سأبداً بسؤالنا المعهود، كيف تحبين أن تعرّفي على نفسك؟ 

أحب أن أعرّف على نفسي بصفتي أنثروبولوجية وامرأة ومشتغلة بالبحث في الشرق الأوسط.

إن أحببت أن أسترجع خطاً ناظماً لعملك البحثي بكلمات مفتاحية سأقول: جسد، إيمان، ذوات سياسية، ما عدا عملك الأول على زيارات المقامات المقدّسة في فلسطين والذي لم أعرفه كفايةً. لمَ اخترت مواضيع البحث هذه؟ وكيف تختارين ميدان وموضوع البحث في مسارك الخاص؟ 

هناك نوعان من الباحثين، النوع الأول يختص مباشرة بمواضيع وثيمات بحثية، بينما يدرج النوع الثاني مواضيعه ضمن مسار معين ويحب استكشاف الأشياء والتفاجؤ بمواضيع جديدة، وكان من حظي الوفير أني تمكنت من ممارسة النمط الثاني من البحث. طبعاً تبقى المنهجية رصينة ومتسقة وواحدة في كلا الحالتين، ولكنني اشتغلت على مواضيع وعلى ثيمات متعددة، ولطالما مثّل لي الاختصاص اللصيق بثيمة مشكلة. أنا بحاجة أن أكتشف وأن أبدأ في كل مرة من جديد، وأن أستقصي وأنبش في مواضيع، وبالتالي التموضع كمختص حصري لا يناسبني على الإطلاق. هذا الاتجاه الانتقائي سمح لي بحرية معقولة في التفكير.

بدأت دراستي في الإسلاميات كمستعربة، وأنجزت رسالة دكتوراه كلاسيكية حول زيارة الأماكن المقدّسة في فلسطين. طبعاً كان هناك دائماً خط ناظم في دراساتي، وهو العلاقة مع اللامرئي، العلاقة مع الله المرغوب والمتعالي في آن. هذا الخط كان حاضراً في أطروحتي للدكتوراه حول الحج في فلسطين، أو لنقل بتعبير أكثر دقةً: الزيارات الدينية للأماكن المقدّسة في فلسطين، وصورة موسى الذي يُجسّد رغم غيابه عبر كثير من الأشياء: عبر القبر، وعبر المرويات وعناصر أخرى. فيما بعد انتقلت إلى العمل على صورة مريم العذراء، مما ساقني للعمل على العلاقات البين-دينية في بلد مثل لبنان، والوجه الأنثوي للعذراء دفعني للعمل على المرأة ومكانتها في الإسلام وفي المسيحية، ومن ثم عملت على كاترين، المرأة اللبنانية المتصوفة المسيحية. لذا أنا أرى الموضوع بوصفه مساراً أكثر مما هو مواضيع ثابتة مختصة ومحددة مسبقاً. وفي مساري هناك شيء فريد، وهو أنني لطالما تخيلت نفسي أعمل على سوريا، ولكني في الحقيقة لم أعمل يوماً في سوريا الجغرافية. أنجزت فيها دراستي للعربية، واحتفظت بأمنية أن أعود إليها للبحث وهو ما لم يحدث للأسف. كنت أنوي الذهاب إلى هناك عام 1996 للعمل في المركز الثقافي الفرنسي كمدرّسة لغة فرنسية، ولكن العمل لم يُتح لي ودُعيت لأن أقبل بعمل مشابه في القدس، وفي النهاية ذهبت إلى القدس وأنجزت دراستي حول مقام النبي موسى هناك، وعملت كذلك على الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. بعد ذلك بدأت العمل على النساء المتصوفات المسيحيات وظهورات العذراء لهنّ. في الحقيقة، إن أكبر نموذج عن المتصوفات المسيحيات هي ميرنا في الصوفانية في دمشق، لذا قررت أن أعمل على نموذج ميرنا في سوريا، ولكني قلت في نفسي أن عليّ أن أبدأ في لبنان. لبنان غير مستقر على الدوام ولا أعرف ما قد يحصل، فلأبداً في لبنان، أما سوريا فلن يكون هناك مشكلة، هي مستقرة دائماً، لدي كل الوقت لاستكمال موضوعي هناك. عام 2011 وإثر ما حصل في سوريا، بدأت أطرح على نفسي أسئلة جديّة حول طبيعة عملي، عن معنى الالتزام في عملي، ماذا أعمل؟ لمن أعمل؟ لأي نمط من القرّاء أكتب؟

هذا يحيلنا إلى سؤال كنت أنوي طرحه في النهاية، ربما من السديد أن أطرحه الآن: تعرفين أن الأنثروبولوجيا في مخيال جمعي ما في منطقتنا ارتبطت بمرحلة كولونيالية، لذا هناك توجس وحذر دائمان من الأنثروبولوجيين الذين «يدرسوننا»، هل تجدين أثراً لهذا التوجس في عملك وكيف تتعاملين معه؟ 

