما بشكل مثير للسخرية، بُنيت على موديل العائلة البطريركيّة (الرومانيّة). فالسلطة عموديّة وصارمة كما في الخطّ القرابيّ الأبويّ. أمّا الشيوخ الدينيّون الذين بات واحدهم يُسمّى «الأب» أو «البابا» فتمتّعوا بامتياز الوصول إلى الحقائق المقدّسة والسلطات الخاصّة بما فيها سلطة منح (توصيل) غفران الله. ولأنّ الحكمة والقداسة أعطيتا لهم، كان ينبغي توقير قادة الكنيسة وإطاعتهم. فعبر الكنيسة وطقوسها المختصّة ونخبتها المُمارِسة فحسب، يستطيع الشخص العاديّ أن يجد ممرّه إلى الله والحياة الأخرى، فليست هناك مع الله علاقات شخصيّة بلا توسّط». وبناءً على معطيات هنريش الصلبة، يتعزّز الافتراض القائل إنّ الإصلاح لم يصدر عن عدم ثقافيّ وفكريّ. فهو مثّل «عمليّة ثقافيّة تطوّريّة» حيث كان أفراد فرديّون وأحرار ينشئون ويبلورون منذ وقت مبكر تنظيمات دينيّة مختلفة «كلّ منها له معتقداته الخارقة وطقوسه وممارساته». وكان بعض هذه التنظيمات قد لاءم الأمزجة الجديدة أكثر ممّا لاءمتها الكنيسة الكاثوليكيّة. وقبل قرنين على لوثر كانت حركات كثيرة شبيهة بالبروتستانت اللاحقين تظهر في أوروبا. فقد انتشرت، مثلاً، إبّان القرن الرابع عشر، حركة «إخْوَة الحياة المشتركة» (أو العامّة – Brethren of the Common Life) في عديد المدن والبلدات في هولندا وألمانيا، وهؤلاء «بشّروا بقيمة العمل اليدويّ وشجّعوا الأفراد على أن يطوّروا علاقتهم الشخصيّة بالله. وبالطبع، وكجزء من هذا، اعتُقد أنّ على الناس قراءة الكتاب المقدّس بأنفسهم». بل قبل ذلك، ومنذ زمن يرقى إلى 1089، ظهر «النظام (order) السيستيرسيّ» المتفرّع عن البنديكتيّين والذي شابه البروتسانتيّة في الزهد والتقشّف والتوكيد على «الطاقة التطهّريّة للعمل»، لا سيّما منه اليدويّ. ومبكراً ظهر في بيئة الجامعة رموز من اللاهوتيّين الذين ساءلوا المعطى وحاولوا التغيير، كالفرنسيّ بيتر وَلدو Waldo (1140-1218) الذي عاقبته البابويّة بـ«الحرم الكنسيّ»، والإنكليزيّ وليم من أوكهام William of Ockham (1285-1347) الذي انتقد البابويّة وسكولائيّيها، والإنكليزيّ الآخر جون ويكليف Wyclif (1320-1384) الذي طالب بإخضاع المطارنة للملك وسمّى البابا مضادّاً للمسيح (antichrist) كما حاول التعبير عن مصالح فقراء الكهنة، مجادلاً بأنّ على المسيحيّين أن يقرأوا الكتاب المقدّس بأنفسهم ومهاجماً المراتبيّة البابويّة وصكوك الغفران. ثمّ ظهر إلى الشرق التشيكيّ جون هاسّ Has أو Hus (1369-1415) الذي يُعتبَر مؤسّس الإصلاح في بوهيميا. Joseph Henrich, The WIERDest People…, pp. 424, 417 & 421.
