تركت العقوبات التي فرضتها إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب على طهران آثاراً كبيرة على الاقتصاد الإيراني، إذ تُظهر مقارنة الأرقام بين سنوات ما قبل العقوبات وما بعدها أن حجم الناتج المحلي انخفض إلى قرابة النصف. كان ترامب قد فرض تلك العقوبات بعد انسحابه من الاتفاق النووي الإيراني المعروف باسم «خطة العمل الشاملة المشتركة»، ولا تزال هذه العقوبات مستمرة بعد وصول بايدن إلى البيت الأبيض، ولكن بالتزامن مع جولات مفاوضات غير مباشرة بين الولايات المتحدة وإيران في العاصمة النمساوية ڤيينا، انتهت الجولة السادسة منها الشهر الماضي دون تحقيق اختراق بخصوص العقبات التي تواجه العودة إلى الاتفاق.
سيكون الوصول إلى اتفاق بين واشنطن وطهران بالغ التأثير على صعيد استعادة الاستقرار في الاقتصاد الإيراني، لكن تأثير الاتفاق سيمتد أيضاً إلى نفوذ الميليشيات المرتبطة بالحرس الثوري في المنطقة في كل من سوريا والعراق ولبنان واليمن. ويمكن لمقارنة أرقام الاقتصاد الإيراني، قبل وبعد العقوبات، والتي سُميت «حملة الضغوط القصوى»، أن تعطي مؤشرات على ما يحتمل أن نواجه في المنطقة، خاصةً إذا أغفل الاتفاق النشاطات الإيرانية العسكرية فيها، أو تغاضت إدارة بايدن عن هذه النشاطات، الأمر الذي سيعطي دفعةً للحضور الإيراني الإقليمي على المستويات السياسية والاقتصادية.
* * * * *
في الثاني عشر من الشهر الماضي حزيران (يونيو) بدأت الجولة السادسة من المفاوضات غير المباشرة بين واشنطن وطهران، التي ضمّت كلاً من روسيا والصين وبريطانيا وفرنسا وألمانيا والاتحاد الأوروبي، والتي انتهت مع تحقيق تقدم طفيف، لكن من دون الوصول إلى ملامح واضحة لاتفاق جديد بين الطرفين حول البرنامج النووي الإيراني. على الرغم من ذلك، فإن المبعوث الأميركي للأمم المتحدة اعتبر أن المفاوضات حتى الآن «ساعدت في تحديد خيارات البلدين من أجل العودة المشتركة إلى التزاماتهما في الاتفاق النووي». هذا التصريح الذي أتى خلال جلسة مجلس الأمن التي عقدت نهاية شهر حزيران (يونيو) الفائت، تبعته تصريحات من وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن أكدّت أنّ على المرشد الأعلى في إيران علي خامنئي الموافقة على بنود الاتفاق، في إشارة إلى ضرورة عدم وضع العراقيل أمام تلك المفاوضات من قبل الجناح الأكثر تشدداً في الحكومة الإيرانية، خاصةً بعد تصريحات الرئيس الإيراني المنتخب إبراهيم رئيسي بأن الصواريخ البالستية لن تكون بنداً في أي مفاوضات. هذا فيما ربط مسؤولون رسميون في الحكومة الأميركية رفع العقوبات بالوصول إلى اتفاق شامل مع طهران، وهو ما عبّر عنه المتحدث باسم خارجية الولايات المتحدة في تصريح لقناة سي إن إن: «لن يتم الاتفاق على أي شيء حتى يتم الاتفاق على كل شيء».
من جانبها، شجّعت الأطراف الأخرى المشاركة في المفاوضات على الوصول إلى اتفاق، إذ عبّرت الناطقة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا عن أملها بعودة العمل بخطة العمل المشتركة الشاملة بحلول منتصف تموز (يوليو) الحالي، أي مع حلول الذكرى السادسة لتوقيع الاتفاق عام 2015، فيما قال مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل في حزيران الماضي إن التوصل لاتفاق بات «قريباً جداً».
خلال هذا الوقت، تستمر الآثار الاقتصادية الكبيرة للعقوبات الأميركية المفروضة على إيران منذ العام 2018، إذ تُظهِر بيانات البنك الدولي على سبيل المثال انخفاض الناتج المحلي لإيران بشكل كبير، من 445.3 مليار دولار عام 2017 إلى 258.2 مليار دولار عام 2019، أي أن نسبة الانخفاض بلغت 42 بالمئة بين العام 2017 بعد توقيع الاتفاق النووي والعام 2019 التالي لفرض العقوبات القصوى.