صحيح، هذا مرتبط بالإثنولوجيين والمستشرقين المقربين من الموظفين الإداريين في المؤسسة الكولونيالية والمرافقين لهم في فتوحاتهم. أعتقد أن جزءاً من تأهيلنا هو أن نتعلم الحذر الشديد من أن ننظر إلى ميداننا البحثي نظرة فوقية ومعمِّمة للمواضيع البحثية. علينا التحلي بملاحظة عالية للتفاصيل وبتواضع جمّ كذلك. علينا الانتباه أيضاً لما نمثله من موقعنا الخارج عن الثقافة المحلية، وأقول أنه ينبغي أن نستمع وننتبه لما يمكن أن نتعلمه من الآخرين، لا أن نأخذ ونسلب منهم الأشياء، بل أن نتعلم. هناك فرق كبير. هذا هو السر: أن نتموضع دائماً في موقع المتعلِم، لا أن نعطيهم دروساً عما هم في الحقيقة وعن كينونتهم.

أن نعلمهم ما هم عليه، وأن نفرض التصنيفات والمقولات والتعريفات، هذا هو المنظور الكولونيالي. والحقيقة أنني صادفت أثراً لهذا المنظور الكولونيالي في الميادين البحثية التي اشتغلت عليها. على سبيل المثال، في أماكن الزيارات المقدسة والمقامات الدينية، هناك أدبيات تصنيفية لآباء يسوعيين، فيها الكثير من المطلقات القطعية المشابهة للتصنيفات الكولونيالية، نرى فيها المرء أرثوذكسياً لا يبارح هويته، أو شيعياً لا يتحرك من حيّزه ويبقى شيعياً طوال حياته. في هذه الأدبيات، تصنف الارتدادات والاعتناقات الدينية الجديدة على أنها شديدة الإشكالية، بينما في الواقع والحقيقة الانتماءات على العموم هي انسيابية ومرنة أكثر بكثير مما يتخيله المصنف، والارتدادات والاعتناقات الجديدة متداولة في الشرق الأوسط: في سوريا ولبنان وفلسطين. علينا نحن الأنثروبولوجيين أن نكون شديدي التيقظ لهذه الانسيابية أو السيولة في الهويات، حين ننتبه إلى الفاعلين الحقيقيين نرى أنهم في حركة ومفاوضات ديناميكية دائمة، حتى فيما يتعلق بهوياتهم، هذا الشيء تعلمته في الأنثروبولوجيا البراغماتية التداولية.

صحيح أنني أعمل على موضوعة الإيمان والاعتقاد، ولكني أرى دائماً أن الناس ليسوا حبيسي معتقداتهم بالمطلق. الناس في حركة إعادة ترتيب وتفاوض مستمر حول معتقداتهم ليتمكنوا من العيش. سأعطيك مثالاً: إن أحببتِ العمل على رعيّة كنيسة مارونية، كما فعلت في قرية بيشوات اللبنانية أثناء أبحاثي، عليكِ أن تهتمي بشكل أساسي بما يدور على هامش الموضوعة الأساسية من معتقد وإيمان ونصوص، عليك أن تهتمي بالحياة التي تدور حول ذلك. حين يتعلق الأمر بطقس المناولة وتناول القربان المرمّز لجسد المسيح، لا يكون الناس مستغرقين تماماً في هذه الفكرة، يتقدمون لتناول القربان وهم شاردون أو منهمكون في أمر آخر، هذا ما ينبغي أن ننتبه إليه ونتحدث عنه ونكلمهم حوله. إن أهملنا هذه الهوامش في تحليلاتنا، سنصل إلى دراسات جوهرانية: السنّة هم كذا والشيعة هم كذا والموارنة هم كذا… في النهاية، وكما رأيت، هناك شيعة وسنّة سوريون يأتون إلى قرية بيشوات، رغم أنها قرية فيها حضور قويّ للقوات اللبنانية المارونية، ليصلّوا في كنائسهم. هذا ما يهم أو ينبغي أن يهمّ الأنثروبولوجي، وليس جوهرانيات الجماعات وانحباساتها الهوياتية، طبعاً دون أن نكون سذّجاً غافلين عن التوترات الموجودة بين الجماعات دون أدنى شك.

لنتابع في موضوع المفاوضات والتحركات الميكروية التي يقوم بها الفاعلون الاجتماعيون باستمرار للتعبير عن الهوية. أنت ترين هذه المفاوضات والتعبيرات الذاتية الصغيرة اليومية كتعبيرات عن ذوات سياسية أيضاً، أليس كذلك؟ وترين أن الذوات السياسية هذه لها تعبيراتها الجسدية كذلك؟ الجسد كتعبير سياسي شَغَلكِ في عملك البحثي كما يبدو لي.