وما يقال في أحوال الكنيسة وأمور تغييرها يقال في اللغة. فقبل مارتن لوثر ساد ألمانيا «برج بابل» لغويّ كما يكتب برادي، لكنْ «قبل وقت طويل جدّاً كانت الألسنة الألمانيّة قد تصلّبت في أقاليم ثلاثة مميّزة شماليّة ووسطى وجنوبيّة (…) وفيما غنّى شعراء البَلاط القروسطيّون منذ 1350 بلغة البَلاط، المسمّاة اليوم «الألمانيّة العليا الوسطى»، فإنّ متوسّطاً كتابيّاً جديداً، هو «الألمانيّة العليا الجديدة المبكرة»، بدأ يظهر في الجنوب (…) هذا «الأسلوب المشترك في الألمانيّة»، والذي تطوّر في منطقة كانت تستمدّ تعريفها من مدينتي نورمبرغ وريغنسبرغ، تبنّته المستشاريّة المَلَكيّة وكذلك مستشاريّة ساكسونيا في 1464»، ليغدو لاحقاً هو «اللغة الألمانيّة». فأفضال لوثر على لغته جاءت إذاً تتويجاً، لا تأسيساً، وقد كتب هو نفسه: «لست أملك لغة خاصّة بي (…) إنّني أستخدم اللغة الألمانيّة المشتركة بحيث يستطيع ألمان المناطق العليا والدنيا أن يفهموني جيّداً بالقدر نفسه».Thomas A. Brady Jr, German Histories…, PP. 14-15 & 28.
ومنذ أوائل القرن الرابع عشر راحت تتلاحق الانتفاضات الفلاّحيّة في أوروبا، والتي ربّما بقيت ثورة الفلاّحين الإنكليز في 1381 أهمّها إلى أن نشبت ثورة توماس مونتسر الألمانيّة. هذه الانتفاضات، بحسب برتراند راسل، «ظلّت في أفكار الناس ومهّدت التربة للبروتستانتيّة».Bertrand Russell, History…, p. 447.
الإصلاح ليس الإصلاحيّين
تخفيفاً من أهميّة العمليّة التاريخيّة التي اكتنفت الإصلاح الدينيّ، كثيراً ما يصار إلى إبراز سِيَر المصلحين بوصفها أنماطاً بدئيّة (prototypes) للسلوك الصالح، وفي هذا تزكية واضحة لـ«العلم» و«المبادرة» على «العمل» و«السياق». وكثيراً ما يظهر، بهذا المعنى، استعداد للتعاطي مع الإصلاح كأنّه قطعة مصمّتة واحدة يُسبَغ على غثّها ما يُستخلَص من سمينها. لكنّنا حين نراجع اليوم تاريخ الإصلاح الدينيّ مسلّحين بأفكارنا وأمزجتنا وحساسيّاتنا المعاصرة، لا بدّ أن يصيبنا النفور والقرف من أفعال فعلها وأقوال قالها المصلحون.
فبعد 1521 ومواجهة فورمز، استولى اللوثريّون على فيتزبورغ وعلى الكنائس وأملاكها ومدارسها معتقدين أنّ هذا ما أراده لوثر. لكنّ الأخير أصيب بالذعر من سرعة التغيير وعمقه وعنفه، مطالباً بالتراجع عن الثورة الاجتماعيّة والاقتصار على مسائل النفس والضمير والله. كذلك خاف لوثر من أن ينقلب عليه وعلى دعوته الأمراء الذين أراد استقطابهم. بيد أنّ التحرّكات الثوريّة مضت تنتقل من منطقة إلى أخرى ضدّاً على إرادته ورغبته، ونشبت الانتفاضة الفلاّحيّة الشهيرة في 1924-5 التي قادها اللاهوتيّ الراديكاليّ توماس مونتسر، حيث أريد الانتقال من الدعوة إلى حريّة الإيمان إلى الدعوة للحريّة الاقتصاديّة والاجتماعيّة للفلاّحين والتحرّر تالياً من السادة، فضلاً عن مطالب كاختيار رُعاة الأبرشيّات بالانتخاب المباشر.