إلى جانب ذلك، شهد الاقتصاد الإيراني ارتفاعاً كبيراً في نسبة التضخم، التي انتقلت من حدود 10 بالمئة في 2017 إلى ما يزيد عن 40 بالمئة في 2019 حسب بيانات صندوق النقد الدولي. وقد كان قطاع إنتاج البترول أحد أكبر المتضررين من تلك العقوبات، إذ قال مسؤول إيراني لوكالة رويترز في شهر أيار (مايو) 2019 إنّ صادرات النفط الإيراني اليومية قد انخفضت إلى 500 ألف برميل، بالمقارنة مع أكثر من مليونين ونصف المليون برميل في 2017، وقد كان لانخفاض الصادرات النفطية الإيرانية أثر كبير على اقتصاد البلد، خاصةً أن قطاع النفط يشكل 13.5 بالمئة من حجم الاقتصاد.
بالطبع لا تفيد الأرقام الرسمية الصادرة عن الحكومة الإيرانية في تحديد كميات النفط التي يتم تصديرها بشكل كامل، لأنّ تهريب النفط الإيراني بعد إقرار العقوبات شكّل سوقاً موازية للسوق الرسمية التي أُغلقت في وجه طهران، فعلى سبيل المثال قدّرت مؤسسة ريفينتيف لأبحاث النفط واردات الصين الشهرية من النفط الإيراني في شهر آذار (مارس) من العام الجاري 2021 بحوالي 27 مليون برميل. وهو ما يعني عملياً أن طهران استعادت قدرتها على تصدير كميات كبيرة من النفط على الرغم من العقوبات المفروضة، خاصةً إلى دول آسيا مثل الصين والهند، وإن بأسعار أقل من أسعار السوق الرسمية. بالمقابل فإن تأثر سوق النفط العالمية بعودة بيع الإنتاج الإيراني من النفط بشكل رسمي، في حال رفع العقوبات الأميركية عن هذا القطاع، سيؤدي إلى انخفاض الأسعار، ما يجعل الفرق الذي ستناله طهران من هذه العملية فيما يخص تصدير النفط محدوداً.
تساهم عملية رفع العقوبات عن إيران باستعادة طهران التدريجية للاستقرار الاقتصادي، لكن هذه العملية ستكون مرتبطة بالوصول إلى صيغة اتفاق أكثر استقراراً مع واشنطن، وهو أمر لا يزال يواجه تحديات كبيرة نتيجة التغييرات السياسية الداخلية في إيران وتوجهات الحكومة الجديدة، إضافةً إلى ارتباط هذا التعافي بتجاوز السوق العالمية لآثار جائحة كورونا، ما سيسمح بتحديد أسعار أفضل للنفط وعودة قطاعات الصناعة للعمل بشكل كامل، وهذا سيساهم بدوره في تحسن الأسواق المحلية في أوروبا وشرق آسيا حيث يتمركز أبرز شركاء إيران الاقتصاديين.
* * * * *
يمكن القول بالتأكيد إنّ العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة أثّرت على تمويل إيران للميليشيات المسلحة المرتبطة بها بشكل مباشر أو غير مباشر، بما في ذلك ميليشياتها في سوريا طبعاً. لكن بالمقابل، استطاعت هذه الميليشيات خلال السنوات الماضية، سواءً قبل حملة «الضغوط القصوى» أو بعدها، أن تبني لنفسها قواعد ثابتة في عدد من المدن والأرياف السورية والمناطق الاستراتيجية في البلد. ومن أمثلة ذلك مناطق السيطرة التي تمتد في محافظة دير الزور، تحديداً في محيط وداخل مدينة البوكمال ومناطق أخرى على الضفة الغربية لنهر الفرات، أو في مدينة حلب حيث تحظى الميليشيا التي تحمل اسم فيلق المدافعين عن حلب بنفوذ كبير داخل المدينة. ولا توجد أي معلومات عن تخلي الحرس الثوري الإيراني عن قواعد عسكرية هامّة في سوريا، مثل مطار تي فور وسط البلاد في منطقة البادية، وذلك على الرغم من الضربات الجوية الإسرائيلية المستمرة منذ سنوات على تلك المواقع.
