روى لي صديق أنه أثناء مجزرة جسر الشغور الأولى (1980) قام عناصر الأمن بربط إحدى جثث قتلى المدينة بحبل إلى سيارة، وجرّوها في الشوارع وأرغموا جميع الأهالي المقيدين على البصق على الجثة، بمن فيهم أهل القتيل.
بعد 31 عاماً، وقبل أن يعمّ العمل المسلح المعارض في سوريا، تسلح عدد من شباب جسر الشغور وهجموا على مفرزة للأمن العسكري، وقاموا بربط جثة لأحد الضباط بسيارة وجرّوها ليبصق عليها الأهالي المنتظرون في الشوارع.
أما حماة، التي شهدت أفظع مجزرة عام 1982، فقد خرجت كلها في مظاهرات كانت الأكبر في سوريا بعد عام 2011. وحين قررت قوات الأسد اقتحامها، لم تخرج مقاومة مسلحة في المدينة، كما لم ترتكب القوات مجازر كبرى، واختارت استحضار الذاكرة باستعراض القوة مع حدّ أدنى من العنف، اقتصر بعمومه على الاعتقالات واقتحام المنازل مع وقوع عدد من القتلى لا يقارن بالماضي.
يقول جورج هربرت ميد، رائد نظرية التفاعلية الاجتماعية، إن «الماضي يقرر أفعال الإنسان ولكن في حدود ما يختاره منه، وما يعيد من صياغته للتحضير للمستقبل، فالإنسان يملك قدرة فريدة على الاتصال الذكي». ولكي لا يبدو ذلك متناقضاً في الحدثين، فقد اقتحمت قوات الأسد جسر الشغور إثر عملية المفرزة، ونزح معظم سكانها. حدث ذلك قبل اقتحام حماة. وفي وقت مظاهرات حماة وقبيل اقتحامها، كان الناطقون بلسان قوات الأسد يكررون على الشاشات أن لحماة «خصوصية»، للإشارة إلى «تفهّم» مظاهراتها. وهي الإيماءة التي فهمها أهل المدينة فقرروا عدم مقاومة القوات المقتحمة مستبعدين شبح مجزرة جديدة، وحذروا بعد تلقيهم لأخبار تلك المدن التي قاومت ومنها جسر الشغور، ولعلهم قالوا بين بعضهم «من سمع ليس كمن رأى».
وكذلك لا يمكن إغفال الجغرافيا بين حماة المدينة السهلة، وبين جسر الشغور القابعة بين جبال ضمنت لها – بعد جولات مع قوات الأسد – أن تخرج عن سيطرته إلى يومنا. تشتبك الجغرافيا هنا مع الذاكرة والمستجدات من أحداث لتشترك في توجيه التفاعل، غير أنه يبقى للذاكرة في الحالة السورية ذلك الوجود القطبي الذي تنجذب إليه العناصر الأخرى لتنتجه، وإن اختلفت العناصر بين أحداث وإشارات وبيئة ونحوها فاختلفت نتيجته.
ولفارق الذاكرة تأثيره كذلك بين جيلين، جيل من عاش أحداث الثمانينات – وربما خاضها في الحراك النقابي أو السياسي أو المسلح مع قوات الأسد والطليعة المقاتلة – وجيل من خُزِّنتْ سماعياً في ذاكرته. ربما لا يوجد بيت سوري لم تُروَ فيه أحداث الثمانينات، كلٌّ من وجهة نظره أو تجربته، لكن لا خلاف على أنها رسمت حياة السوريين لعقود في ما جرى بين الثمانينات والثورة.
تتمدد الذاكرة كالمادة في المحلول ويقلّ تركيزها مع مرور الوقت بدرجات متفاوتة بحسب تركيزها الأصل عند كل شخص أو جماعة، وبحسب محفزات استحضارها من أحداث أو إشارات. نشأ الجيل الشاب الذي قام بالثورة على علاقة قائمة بين السلطة والمواطنين على التوحش. يتماهى ويتباعد السوريون معها بهذه الدرجة أو تلك بحسب الطوائف أو الولاء أو الانخراط فيها. يرونها بشكلها الفجّ خلال الخدمة الإلزامية في الجيش، ولا تستحضر ذاكرتهم كيفية تكون هذه العلاقة إلا سماعياً، لا عضوياً كالجيل الذي سبقهم. كانت بالنسبة لهؤلاء الشباب، على اختلاف وجهاتهم، «قوانين» يجب تبديلها أو تثبيتها، لا ثمناً باهظاً دفعوه نتيجة حرب.