وفي عدائه لثورة الفلاّحين كتب لوثر بحدّة وبعنف وعدوانيّة عن «العاميّين» الذين ينبغي تقييدهم كما تُقيّد الوحوش البرّيّة وقتلهم. وأصدر منشورَيه «ضدّ عصابات الفلاّحين السرّاقين والمجرمين» (أو: «ضدّ سرقات وجرائم قطعان الفلاّحين») و«رسالة إلى أمراء ساكسونيا في ما خصّ الروح التمرّديّة»، فتلقّفَ الأمراء كلامه وتحريضه وذبحوا أكثر من مائة ألف من المتمرّدين. فلوثر قدّم الفلاّحين الثائرين كما لو أنّهم لا يقلّون شيطانيّة عن البابا، وصُوّروا، في الأحوال كافّة، كـ«فرقة شيطانيّة» لا كبشر. وهو لم يكتف بالدعوة إلى قتلهم وتعذيبهم، بل اقترح وسائل وأدوات أفعل في التعذيب. في كتاب فريدريك إنغلز «الحرب الأهليّة في ألمانيا» (1850) ثمّ مع كارل كاوتسكي، وخصوصاً إبّان قيام النظام الشيوعيّ في ألمانيا الشرقيّة بعد الحرب العالميّة الثانية، أحيط مونتسر بتكريم كبير، هو الذي هُزمت ثورته على يد «تحالف» الأمراء الإقطاعيّين وكنيسة روما «الإقطاعيّة». كما جرى التوكيد على البُعد الاقتصاديّ-الاجتماعيّ للإصلاح الدينيّ، وعلى عناصر شَبَه بين ثورتي القرن القرن السادس عشر و1848 لا سيّما في ما خصّ أهميّة «تحالف العمّال والفلاّحين»، واعتُبر أنّ هزيمة تلك الثورة هي ما أعاق تطوّر ألمانيا وأخّره طويلاً. وفي التحليل الماركسيّ المُعتَمد بقيت ثورة مونتسر الحركةَ الجماهيريّة والثوريّة الأهمّ التي أطلقها الألمان حتّى ثورة 1918.
وبعد الفلاّحين ركّز هجومه على اليهود الشيطانيّين هم أيضاً، بـ«أكاذيبهم» و«خداعهم»، ودعا إلى قتلهم وتدميرهم كأفراد وجماعة، وهو ما استخدمته النازيّة بعد قرون في أدبيّاتها، تكريماً له وبرهاناً على صوابها. ورغم أنّ لوثر دافع في شبابه عن اليهود واحتجّ على معاملتهم في أوروبا، فقد صدر عداؤه اللاحق لهم، وفق التحليل الرائج، عن فشله في تحويلهم إلى مذهبه المسيحيّ. يضيف ماكس فيبر عنصراً آخر هو أنّ اليهود «وقفوا في صفّ الرأسماليّة المغامِرة ذات التوجّه السياسيّ والتأمّليّ. روحيّتهم الأخلاقيّة كانت، بكلمة، روحيّة الرأسماليّة الطريدة. لكنّ البيوريتانيّة حملت الروحيّة الأخلاقيّة للتنظيم العقلانيّ لرأس المال والعمل». Max Weber, The Protestant Ethic…, P. 111. هكذا كتب «عن اليهود وأكاذيبهم» في 1543، ما سمح بإجراء مقارنات أكاديميّة وبحثيّة كثيرة بين إدانته لهم وإدانة اللاساميّين ثمّ النازيّين، كما بين عدائه الدينيّ لليهود (القابل للتذليل في حال تحوّلهم إلى المسيحيّة) وعدائهم العرقيّ (الذي لا يذلّله شيء بما في ذلك التحوّل الدينيّ).
وإذ أبدى أسفه لعجز العالَم المسيحيّ عن طردهم، اقترح إحراق مدارسهم ودُور عبادتهم، وتدمير بيوتهم، وانتزاع كتبهم الدينيّة منهم، ومنع حاخاماتهم من تدريس الدين فإن لم يفعلوا عوقبوا بالموت أو بتر الأعضاء، كما اقترح ردع اليهود عن سلوك الطرق التي تؤدّي إلى الأرياف، وعن ممارسة الربا، ومصادرة ما يملكونه من مال سائل ومن فضّة وذهب، وفرض العمل اليدويّ المضني عليهم وإلاّ فطردهم كلّيّاً من البلد.