صحيح، هذا محور أساسي وبارز في عملي، انكببت عليه حين درست كاترين، هذه المتصوفة المسيحية في بيروت في حي النبعة، والتي تعيش طقوس ظهورات مريم العذراء. هي امرأة عادية جداً وليست معروفة على الإطلاق، تعيش في حي شعبي وتجسد المسيح أو العذراء، هذا انزياح كبير في محيطها وسياقها المهمِّش جداً لدور المرأة. وبينما هي أم لثلاثة أطفال، تعلن أن جسدها هو المكان الذي تحل فيه مريم العذراء، وتعيش مشاهد وطقوساً تجسيدية، يوم الجمعة العظيمة مثلاً. في الحقيقة، التعبير السياسي الذي تقوم به هذه المرأة هو فعل احتجاج ومقاومة، تعبر عن هذا الفعل بجسدها، جسد المرأة الولود، الجسد الذي أنجب ثلاثة أطفال ولم يختر الرهبنة. يصبح الجسد المهمش عادةً موطناً تتجسد فيه قدسيات الجماعة. هذا هو التعبير السياسي الذي أقرأه في قصة المرأة المتصوفة المسيحية هذه، وهو انزياح بالنسبة لوجوه نساء كُرسن كقديسات، مثل هندية الصوفية الحلبية، أو القديسة رفقة. حين بدأت الظهورات الدينية تتجلى لرفقة، قررتْ فوراً دخول الرهبنة والانكفاء في دير والانسحاب من «العالم»، هذا النموذج معروف. بيد أن نساء مثل كاترين وميرنا هنّ نساء على قيد «العالم»، نساء عاديات غير مكرّسات ويعكسن بأجسادهن أوجهاً مقدسة. هذا الانزياح انزياح سياسي: البقاء في العالم كنساء ولكن كمتصوفات كذلك. في تموضعهن هذا، هنّ يزحزحن الكثير من المعايير: منازلهن؛ حيزهن العائلي أصبح كنيسة للصلاة تؤمّها الجماعة والكاهن ليناول رعيته ويستمع لاعترافاتها. هذا انزياح هائل للكنيسة إلى الحيّز المنزلي. ليست تلك النساء ثوريات عظيمات، لهذا أطلق على هذه الانزياحات، وعلى انزياحات تقوم بها نساء مسلمات في سياق آخر، اسم «الفعل المخالف للسلوك العام»، أو «السلوك المناهض»، أرى أنه من المهم رصد هذه الانزياحات المقاومة وصوغها كمفهوم والتي من شأنها أن تؤدي إلى تغييرات سياسية واجتماعية أكبر.

أرى القبيسيات المسلمات بنفس المنظور تماماً حين أنظر إليهن كحالة دراسية ضمن سياقهن الاجتماعي والسياسي ومن وجهة نظر علمية، وأحب أن أشدد على هذه النقطة حتى لا يُفهم كلامي وكأنه كلام معياري يُعلي من شأن جماعة ما، أو ككلام اعتذاري عن مواقف سياسية اتخذتها القبيسيات في لحظة ما. هنّ محافظات بشدّة، وملتزمات بنموذج لباس متصلب، من المانطو إلى الحجاب، إلى الجوارب السميكة، ولكن في نفس الوقت هن يرفضن نتف وتشذيب حواجبهن تمسكاً بحديث لعن النامصة والمتنمصة، ويناقشن مواضيع يمكن أن نصفها بالنسوية المتقدمة كالعمل المنزلي المأجور للنساء، ويشدّدن على أهمية التحصيل العلمي المتقدم وبأفرع قلما تدخلها النساء، ويحثُّنَّ الأخوات على ريادة الأعمال وعلى قيادة بنى تعليمية يضعن فيها رؤاهن. أقرأ هذا أيضاً كانزياح مهم أو كفعل مخالف للسلوك، هو مهم لأنه يقول شيئاً عن رغبة هذه الذوات بالتغيير والتحرك، تغيير المعايير السائدة. في موضوع شعر الجسد، هناك أدبيات مطوّلة عند القبيسيات في تسعينات القرن الماضي، اليوم تغيرت مواضيع اهتمامهن ولكنه كان موضوعاً مهماً يقاوم، على مستوى صغير، إملاءات مجتمعية حول الجمال والأنوثة والجسد المحضَّر للزواج إلخ. وهن يُشهرن كلام الله والأحاديث في وجه من يعترض على سلوكهن، ويرفضن الفتاوى في هذا الشأن، في عودة إلى النصوص ومقاومة للأعراف والتقاليد. مقاومة الأعراف والتقاليد باسم النصوص والأحاديث ليست إلا فعلاً مخالفاً للسلوك كما أطلقت عليه، وهو ليس بالنافل في الواقع.