ينقل فراس طلاس – والعهدة على الراوي – أن كبار ضباط حافظ الأسد الذين قادوا حربه أثناء الثمانينات، ومنهم والده مصطفى طلاس، حاولوا التواصل مع بشار الأسد في الشهور الأولى من الثورة ليُثنوه عن القمع الوحشي العشوائي، مشيرين أنّ «الأمور لا تدار بهذه الطريقة». لكنّ ردّه كان أنه لا يريد استقبالهم إذا ما كانوا يريدون أن يعلّموه ما يفعل.
صعدتُ يوماً مع تكسي في دمشق أثناء بداية الثورة، قال لي السائق الستيني إنه كان ممن «حرروا» حماة في الثمانينات، لكنّه يخشى أن تكون هذه المرة أسوأ بسبب الحقد الذي انتشر. بدأ يستذكر بأسى، وقال إنها كانت «مسألة وجود» كما هي اليوم، لكن هذه المرة مع تدخل قطر سيكون الوضع أسوأ.
جرى ذلك بعد أيام من لقاء مجموعة شباب مع أحد المناضلين الديمقراطيين في الثمانينات، حيث رفض أن يخبرنا ما يتوقع حدوثه قائلاً إنه لو أخبرنا ما يتوقعه لما خرجنا في الثورة، وأن علينا أن نتقدم دون أن نلتفت إلى الوراء.
وفي حادثة تالية، جاء والدي من المغترب ليرغمني على مغادرة سوريا في نيسان 2011. أكد لي أننا لا نعرف ما نفعل، وأن النظام سيحرق البلد ويخرج منها كالشعرة من العجين. وبعدها قابلتُ صديقاً ممن عاشوا أحداث الثمانينات في حلب، وقلتُ له إنني سئمت من جيلكم سماع جُمَل مثل «أنتم لا تعرفون ما سيحدث»، فقل لي ماذا سيحدث؟ فقال لي: بالكيماوي، سيُبيد مدناً بالكيماوي، هذا ما سيحدث. ولم يكن قد حدث في سوريا منذ بداية حكم الأسد حتى عام 2011 – تاريخ تلك المحادثة – أي استخدام للكيماوي أو تصريحات للمقدسي.كان تصريح جهاد مقدسي، الناطق باسم وزارة الخارجية حينها، في تموز 2012 هو أول اعتراف رسمي من نظام الأسد على امتلاكه سلاحاً كيماوياً. «سوريا: لن نستخدم ’الكيماوي‘ في الأزمة»، سكاي نيوز العربية، 23 تموز 2012، https://bit.ly/3eVkeIE، آخر وصول 26 تموز 2021
يبدو التعاطي المختلف للأجيال مرتكزاً على الذاكرة، وإن اختلفت بين أبناء ذات الجيل أو أبناء ذات التوجه السياسي في ذات الجيل. ويصح التعمق في مسألة الذاكرة لتحديد التوجهات والمواقف والمسارات بدل الاكتفاء بمحاولات الاستقراء استناداً إلى معادلات طبقية أو ريفية-مدينية أو غيرها. المقصد هنا هو دور «الذاكرة الجمعية» في تفسير تفاعل مجتمعي مع العوامل السياسية-الاقتصادية-الثقافية، لا استبدالها أو الحطّ من شأنها. وتُبنى على هذه الذاكرة خطابات داخلية في كلّ المجموعات المنفصلة عن بعضها بفعل إغلاق الحيّز العام في وجهها. يكون لفعل هذه الخطابات – التي نشأتْ دفاعياً بفعل تفسيرات قصيرة المعادلات وقليلة التركيب – دور أهم من أي خطابات معلنة سياسياً أو إعلامياً، أو حتى توجهات سياسية «تقدمية» أثناء اللحظات الوجودية الكبرى، كالتي فجرتها الثورة السورية عام 2011. في مثال خارجي، يبدو صعود اليمين في أوروبا وأميركا خاضعاً لذلك أيضاً.