ولم يكن لوثر قليل القسوة حيال «القائلين بتجديد العماد» (anabaptists)، ممّن تقاربَ مونتسر معهم وتفرّعت عنهم فرق في عدادها الكويكرز. و«تجديد العماد» هو الاسم الذي أطلقه عليهم خصومهم، تنويهاً بمطلبهم تأجيل العمادة إلى ما بعد إقرار الشخص المعنيّ بالمسيح. ولم توفّر عدوانيّة لوثر، الوحشيّة أحياناً، المرابين والنساء وعاملات الجنس والأطفال المعاقين.
ووفق إلياد، شارك لوثر معاصريه «عدداً من الأفكار والمعتقدات الشائعة في زمنهم. فهو، مثلاً، لم يساوره أيّ شكّ في القوّة الرهيبة للشيطان أو ضرورة حرق الساحرات، وقد أقرّ الوظيفة الدينيّة للخيمياء. وكان مُعتدّاً بنفسه اعتداداً لا يطاق، فجاء مثلاً في رسالة كتبها في 1522: «لا أقبل أن يحاكِم أحد معتقَدي ولو كان [المُحاكِمون] ملائكة. إنّ من لا يتلقّى معتقدي لا يستطيع بلوغ الخلاص».Mircea Eliade, A History…, p. 237 & 243. وفي كتاب تعاليمه الدينيّة القصيرة الذي كتبه في 1529 يقول عن الذين يرفضون تلك التعاليم: «فليتمّ إخبارهم أنّهم إنّما ينكرون المسيح وأنّهم ليسوا مسيحيّين، وليَتُمّ رفضهم في الأسرار، ورفض رعايتهم لأيّ طفل أو تمتّعهم بأيّ من حرّيّات المسيحيّين، وليُسلَّموا بكلّ بساطة إلى البابا وموظّفيه، لا بل إلى الشيطان نفسه. إلى هذا، فليرفض آباؤهم أو أسيادهم تزويدهم الطعام والشراب، وقولوا لهم إنّ الأمير سوف يطرد هؤلاء الناس الوقحين من الأرض».عن Michael Massing, Luther vs. Erasmus…, سبق الاستشهاد.
وبما ينسجم مع هذه الطباع، كان في سجالاته عدوانيّاً وتشهيريّاً، بما ينمّ عن أسوأ ما في البشر وبعض أشدّه انحطاطاً. فبسبب خلاف على القدّاس، حيث أكّد لوثر حضور المسيح بجسده في القربان، نشب نزاع مع الإصلاحيّ السويسريّ أولريخ زوينغلي الذي خفض ذاك الحضور إلى سويّة رمزيّة. أمّا سجاله الأعنف فكان ضدّ الإصلاحيّ الهولنديّ ديزيداريوس إيراسموس الذي اعتبر أنّ الإنسان يملك إرادة حرّة وهو ما نفاه لوثر بقوّة.
وكان إيراسموس قد حاول تثبيت مبادئ الإصلاح من دون تقسيم الكنيسة، وناوأ الحروب والعنف، اللفظيّ منه والفعليّ، كما كره عدم التسامح حيال المختلف دينيّاً. لكنّ أفكار إيراسموس تلك لم تُثر في لوثر «إلاّ القرف والغضب والاحتقار»، كما قال الأخير بنفسه، أمّا انشغاله بالسلام العالميّ فلم يستدعِ من لوثر، القوميّ والدولتيّ، سوى الإدانة والتنديد.
وكما سبقت الإشارة كان جون كالفن أشدّ راديكاليّة وتماسكاً وأكثر نصّيّةً من لوثر، وهو ارتقى من رفض لوثر جوانبَ أساسيّة في الكاثوليكيّة إلى استكمال بناء مسيحيّة بديل. وكالفن، عند إلياد، لم يتفوّق على لوثر في المساهمة بتقدّم كنيسته اجتماعيّاً وسياسيّاً فحسب، ولكنْ أيضاً في ما أعطاه من مَثل على «الأهميّة الوظيفيّة واللاهوتيّة للنشاط السياسيّ. وهو، في الحقيقة، استشرف تلك السلسلة من اللاهوتات السياسيّة التي راجت في النصف الثاني من القرن العشرين: لاهوت العمل ولاهوت التحرير ولاهوت مناهضة الاستعمار إلخ».Mircea Eliade, A History…, p. 248-9.