تدخلين في تفاصيل ومنمنمات وترصدين انزياحات صغيرة جداً كتعبير سياسي، يبدو لي أنك تختلفين بصفتك أنثروبولوجية وأنثروبولوجية براغماتية عن الباحث بالعلوم السياسية، الذي يرى بشكل ماكروي كبير ويخط ترسيمات وأخطوطات عامّة جداً في شأن التعبير السياسي. ما تعليقك على هذا الموضوع؟ ألا ترين في ذلك نسبوية ما؟ لأطرح السؤال بطريقة ثانية، أين الحقيقة في كل ذلك؟ الباحث السياسي (الغربي على الأقل) لا يرى في مجتمعاتنا أي قوى ديمقراطية تُذكر ما عدا القوى الإسلامية السياسية، وأنت تهتمين برصد انزياحات سياسية صغيرة على مستوى امرأة متصوفة مسيحية أو امرأة قبيسية مسلمة في وجه معايير مجتمعية وعادات وتقاليد، كيف يمكننا التوفيق بين هذين المنظورين في مقاربة الواقع معرفياً؟

هذا سجال كبير وليس بسيطاً أو واضحاً على الإطلاق. حين تنشغلين بالتفاصيل وترفضين التعميمات الكبيرة، وتتمسكين بإعادة تركيب السياق الذي ترصدين من خلاله حقلك البحثي وموضوعاتك البحثية، دون ادعاء الوصول للحقيقة المطلقة – لأنك تعريفاً محدودة بمقيدات عديدة، شخصك، جنسك، جنسيتك وفهمك المحدود حتماً – حينها لا يمكنك أن تتجرأي على صوغ حقائق عامة كبرى بانورامية. غير أنه كما في كل علم، لا بد أن نكشف عن بعض الخلاصات العامة. وأنا شخصياً أهتم بالدراسة طويلة الأمد لكي تتكشف لي اتجاهات عامة بعض الشيء في موضوعات بحثي ودراستي، أحياناً أنفق سنوات وأعاود الرجوع لنفس الموضوع بعد مدّة لأرى ما الذي تغير وما الذي بقي ثابتاً. وأيضاً أنا أهتم بالتاريخ، وهذا مهم جداً. أحاول أن أقرأ عبر خط زمني طويل ما الذي يصمد عبر التاريخ وما الذي ينقطع ومتى ولماذا. وهذا يسمح ببعض التعميمات في البحث، التاريخ مهم جداً في الدراسات الاجتماعية والإنسانية.

سأطرح مثالاً من عملي: عندما بدأت العمل على المتصوفات المسيحيات، كاترين وميرنا، انبهرت وظننت أنهنّ نساء غير عاديات. بعد فترة دُعيت إلى مؤتمر لم يكن فيه إلا باحثون في مواضيع المظاهر التصوفية المسيحية النسائية من العصر الوسيط أو من العصر الحديث، ولكنني كنت الوحيدة الباحثة في الزمن المعاصر، حينها اكتشف أنه رغم كل الانقطاعات والانزياحات التي رصدتها عند النموذجين المبحوثين في عملي، إلا أن هناك الكثير من النقاط المشتركة مع المتصوفات في عصور أخرى، واللواتي كنّ يعشن نوبات هستيرية تصوفيّة، مثلاً الترتيبات والتوضيبات التي تتم خلالها الظهورات الإلهية، ووجود مساعدين يحيطون بالمرأة المتصوفة، ووجود كاهن يخالف تراتبية وتعاليم كنيسته ليرافق المرأة في حياتها التصوفية، وقد ينجز في هذه المرافقة سيرورته التصوفية الخاصة، ويقوم بوظيفته ككاهن ضمن منزل المرأة. كل هذه العناصر موجودة في التاريخ، علماً أن كاترين مثلاً، المنحدرة من قرية في كسروان والمتعلمة بشكل بسيط، لم تطّلّع يوماً على هذه المصادر التاريخية. المنظور التاريخي الطويل الأمد يسمح إذاً بالتعميمات، وهو ما أراه دوماً تمريناً مفيداً جداً.

مع ذلك، أصرّ على ضرورة التيقظ لكل ما يخرج عن الإطار المتوقع في الموقف الذي نتواجد فيه، الهوامش والنشازات إن صح التعبير، المِحَن الصغيرة التي يتعرض لها الفاعلون في الموقف الذي ندرسه، أو لنقل «الكركبات» الطارئة غير المتوقعة. هذا مهم جداً. ومن هنا اهتمامي بالطقوس على العموم لأن الطقس تعريفاً مكرر وروتيني ومرسوم مسبقاً، وما يطرأ فيه مثير جداً للاهتمام.

أنت قارئة لأعمال صبا محمود وتعرفينها حق المعرفة، ما هو رأيك بالنسق الذي أدخلته حول الفاعلية السياسية للنساء في المجتمعات المسلمة؟ وهل تعتقدين أن الأفعال المخالفة للسلوك كما تصفينها هي تعبير حقيقي عن الفاعلية السياسية؟ هل سيغيّرن حقاً واقعاً سياسياً بمجرد الامتناع عن إزالة الشعر؟ أنت بحثت وراقبت هذه المجتمعات التي درستها عبر زمن معين، هل لاحظت تغييراً ما على هذا المستوى؟ 