يساعد النفوذ المحلي العسكري والسياسي الكبير للميليشيات المرتبطة بإيران في تحصيل عائدات تساعدها على الاستمرار في العمل، سواءً عبر فرض إتاوات على السكان وفعاليتهم الاقتصادية، أو تأمين امتيازات لأعضائها من خلال نسب أكبر ونوعية أفضل من الدعم الحكومي المقدم للسلع الأساسية في مناطق النظام، وغير ذلك من الخدمات والمكاسب.
بالإضافة إلى ذلك، تشير كثير من التقارير إلى ارتفاع معدل تهريب المواد المخدرة بين سوريا والأردن، وإلى تورّط الميليشيات الإيرانية في عمليات التهريب تلك، وهو ما يعني محاولة تلك المليشيات رفع دخلها من خلال مصادر جديدة على رأسها تجارة المخدرات في المنطقة، حيث تُظهر التحقيقات التي عملت على الموضوع تركيز الميليشيات الإيرانية على تهريب الحشيش والحبوب المخدرة مثل الأمفيتامين (المعروف باسم الكبتاغون).
تؤمّن هذه الزيادة في عمليات إنتاج وتهريب المخدرات لتلك الميليشيات، وعلى رأسها حزب الله، دخلاً قد يغطي لفترات الفجوة التي تركها تراجع التمويل الإيراني بسبب الآثار الاقتصادية للعقوبات الأميركية. بالمقابل، وفيما تتابع الكيانات المرتبطة بإيران سياسة الاعتماد الذاتي فيما يخص التمويل، والتي برهنت قدرتها على الحفاظ على تماسكها خلال الفترة الماضية على الرغم من الأزمة الاقتصادية، قيد يفيد رفع العقوبات في خلق أدوار جديدة لهذه الكيانات في سوريا. من ذلك مثلاً تمويل نشاطات دعم اجتماعي للسكّان، في محاولة لربط مصيرهم بتلك الميليشيات، إذ تعاني البلد من أزمة اقتصادية خانقة تسبَّبَ بها الدمار الكبير الذي لحق بالبنية التحتية وحرب النظام على السوريين خلال السنوات العشر الماضية، بالإضافة للعقوبات الدولية وعلى رأسها العقوبات الأميركية وفق قانون حماية المدنيين المعروف باسم «قانون قيصر».
الآثار الاقتصادية لأي رفع محتمل للعقوبات عن إيران لن تظهر خلال المدى القصير، لكنّ اتفاقاً لا يحدّ من نفوذها العسكري والسياسي في الإقليم سيعطي دفعةً سياسية كبيرة للكيانات المرتبطة بطهران، مثل الميليشيات التي تنتشر على مساحة سوريا، وهو ما قد يعطيها قدرة أكبر على فرض شروطها على الطرفين الشريكين في مسار أستانا (روسيا وتركيا)، كما سيعمّق من قدرة تابعيها في سوريا على تعزيز مواقعهم الحالية على الصعيد السياسي والاجتماعي والاقتصادي من خلال ربط المجتمعات المحلية بهم. وربما نشهد في هذه الحالة انقلابات في التحالفات الداخلية، إذ كانت أسرة القاطرجي التي تتحكم بتجارة النفط مع المناطق الشرقية لسوريا، على سبيل المثال، قد نقلت تحالفاتها مؤخراً إلى موسكو مقابل مكافأة مجزية هي تصدر قوائم مدعومة من هذه العائلة انتخابات مجلس الشعب عن مقاعد محافظة حلب على حساب حلفاء تقليديين للنظام السوري، وسيطرتهم شبه المطلقة على مقاعد غرفة تجارة حلب أيضاً. هذه التنقلات بين الوكلاء المحليين السوريين على خارطة داعمي نظام الأسد لن تتوقف بالتأكيد، وستكون عودة طهران إلى الواجهة فرصة للعديد منهم لتحصيل مكاسب جديدة مقابل تغيير الولاء.
أثبتت إيران وميليشياتها قدرة كبيرة على النجاة حتى الآن من العقوبات الأميركية، لكنّ استعادتها لقوتها الكاملة وفرض مزيد من النفوذ العسكري والسياسي الإقليمي يرتبط بشكل جوهري برفع تلك العقوبات عنها، ولذلك فإن أي اتفاق محتمل بين الولايات المتحدة وإيران يتجاهل النفوذ العسكري للأخيرة في المنطقة سيكون فرصة لانتعاش ميليشيات تعتاش اليوم على تحطيم البلد والروابط الأهلية فيه، بعد أن فرضت نفسها عليه بالقتل والتهجير والإبادة.