لكنّ مدى إطلاقيّة السيادة الإلهيّة والتشدّد في مبدأ «المقدّر» ألغيا فكرة «الإرادة الحرّة» لديه. فالإنسان بدا مجرّداً من كلّ قوّة واختيار، واختيارُ الله مَن ينتهي إلى الجنّة ومَن ينتهي إلى النار غير مشروط بأيّ شيء يفعله الإنسان. إنّه اعتباط إلهيّ لا تفسير له. وبدوره فالمسيح الكالفينيّ لم يُضحِّ بنفسه لخلاص الناس قاطبة، بل لخلاص أولئك الذين اختارهم الله وهم المسيحيّون، علماً بأنّ الله راسخ وثابت في آرائه لا يغيّرها، وليس ثمّة ما يمكن فعله لحمله على تغييرها. صيغت لاحقاً أفكار كالفن الأهمّ على شكل مبادئ خمسة: 1- الانفساد الكامل (total depravity)، أي أنّ الخطيئة تعيش فينا وتتحكّم بنا من كلّ صوب. 2-الاختيار غير المشروط (unconditional election)، إذ الله اختار المسيحيّين ليكونوا شعبه، وقد فعل ذلك دون أن ينهض اختياره على أيّ اعتبار أو عامل معروف. 3- التكفير المحدود (limited atonement)، فالمسيح لم يمت ليفدي الجميع، بل فقط الذين اختارهم، أي المسيحيّين. فلو أنّه مات في سبيل الجميع لأدّى ذلك إلى إنقاذ الجميع، لكنّ المسيحيّين وحدهم مَن سيعرف الخلاص. 4- النعمة الإلهيّة التي لا تُقاوَم (irresistable grace)، فقرار إعادة فرز البشر وتخليصهم هو ما لا يستطيع البشر أن يتدخّلوا فيه. 5- استمرار قداسة القدّيسين (perseverance of the saints)، أي أنّ الذين اختارهم الله يبقون مختارين إلى ما لا نهاية حتّى لو وقعوا بعد ذلك في الخطيئة.
ومع كالفن منعت الكنيسة الموسيقى والرقص، وذهبت أبعد كثيراً من لوثر في التعرّي من تعابير الفنّ والتماثيل والأيقونات، كما رفضت في الملابس الأزياءَ والزينة وكلّ ما يخفض علامات «الحشمة والوقار». وفي ظلّ الكالفينيّة سُرقت الكنائس ودُمّرت وأُحرقت خصوصاً في زوريخ.
وقد امتدح كالفن، وقبله لوثر، الراهب سافونارولا الذي أُعدم ثمّ أُحرق في 1498، بعد سنوات من حكم شديد التزمّت أخضع له الفلورنسيّين، حيث كان ماكيافيللي «الجمهوريّ» يده اليمنى. فاضطهد الفنّانين وصنّفهم وثنيّين لافتتانهم بأعمال العالم الكلاسيكيّ، كما اضطهد المرأة وطارد التزيّن والملابس الزاهية. ولئن كان سافونارولّا منذ شبابه بالغ النقديّة للقيادات الكنسيّة وفسادها، فهو في عظاته عزف على وتر النهايات القياميّة والرؤيويّة.
أهمّ من هذا أنّ كالفن أقام حكماً ديكتاتوريّاً ودمويّاً في جنيف عارضته غالبيّة سكّانها ممّن طردوه في بدايات دعوته، بحيث لم يعد إلى المدينة إلاّ في 1541. وقد بدا حكمه للكثيرين نوعاً من احتلال أجنبيّ يمارسه اللاجئون البروتستانت غير السويسريّين، خصوصاً منهم الفرنسيّين ككالفن. ولئن استمرّت معارضته في جنيف، خصوصاً لدى النُوى البورجوازيّة، فقد جوبه بعض رموزها بالسجن والتعذيب وقطع الرؤوس. وبلغ التوحّش ذروته في التعامل مع ميشال سرفيتوس، اللاهوتيّ والطبيب والنهضويّ الإسبانيّ، الذي فرّ من السلطات الكاثوليكيّة في 1553 لاجئاً إلى جنيف فاعتُقل بتهمة الهرطقة وأُحرق.