نعم اهتممت بما عبّرت عنه صبا محمود، وأنا ومن خلال تجربتي الشخصية كباحثة في هذه المنطقة لا أؤمن أبداً بمقولة المرأة المكبلة كلياً، هذا ليس صحيحاً. ما أراه، على سبيل المثال في عملي الحالي على اللاجئات السوريات في لبنان، هو أن هناك انقلاًباً كاملاً في نسق وجود المرأة التقليدي وفاعليتها. لا أقول أن أحوال المرأة في المنطقة وردية، ليس هذا على الإطلاق، ولكن لا ينبغي أن نتصورهن ضحايا لأنهن مسلمات ومحجبات. لنستعد حالة القبيسيات التي تحدثت عنها قبل قليل، وهذا يعود بأشكال مختلفة في مقابلاتي مع اللاجئات السوريات، لقد حققن شيئاً لم يحققه الرجال في سوريا الديكتاتورية وهو إزاحة الخطاب السياسي المستحيل في الفضاء العام، حتى في المساجد، باتجاه حلقات منزلية أقمنها في دُورهن في ثمانينات القرن الماضي. ما هذا إن لم يكن فاعلية نسائية لم يتمكن منها حتى الرجال؟

في العالم الذي أدرسه حالياً، وهو عالم اللاجئات السوريات، يبرز هذا الأمر بشكل أكبر. النموذج النمطي لتلك النساء هو المرأة التي لم تخرج لأبعد من 10 كيلومترات من قريتها في شمال سوريا، تتزوج وتبقى في مكانها وأحياناً قد تتزوج من قرية أبعد من قريتها بخمسة كيلومترات على أبعد تقدير، وأحياناً قد تذهب إلى مدينة قريبة لاستشارة طبيب، وغالباً لأمور تتعلق بالعقم والإنجاب، بينما الرجال يتحركون بشكل أكبر للعمل في لبنان أو الخليج. النساء هن من يهتممن بالأرض والبيت والأولاد ولا يعود الرجال إلى منزل العائلة إلا لِماماً. ثم يأتي عام 2011 لتجد النساء أنفسهن وحيدات دون الرجال، الذين إما اختبأوا من الخدمة العسكرية أو بقوا في لبنان أو ذهبوا إلى ليبيا أو التحقوا بالثورة المسلحة، وعلى النساء أن يتدبرن أمورهن.

ما أريد قوله هو أن هناك انقلاباً في الأدوار يحصل في المنفى. هؤلاء النساء «يستفدن» من كل هذه البرامج التي تقيمها المنظمات غير الحكومية لتمكين المرأة، ويتلقين كل تلك التشجيعات والتحفيزات حول «تحقيق الذات». مفهوم تحقيق الذات هذا كان غائباً تماماً في حياتهن الماضية. وحين تكون المرأة مستفيدة من هذه المساعدات، أو أحد أطفالها مستفيداً، عليها أن تتبع كل تلك الدورات التوعوية، وكل مضامين هذه الدورات تدور حول ذلك: «عليكن أن تحققن ذاتكن»، «لكنّ حقوق وعليكنّ المطالبة بها» إلخ. طبعاً كل ذلك ليس إيجابياً مئة بالمئة، ففي عالم شديد الليبرالية، هذا الحثّ هو حثّ على القتال للحصول على حقوق أصبحت تعتبر ميّزات، وبالتالي في خضم تمكين وتشجيع المرأة، نثقل كاهلها بأعباء كبيرة تتعلق بـ«تحقيق الذات»، و«تحقيق الذات» والتفرد هذا لا يُعتق المرأة من مهمات كبيرة أسريّة تقوم بها، فهو عمل بدوام كامل وفق ما تتطلبه هذه المنظمات، يترافق مع عمل آخر بدوام كامل في رعاية الأسرة تقوم بها المرأة. ومن بين التوجيهات باتجاه الفردانية، هناك متطلبات جديدة لم تتعود عليها النساء، مثل مسألة اللقب. هناك اتجاه عام لدى المنظمات غير الحكومية لأن تستعيد النساء أسماءهن الأولى قبل أن يصبحن أمهات، ألا ينادَين أم فلان ولكن بالاسم الصغير قبل الزواج. طبعاً هذه المسألة ليست دائماً موضع تقدير من النساء.

المهم، ما أردت قوله عبر هذه الأمثلة التفصيلية هو أن الانخراط في هذه المسارات الجديدة وما يتطلبه ذلك من عمل وإرادة وطاقة يبيّن إلى أي مدى هؤلاء النساء قويات، يحاولن النجاة بالتأقلم مع هذه المعطيات الجديدة والمثقلة بكل ما أوتينه من قوة.

والأزواج الذين كانوا قبل الحرب في حركة دائمة يجدون أنفسهم مثبطي الحركة تماماً. إن كنت امرأة في بيروت فحركتك أيسر، تتعرضين بشكل أقل للتفتيش والمضايقات، إلخ، وإن كنت امرأة مستفيدة من عمل المنظمات غير الحكومية قد تتحصلين على بعض الرحلات والتنقلات غير المتاحة بالضرورة للرجال. تمثيل الرجال كأفراد أكثر تطرفاً أو خطراً هو تصور حاضر باستمرار في لبنان، وهناك توجس دائم تجاههم لا يحضر تجاه النساء الذي يُمثَّلن دائماً كضحايا وغير فاعلات.