خلال الأعوام العشرة الماضية، كان اقتراب الجمهور وابتعاده من هذا الفريق أو ذاك ضمن الاتجاه السياسي المعارض معتمداً على حجم التقاطع مع الخطاب الداخلي، على مسّ انفعاليته وشرعنتها وتوليد استمرارها. أي تقاطع الخطاب العام مع الخطاب الداخلي. نجح حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في ذلك، وكذلك الإخوان المسلمون والسلفيون، برغم انحسار امتدادهم بهذه الدرجة أو تلك لأسباب قاهرة. قد يظن البعض أن العامل الحاسم في نجاحاتهم وأخذ حيز وازن لهم في الساحة السورية هو دعمهم الخارجي من تركيا أو أميركا أو السعودية والإمارات سابقاً، وهو ما أظنه غير صحيح. لنفترض أن غيرهم ممن كانوا يحملون مشاريع «تقدمية» توفر لهم هذا الدعم، فلم يكونوا لينجحوا فضلاً عن الاستمرار لمدة من الزمن. وقد حدث بالفعل شيء من هذا على الصعيدين العسكري والسياسي، لكنه ظل محدودة الحجم، فاضمحل أو قضي عليه أو فشل. الأمثلة كثيرة هنا: حركة حزم، وأوراق القاهرة، وغيرها. أما من استطاع البقاء برغم قلة حجمه أو تأثيره، كهيئة التنسيق، فإنه ينتظر فشلاً من حوله ليعود ويطرح نفسه. وهذا ما تبدى في محاولة «مؤتمر جود». المعنى أن هذه الخطابات العامة كان يكتب لها الاستمرار والتوسع بحسب قدرتها على الانسجام مع الذاكرات الجمعية وترسيخ أحقيتها. الخطاب الداخلي الذي انتهجه حزب الاتحاد الديمقراطي هو كون «هؤلاء العرب» الذين يحاربوننا من فصائل المعارضة هم من قتلونا وقمعونا عام 2004. وتكرر الأمر نفسه حين المعارك الأخيرة مع قوات الدفاع الوطني التابعة للأسد في القامشلي. الإسلاميون انتهجوا أن الاستهداف هو استهداف «السنة». من يُقتلون ويُقصفون وتُدمَّر قراهم هم «السنة»، فالقضية هي قضية «السنة». والأسد اعتمد خطاب «الإرهاب» الذي يُحيل إلى خطر وجودي على الأقليات. الخارج اعتمد ما يمكن له أن يحيا وهو تابع له، والداخل اعتمد ما يحيا فيه. ما تبقى من الخطابات «التقدمية» – المقصود بها تلك التي تعتمد المبادئ الإنسانية الواسعة – همّشتْ الخوض في الخطابات الداخلية أو أجّلت معالجتها، فاختارت إما التنازل لإحدى القوى أو الانتظار لزمن لا تظلّ فيه معلقة في الهواء. أما جمهور الأسد فقد ارتضى استمرار خطابه العام الممتد لعقود والمرتبط في ذاكرته بأحداث كثيرة خرج منها «سالماً»، دون إعطائه أهمية تذكر، وإن حدثت لخطابه الداخلي «خروقات» غير ذات شأن هنا وهناك.
وبعيدا عن التقسيم الفيزيولوجي، تأخذ الذاكرة أبعاداً سوسيولوجية، تتداخل فيما بينها، في تفاعلها مع الوضع السوري. فلها جوانب انتقامية تركز على المظلوميات وما تعرضت له الجماعة من عسف وقهر وإجرام، وتريد إما قلب المعادلة والأخذ بالثأر أو الاستمرار بالإجرام ثأراً لماض مرويّ وخشيةً من تكراره. أذكر هنا حادثتين: جملة مقاتل من تل رفعت كان مع القوات التي احتلت عفرين حيث قال «والله لعذبهم عن كل مرة حملت فيها الإبريق بالشتا». ويقصد عذابه في المخيم للخروج إلى المرحاض، حيث يضطر قطع مسافة على الطرق الطينية تحت المطر والبرد. والحادثة الأخرى لامرأة علوية قالت «ما بدنا يرجعوا يستعبدونا الحموية»، وتقصد ذهاب النساء العلويات في أزمنة سابقة إلى مدينة حماة للعمل في الخدمة المنزلية.