وبدورها تميّزت تجربة جون نوكس بحساسيّة خاصّة حيال استقلاليّة الكنيسة (البريسبيتيريّة) عن الدولة ورفض أيّ قيد تفرضه عليها الحكومة، وذلك بنتيجة التشابك الوثيق الذي كان قائماً بين الكنيسة والسلطة، لا في اسكتلندا وحدها بل أيضاً في فرنسا وإنكلترا المتدخّلتين في شؤونها. وتميّز نوكس أيضاً، وكما سبقت الإشارة، بحساسيّة خاصّة حيال تعليم الفقراء. لكنْ مقابل هذا المنزع التقدّميّ، جاء موقفه من النساء وتعاطيهنّ السياسة والحكم رجعيّاً خالصاً. ففي 1558، وفي نصّ شهير له عن «الأنظمة الرهيبة للنساء»، اعتبر أنّ تسنّم المرأة عرشاً مَلكيّاً يخالف الطبيعة والكتاب المقدّس إذ الله لم يهيّئ النساء ليكنّ قادة. ذاك أنّ اضطهاده ونفيه تلازما مع وجود ملكات نساء على العرش في إنكلترا و/أو اسكتلندا، خصوصاً منهنّ «ماري الدمويّة».
لقد كان لعنف لوثر أن صدّ إيراسموس وجعله ينحاز إلى الكاثوليكيّة رغم نقده الحادّ لكنيستها، ورغم مساءلته المبكرة لتأويلها الكتاب المقدّس. لكنّ تجربة إيراسموس، الذي لم يُحسَب «رسميّاً» بين الإصلاحيّين، تبقى بالغة الأهميّة في التمييز بين المصلحين والإصلاح، بوصفه أحد سياقات العمليّة التاريخيّة الأوروبيّة.
فهو الأقرب إلى تجسيد التقاطع بين النهضة والإصلاح،احتلّ إيراسموس، من خلال كتيّبه «في الكياسة عند الأطفال»، موقعاً مركزيّاً في تأريخ السوسيولوجيّ الألمانيّ-البريطانيّ نوربرت إلياس لانتقال أوروبا من «الكياسة» (civility) إلى «الحضارة» (civilization) وإلى المركزة السياسيّة للدول، ودور «الإتيكيت» البَلاطيّة في ذلك (آداب المائدة، تنظيف الأنف، البصاق، السيطرة على وظائف الجسد إلخ…). وينبّه تناول إلياس إلى تكوين إيراسموس المُلوّن، والاقتراحيّ لا الإملائيّ، وبمعنى ما القليل الإيديولوجيّة، حيث يختلف عظيم الاختلاف عن شخصيّتي لوثر وكالفن. صداقته مع ثوماس مور واعتكافه في سنواته الأخيرة احتجاجاً على انحطاط السجال وتشهيريّته كما فرضهما لوثر، براهين أخرى. انظر Norbert Elias, The Civilizing Process: Sociogenetic and Psychogenetic Investigations. والأبعد عن طرح التقدّم بوصفه ديناً أو ميثولوجيا أو وعياً إيديولوجيّاً جديداً ومغلقاً ومفارقاً اسمُه، هذه المرّة، «إصلاح دينيّ».
أمّا نحن…
لم يكن الهدف من إطالة تلك الجولة قول شيء لم يُقل من قبل، أو ادّعاء ذلك، بل تظهير ضخامة عدد المسائل والتحوّلات التي لا نملك راهناً أنداداً لها. ففي مقابل الصعود الشامل والعظيم الذي أحاط بالإصلاح الأوروبيّ، يغمرنا اليوم محيط من التراجع والتبديد يتّسع بإيقاع يوميّ. وإذا دققنا في موادّ «الصعود» ذاك لن يفوتنا موقع الحرّيّة المركزيّ وصنوُه يقظة الفرد والفرديّة، كما يَمْثُل الحضور القويّ لتكبير العالم، إنْ كمساحة جغرافيّة أو كعلم ومعرفة وإبداع، فضلاً عن التدخّل الذاتيّ الهائل في صنع تلك العمليّة التاريخيّة و/أو الاستجابة لها. وهو كلّه ما نقابله في بلداننا بالطغيان والعسف ومعْس الفرد وفرديّته، وبتضييق العالم وتضييق ذواتنا فيه، وطبعاً، وتالياً، بالاستنكاف، القسريّ أو الطوعيّ، عن الشأن العامّ.