النساء اللواتي تعرفت عليهن، أم نور، أحلام، أم جابر هن نساء يتدبرن أمورهن بما يتوفر ويُعطى لهن، ويحاولن التأقلم. أم جابر تتنقل من جمعية لجمعية، وأضحت تتقن كل شيفرات الجمعيات الإسلامية والمنظمات الدولية ومختلف الجمعيات لتعرف كيف تستفيد منها، هذا يتطلب جهداً. أما أم نور فقصتها مدهشة ومختلفة. هي شابة منحدرة من قرية من قرى حلب، من مجتمع محافظ جداً وزراعي، التقت في طفولتها وفتوّتها بمعلمة تركت أثراً كبيراً في نفسها وزرعت فيها حب التعلم، وظلت تناضل لتكمل دراستها، وحصلت على الشهادة الثانوية، كان من المستحيل أن تكمل دراستها الجامعية ولم يكن لديها مخطط واضح لحياتها ولكنها كانت واضحة في رغبتها بإكمال دراستها. حين وصلت لسن الزواج لم تكن مرغوبة جداً لأنها متعلمة أكثر من اللازم، في النهاية تزوجت من أبو النور وعاشت مع حماتها الطاغية، وهو مسار تقليدي مثل كل الفتيات في منطقتها وفي سنها. كان أبو النور يتنقل للعمل في ورشات في لبنان، وفي النهاية التحقت أم نور به بعد اندلاع الحرب في سوريا.

في حيّها العشوائي الذي قطنته مع عائلتها، لاحظ العاملون في المنظمات أن ابنتها تتقن الكتابة إتقاناً كاملاً في عمر مبكر لا يتجاوز الخمس سنوات، في سياق وظروف لا تشجع على هذا الإتقان. فهموا في النهاية أن أم نور هي من وراء هذه المهارات المبكرة لابنتها، فساعدوها على إقامة مدارس لأطفال الحيّ في بيتها. هنا أيضاً نشهد انقلاباً في المعايير، ما كان يعتبر وصمة، أن تتعلم الفتاة أكثر من اللازم، أضحى مفخرة العائلة في المنفى. أبو النور اليوم فخور جداً بزوجته، وفخور بأن يلقَّب باسم ابنته نور. فاعلية المرأة إذاً تتغير وتأخذ مسارات جديدة في ظروف الانتقال الجغرافي. بعيداً عن هذا الإنجاز، أم نور محجبة ومتدينة جداً.

هذه التوجيهات وهذا الحث على الفردانية وتحقيق الذات الذي تقوم به المنظمات العاملة مع اللاجئين عامل أساسي لإعادة رسم فاعلية وأهلية المرأة في المنفى إذاً؟

أعتقد ذلك. وأعتقد أن هناك أشياء إيجابية تتراكم في المحصلة. في البداية كنت حادّة النقد لهذه المنظمات وعملها مع المرأة: كنت أستغرب على سبيل المثال هذه الرغبة بتغيير عقليات الناس وهذه الاتهامات الكامنة دائماً ضد الرجال، والخطابات الجاهزة من قبيل «لا لعمالة الأطفال»، دون تقديم أي تصور بديل لعيش العائلات وإيجاد قوت يومها، وهوس تحريم زواج القاصرات دون الانتباه أن هناك الكثير من الصبية الذكور الذين يتزوجون بعمر مبكر أيضاً، في سن الخامسة عشر أو السادسة عشر، والتركيز على مشاكل النساء بشكل عام دون اعتبار مشاكل الرجال والذكور على العموم. كنت أنتقد كل ذلك بشدة، ولكن في النهاية وبعد ملاحظة عمل هذه المنظمات على المدى الطويل رأيت أيضاً أن هناك الكثير من الإيجابيات. ومن بين الإيجابيات هذا التمرين الذي تقوم به الكثير من النساء، ومن بينهن إحدى نساء ميداني البحثي أم جابر، في ترجمة تعاليم المنظمات غير الحكومية التي لم يعتدن عليها قبلاً إلى تعاليم قرآنية ودينية يتمكنون منها. في مواضيع تحديد النسل، وهو هاجس آخر لدى المنظمات غير الحكومية يُضاف إلى هاجس زواج القاصرات، كانت أم جابر تستند إلى آيات الإرضاع التي تحث على الرضاعة حولَين، مما يعني ضمناً منع الحمل لمدة سنتين، وهو عمل ليس سهلاً في أجواء وبيئات ومقيِّدات لا توافق بالضرورة على تحديد النسل وإطالة المسافة الزمنية بين الحمل والآخر، بين الزوج والحماة ورفضهما لموانع الحمل، إلخ.

هذا العمل التوفيقي هو إلى حد ما عمل اجتهادي، بمعنى أن أم جابر تؤول النصوص على طريقتها لتتلاءم مع مستلزمات فَرَضها عليها انخراطها في المنظمات غير الحكومية.

يشبه عملهن إذاً عمل الملتقطات، يلتقطنَ ما تيسر لهنَّ في الجوار من أجل النجاة. 