وللذاكرة جانب إغلاقي، وهو بشكل ما عدمي، يتفاوت بين بديهية استمرار الوضع القائم – وهو الأعم بين المؤيدين – وبين عدم إمكانية فعل شيء بما أن واقع البلد والقوى العالمية لن يسمح بأي تغيير. ينتشر هذا الجانب بشكل واسع بين الجيل الذي عاش الثمانينات، وبدأ يتكون عند بعض جيل الشباب بعد عشر سنوات مريرة. وهناك جانب آخر تحويري، يأخذ الذاكرة في منحى توهمي ويعيد صياغة الذاكرة بشكل مقبول نفسياً، أو بمعنى آخر يعيد تدوير الذاكرة ليقرأ الواقع بطريقة مغايرة. يبرز في هذه الذاكرة منحى الانتقائية الذي قد تتعمده أو لا، وتتفاوت بين نفي البعد الطائفي أو أرجحية البنى الأهلية في المجتمعات المحلية، مروراً بالتصور المثالي لحكم ما بعد الاستقلال، وبين جعل المسألة برمتها «مصير طائفة» أو «مشروع أمة». وكذلك جانب طوريّ، يجعل للمراحل أطواراً مختلفة لا تصحّ مطابقتها، وبالتالي تتفاوت بين عدم وجود امتدادات أو تداعيات لحقبة المواجهة الأولى في الثمانينات على المواجهة الثانية عام 2011، وبين عدم وجود توافق في محركات الحدثين وخطورة الانزلاق إلى نفس المقاربة في القرن الواحد والعشرين.
يكاد يندر حدوث أي «تأصيل» نظري أو بناء إيديولوجي لا يعتمد على الذاكرة حين الخوض في المسألة السورية. وبعيداً عن تلك التي تنشد منحىً غير تابع لقوى الأمر الواقع أو مؤيد لها، ففكرة منهاج «تاريخ الثورة السورية» لدى الحكومة المؤقتة تنشد هذا التأصيل، ومثل ذلك كتب كثيرة لمؤيدي الأسد مثل الحرب القذرة لعبد الله أحمد وبسام أبو عبد الله، أو الأزمة السورية وثقافة التكفير الإرهابي لحسين جمعة. في وسائل التواصل الاجتماعي، وآخرها تطبيق كلبهاوس الذي ساعد في اختراق الخطاب الشفهي – وهو أحد أهم ركائز الخطاب الداخلي – للفضاء العام، يصعب أن تجد منتمين إلى أحد الخطابات الداخلية لا يدافعون عن فكرتهم دون استحضار أمر من الذاكرة، والآخر يرد عليه بأحداث أخرى ليدافع عن فكرته المضادة. قبل أن يحدث البْلوك أو الطرد بالطبع. تطفو قضية حرب السرديات كمأسسة بعد أن شهدناها أول الثورة بين «يا حماة سامحينا» وبين «العراعير»، ومع الهتاف الأشهر «يلعن روحك يا حافظ» الذي كان أكثر هتاف نال عدد ألحان وأطرب مردديه؛ كان تغنياً بذاكرتهم البكماء حتى ذلك الحين.
مأسسة الذاكرة كبناء متماسك هنا لا يهدف وحسب إلى شرعنة المواقف والسلوكيات التي ساهمت بإنتاج الوضع القائم لهذه القوى، كل بحسبه، بل إلى حصر المستقبل و«حله السياسي»، إلى مصادرة خطاب وطني يرى الآخر ويتضمن مطالبه المشروعة ويقدم له مشروعاً يضمن عدم التغول على وجوده و«هويته» ويضمن حضوره على الصعيد العام. في صراع الذاكرات، يتحول كل منها إلى مالك الحق المطلق الذي يجب أن تخضع له البقية. هذا ما فعله محمد علوش رئيس وفد التفاوض عن المعارضة في مؤتمر أستانا 2017 حين عدَّد المناطق الثائرة وقال إنه جاء باسمها، وحدد مرتكب الانتهاكات بـ«النظام الدموي المستبد» متجاهلاً انتهاكات مليشياه بدورها بحق ذات المناطق والأخرى التي أغارت عليها وارتكبت جرائم حرب مريعة فيها، و«المليشيات الانفصالية» التي كان يقصد بها قوات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردية، لا ميليشياه التي تعاملت مع مدينة دوما كإمارة خاضعة له في وجه بقية الغوطة وفصائلها التي فشل في إخضاعها، و«الميليشيات الطائفية» التي يقصد بها طبعاً تلك المؤيدة لإيران لا ميليشيا جيش الإسلام السلفية. وكذلك تفعل عصابة الأسد دوماً برفضها مناقشة أي شيء عدا «الإرهاب» الذي تقصد به كل من يحمل السلاح دون قبولها، لا تلك التي ترتكب الفظائع تحت رايته أو قبوله. ولا تبرأ من ذات الحال قوات سوريا الديمقراطية التي تشكل غطاء لمشروع الحكم الذاتي الكردي الذي يمتد في «روجافا» – كما كانت تسميه، قبل أن تستبدله بمشروع الفيدرالية الذي لا ينظِّر إلا لمساحة سيطرتهم، فلا يعمّ كامل سوريا أو ينشغل به. وإن كان أمر الفيدرالية يستحق النقاش والبحث في المسألة السورية.