وهذا لا يعني بالضرورة أن نكرّر التجربة الأوروبيّة بحذافيرها، هذا إذا كان التكرار ممكناً أصلاً. لكنّ ما يعنيه أنّ بضعة عناصر، في رأسها الحرّيّة والمبادرة وشعور الفرد بفرديّته ضدّاً على العصبيّات والقرابات والقضايا الإيديولوجيّة المعطاة والاستلابيّة، لا بدّ منها، ولو كاحتمال أو وعد، وبصيغ وصياغات تختلف عن صيغ الغرب وصياغاته. أمّا الافتقار الشامل الذي ننوء تحته فلا يفضي إلاّ إلى تديّن أردأ، أكثر حَرْفيّة وأشدّ قسوة وانغلاقاً.
ولا بدّ من استدراك بسيط هنا، مفاده أنّ ما نعانيه من تديّن يفتقر إلى ما كانته الكنيسة الكاثوليكيّة في العصور الوسطى. إنّه، رغم قدرته على الإيذاء، قليل الهيبة والمهابة تتخلّل العلاقةَ به العلاقةُ بالسلطات السياسيّة التي تملك أمر تكييفه وتشكيله ولو على الضدّ منها وبالتعارض معها. ولنفكّر هنا، كمجرّد مثل فاقع لكنْ غير حصريّ، بثنائيّة جمال عبد الناصر وسيّد قطب، نزولاً إلى ثنائيّة بشّار الأسد وزهران علّوش. فإذا صحّ تالياً أنّ بتّ مسألة السلطة ليس كافياً، صحّ أيضاً أنّ تلك المهمّة تبقى شرطاً شارطاً لأيّة مهمّة تليها. يضاعف هذا الإلحاحَ أنّ تدخّليّة السلطة عندنا، وهي شبه مطلقة، لا تترك حيّزاً يمكن الرهان على تغييره من دون تغيير السلطة نفسها. لهذا مثلاً يلوح تقديم العلمانيّة بوصفها فصلاً للدين عن الدولة أقرب إلى نصف الحقيقة الذي لا يكتمل من غير نصفها الآخر، وهو فصل الدولة عن الدين، وجعل الأخير، من ثمّ، قادراً على التفاعل الحرّ مع عالمه وناسه ومحيطه، يؤثّرون فيه ويؤثّر فيهم.
يكفي أن نقارن بتحوّل لوثر إلى قائد شعبيّ يسترضيه الأمراء، ويُلقَّب بـ«السيّد كلّ الناس» (Mr. Everyman)، حالَ مشايخ الأوقاف، أو الإصلاحيّين الذين يخشون على حياتهم وتخاف دور النشر نشر كتبهم، أو من يمارسون «الإصلاح» بالمقدار والكيفيّة اللذين ترغب بهما السلطة.
وهكذا يبدو الطلب، منذ الأفغانيّ، على «لوثر مسلم»، أو الدعوات، في أيّامنا، إلى «تجديد الخطاب الدينيّ»، أشبه بملء الغربال بالماء، إن لم يكن بالوحل. وقد يغامر المرء بالقول إنّ ما كان متاحاً على هذا الصعيد في العهد الكولونياليّ، مع محمّد عبده ثمّ تلامذته، يبقى، على تواضعه، أكبر ممّا هو متاح اليوم. فحينذاك، كانت حاجتنا إلى العصبيّة أقلّ، بما في ذلك تحويل الدين إلى عصبيّة. ذاك أنّ «القضايا» لم تكن وجدت من يربّيها ويتعهّد نماءها وإحداث الاستنفار والتعبئة الدائمين من حولها، ولا كانت تلك «القضايا» موضوع لعبة خلافيّة/اتّفاقيّة متواصلة بين ضابط المخابرات وشيخ الدين والعقائديّ المتعلمِن.