نعم ويفعلن ذلك باستخدام رساميلهن الثقافية. أم جابر على سبيل المثال لديها تربية ومعرفة دينية ما، تسخّرها في عملها كـ«مدرّبة أقران» (peer educator)، وتقوم بحلقات توعية، حيث تحضر بنفسها أسئلة الاستبيانات وتأخذ الوقت الكافي خلال كل حلقة لشرح الاستبيانات والأسئلة المطلوبة. ولديها دائماً جانب نقدي إضافي تدلي به.

سأعاود قولي مرة أخرى: إن إطلاق التعميمات في الحالات التي أدرسها عنيف، لذلك أدخل في التفاصيل والتوصيفات.

ولكن الأنثروبولوجيين البنيويين سجّلوا الأنثروبولوجيا على العلم لأنهم تبنّوا أخطوطات تعميمة لأحوال البشر، أليس ذلك؟ 

طبعاً ولكن ليس في هذا النوع من الدراسات التي أتناولها. طبعاً هناك دائماً خطر النسبوية، هناك مبادئ كبيرة كونية وينبغي التشبث بها والصبوّ نحوها، وألا نستسهل افتراض أن الأمور على هذا المنوال لأنها من جوهر الثقافة. ينبغي الحفاظ على مسافة نقدية من الموضوع المدروس والملاحظة الدقيقة، وكذلك التيقظ للطريقة التي يصوغ فيها الناس أفكارهم النقدية عما يعيشونه، لأنهم في أحيان كثيرة يبعثون رسائلهم إلى الباحث، يقولون أشياء، وهذا يساعد كثيراً في التقدم في الملاحظة والتفكير. والحقيقة أن المنظمات غير الحكومية الذكية تقوم بهذا بالفعل، حالها حال الباحث، تستمع للناس في الميدان، لا تأتي مع أفكار جاهزة حول النظام البطريركي الذي ينبغي سحقه وعن الرجال الملتحين الذين علينا أن نحلق لهم لحاهم. هي تستمع للفاعلين الحقيقيين على الأرض وكيف يعبرون عن أنفسهم وعما يعيشونه، ومن ثم يأتي التعبير عن نشدان أفكار وقيم كونية حول الحرية والعدالة والنسوية إلخ.

حدثتني عن فاعلية وأهلية المرأة وانزياحاتها بين المجتمع الأهلي وبين المنفى، عن تعدد أشكال الفاعلية النسائية كذلك وأوجهها المختلفة، ولكنك عملت كذلك على الفاعلية الذكورية الحبيسة والمكبّلة في عملك على كشاشي الحمام، ما الذي يمكنك أن تقوليه لنا حول الموضوع؟ 

هنا أيضاً تبرز أهمية الصدف في مجال البحث وكيف ننتقل من موضوع إلى آخر، كيف تصنع اللقاءات والصدف كلها خطاً ناظماً ما. في بيروت خلال الأعوام التي تلت النزوح السوري إلى لبنان، أردت أن أبحث في مسارات النساء اللاجئات وتوجهت لهذا الهدف إلى ورشات خياطة في أحد الأحياء العشوائية في المدينة، حيث تقوم منظمة بتقديم فرص مهنية للنساء من خلال الخياطة. أدرت مقابلات مع تلك النساء، مقيّدة دائماً بتوجيهات المنظمة المشرفة بألا أفتح جراح النساء المكلومات، أنا الغريبة الباحثة، وكان علي أن أتجاوز الكثير من العقبات للعمل معهن.

في وقت ما، دعَينَني إلى بيوتهن للتحدث، وهناك قابلت أزواجهن، وكان اللقاء مع رجال تلك العائلات صدمة لي. لاحظت شيئين أساسيين: أولاً التداعي النفسي والجسدي عند الكثير من أولئك الرجال، والذي نلحظه بشكل أقل عند النساء. طبعاً هذه الحقيقة لوحظت في سياقات حروب ومنافٍ أخرى، فالرجال يتأثرون أكثر، خاصة إن كانوا قد تعرضوا لرضوض مباشرة أو قاتلوا في الحرب. طبعاً لم أتمكن يوماً من الحديث معهم حول حياتهم الماضية، إن كانوا قد انخرطوا في القتال أم لا، هذا الجانب بقي سرياً بسبب ظروف إقامتهم في لبنان. أما الشيء الثاني الذي لاحظته فهو أن قسماً كبيراً منهم يمارس تربية وكشّ الحمام على أسطح المنازل. كنت رفقة مصور يريد أن يتعرف أكثر على هؤلاء الرجال، وفي هذه الزيارات اكتشفت كشاشي الحمام عن قرب أكثر.

في حديثهم عن طيورهم وحمامهم، كانوا يحدثونني على أنفسهم في الحقيقة. كانوا يحدثونني على مصاعبهم، ولم أكن بحاجة إلى مواجهة كلامية أو أسئلة مباشرة حول معاناتهم. كان الحمام مجازاً للحديث عن حياتهم ومساراتهم والتزاماتهم، العنف، الحرب، إلخ. لذا رأيت أن من المهم جداً الخوض في هذا المجال. مثلاً أبو النور، زوج أم نور التي حدثتك عنها، كان يملك زوج حمام زاجل حصل عليه منذ سنة ونصف. قرر أن يقص أجنحة زوج الحمام وخبأه في زاوية وراء ستارة على السطح حتى لا يراه أحد، ولم يطر زوج الحمام خلال سنة ونصف. الحمام مكبّل وسجين فوق السطح، وكان أبو النور يكرر أن هذا الزوج لن يطير إلا إلى سماء سوريا حين يعود هو إلى سوريا. كان ملفتاً ما يرويه عن سجنه ومنفاه من خلال الحمام.