يمكن إيجاز ما سبق بالقول إن الذاكرة حتى اليوم هي المحدد الأهم في تفسير المسارات التي سلكتها كل جماعة. لدينا ذاكرات سورية مختلفة حد الصراع فيما بينها، بنتْ كل منها خطابها الداخلي الذي وجد في الثورة فرصة الاختراق إلى خطاب عام وقوى سياسية وعسكرية تمثلها. بينما بقيت الخطابات العامة الأوسع غيرَ ذاتِ حَمْل حتى الآن. تقوم هذه الخطابات العامة ذات السند الداخلي على الاستئثار بالأحقية وعلى سحق غيرها، إن لم يكن إبادته. تريد احتكار المستقبل والبلد والذاكرة. وفيما سوى أفراد، تغيب كلياً أيّ ذاكرة «باردة» أو «غيرية» أو «خلاصية». ليس في ذلك تحامل، فالشعب السوري، الذي عانى عقود طغيان مريعة تُختَم الآن بحرب «الأسد أو نحرق البلد» التي أنتجتْ له رضوضاً نفسيةً وتندبات وتقوقعاً على الذات وشرعنةً لذاكرة كل جماعة، لم يكن بحال أفضل لينجو من تسميم الذاكرة.
يهمّ هنا توضيح أن ما تحمله الذاكرة ليس بالضرورة مطابقاً لما وقع فعلاً من أحداث، وأن عملية تحول الذاكرة إلى خطاب داخلي ومن ثمّ إلى خطاب عام وقوى تمثله لا تتم بأسلوب هندسي جامد، بل أقرب إلى تفاعل كيميائي يحدث خلاله ضياع أو اكتساب للطاقة، أو خروج عناصر من التفاعل. ليست تلك العملية إذن أمينة لكل ما تحمله، ولا لكل ما ينفع، فقد يدفع ثقل الذاكرة حامليه إلى أماكن قد لا تكون لصالح حفظ بقائهم ونجاح مشروعهم. ما ينفع هو ألا يعود للذاكرة وجودها القطبي، دون أن يكون القصد اقتلاعها. وأن تدخل في محرِّكات تكتُّل الجماعات معارفُ لفهم سوريا والعالم من خارج الذاكرة، معارف تفتح المجال للتمازج لا للتنقية. بقول آخر: أن يصبح المشترك ذا شأن أعلى، وأن يغدو المتناقض هو ما يحتاج لمقاربة وتنازل ومعالجة. وهذا على خلاف الوضع المقلوب الذي تفرضه القوى المسيطرة اليوم.
في مونولوجه الأخير في مسلسل صراع العروش، حين يجتمع قادة القارة لإيجاد اتفاق سلام واختيار ملك جديد، يبدأ تيريون بالحديث عن الماضي والذاكرة الدموية للقارة، ويخلص إلى أن اختيار بران هو الأنسب، لأنه من استطاع أن يكون «ذاكرتنا» وحارسها ليقود القارة إلى المستقبل. إنه ضمان ألا تُخان الذاكرة. ربما لا يبدو أيّ مشروع وطني واسع قريب التحقّق ضمن واقع المسألة السورية اليوم. فسوريا، هذا الكيان غير المستقر منذ تأسيسه، غير محمولة اليوم على أي مشروع بل على خطابات داخلية متصارعة. والمشروع الذي سيضمن لسوريا عقد بناء وطن مستدام لأبنائه لا يمكن إلا أن يحمل ذاكرات هذا الشعب بأمانة دون عوار، دون انتقامية أو طغيان، دون تحوير أو تجميل أو استخفاف. ذاكرة تنشد التعافي.