وما يفتن أولئك الرجال ليس فقط ما يُسقطونه على الحمام من أنفسهم وذواتهم، ولكن كذلك ما يقدر عليه الحمام من أفعال وانفعالات ومن حركة ومن حرية. هم مثلاً مفتونون بقدرة الحمام على العودة إلى أرضه الأولى، وهم يتعلمون ومتقيظون دائماً لما يقوم به الحمام. وهم دائماً في حالة دهشة أمام الأحداث التي تطرأ في حياة الحمام.

لدي سؤال يتعلق بما تقولينه حول الفائدة من العمل البحثي في العلوم الاجتماعية. كيف ترين اهتمام السوريين اللاجئين في أوروبا وفي العالم على العموم بالدراسات الإنسانية والاجتماعية بهدف الفهم، فهم ما جرى ربما؟ هل تشجعينهم على ذلك، وهل سيكون هناك فائدة ما ترتجى؟ وهل تشجعينهم على دراسة سوريا أم دراسة مجتمعاتهم الجديدة؟ 

هذا موضوع معقد جداً. أنا درست وتكوّنت في فكرة أن الأنثروبولوجيا هي الذهاب نحو الآخر وليس بالضرورة نحو الذات. لذا ترينني أرغب بأن أدعو هؤلاء الباحثين السوريين الشباب للذهاب إلى قاع وأعماق منطقة المايين (Mayenne) الفرنسية مثلاً ودراستها، وأن أقول لهم «هناك، لو تعرفون، الكثير الكثير من الأشياء للاستقصاء والتفحص»، أو «فلتدرسوا ظاهرة ’العصر الجديد‘ الدينية»، هذا ما أبشر به. ولكن في المقابل هناك تلك الرغبة بالفهم وبالتماسف (اتخاذ مسافة) مع الحدث الراضّ عبر المعرفة، وهناك الرغبة بمداواة الجروح عبر الفهم وطرح الأسئلة عما عاشه السوريون، وهذا مهم وضروري أيضاً، فلا حكم قيمي حول هذه الرغبة على الإطلاق. فقط أقول لنفسي أحياناً أن هذا قاسٍ جداً، أقصد هذا الانحباس في القصة الراضّة رغم موضوعية العلم وبروده. لذا ينبغي الحذر، وخاصة عند الشباب الذين لا يشبهون المثقفين الأكبر سناً، الناضجين الذين راكموا خبرات تحميهم من الضياع والانكسار.

لنعود إلى بداية حوارنا، ذكرت أنه في عام 2011 بدأت تطرحين على نفسك أسئلة وجودية حول عملك وفائدته والهدف منه ومن يقرأه، حدثيني أكثر عما تقصدين؟

بداية، كان من الغريب أن أتعلق لهذه الدرجة بمنطقة دون أن أتمكن من العودة إليها بعد الزلزال الهائل الذي غيّر وجه سوريا عام 2011. هذا يدفع المرء إلى طرح العديد من الأسئلة. و بدأت أتساءل كذلك عن فائدة ما أقوم به أمام هول ما يحصل. لذلك كان لقائي بالسوريين مهماً جداً. قررت أن أعمل بشكل مختلف، أن أعمل مع السوريين وليس على السوريين، مع زملاء مثلك ومع كتاب ومثقفين آخرين. انخرطت بالعمل مع منظمة النساء الآن وبدأت أشاركها تفكيره ومشاكلها. بينما كنت فيما مضى أعمل بشكل معزول على مواضيعي البحثية وأكتب في الأنثروبولوجيا الدينية، بدأت منذ عام 2011 أفكر بالبحث والعمل حول مواضيع مفيدة للسوريين، أتاحت لي هذه اللقاءات أن أتعلم كيف أعمل مع تجمعات سوريّة ومع سوريين.

تحدثنا قبل قليل عن مسائل الكولونيالية وما بعد الكولونيالية في المعرفة، نطرح أسئلة عن من نحن وماذا نحن وشرعيتنا، مع تحفظي الشديد على الانغلاق الذي يمكن أن نقع فيه، وعلى التطرف حين نطالب ألا يعمل على سوريا إلا سوريون. ورغم رفضي للانغلاق، إلا أن من المهم أن نتأمل في هذه الأسئلة التي يطرحها المنظور المابعدكولونيالي، والحدث السوري ساعدني أن أطرحها بشكل أوضح، وأن أقرر العمل بشكل مختلف بعض الشيء، وأن أعمل – هذا ما أريد أن أختم به حوارنا – مع السوريين لا على السوريين.