أولاً: التحولات الجنسانية المفروضة من الآلهة والقدر
التحولات الجنسية بفضل تجدد الطبيعة
في كتابه التحولات (8 ق.م) يروي لنا الشاعر أوفيد حكايات متفرقة من الميثيولوجيا اليونانية والرومانية، حيث تخضع جميع الكائنات المذكورة فيها إلى تحولات من الإنسان إلى كائنات أخرى، إلى عناصر من الطبيعة، أو إلى جمادات. ويتألف التحولات من 15 كتاباً، تمتد على 12 ألف بيت شعري، تضم ما يقارب 250 أسطورة وحكاية. في المقدمة يكتب الشاعر: «رسمت لنفسي أن أتحدث عن تحولات الأجسام في أشكال جديدة». من بين كل أنواع التحولات التي يحويها الكتاب، نادرة هي التحولات التي تتم بين الجنسين، الذكورة والأنوثة، فالذكْر الأول لها يأتي في معرض الحديث عن لسيتون، وهو ملك تراسيا الذي، بفضل تجديد في قوانين الطبيعة، يمتلك جنساً ملتبساً، يكون مرة رجلاً، ومرة امرأة.
آلهة الماء التي تفرض الخنوثة
تروى حكاية سلماكيس وهيرمافروديتوس حكاية تحول جنساني أخرى. حيث سلماكيس، إلٰهة الماء، تسعى لمضاجعة هيرمافروديتوس، والحوز عليه كحبيب وعشيق، فتطلب من الآلهة ألا يأتي أبداً اليوم الذي يبعد عنها أو تبعد عنه. تستجيب الآلهة، فيمتزج جسميهما ويتخذان صورة كيان واحد:
«هكذا منذ أن وحد بينهما العناق لم يعودا اثنين،
وإن صار لهما شكل مزدوج
لا نقدر نقول إن كانت ذلك امرأة، أو شاباً.
فهما يبدوان ألا جنس لهما،
وأن لكل منهما في الوقت نفسه جنسين»
لقد تحول نبع كايا الذي جرى في مياهها إلى بركة مياه تحول الذكور الذين يلمسونها إلى نصف ذكور. فبعد أن اكتشف هيرمافروديتوس أن نزول النبع سبب له فقدان لنصفه الذكوري، حسبما أرادت له إلٰهة الماء، ففقدت أعضاؤه رجولتها، بسط يديه وصرخ عالياً بلعنة ألا ينزل ذكر في نبع كايا إلا ويقاسي ما تعرض له هو:
«ألا يعود رجلاً أي إنسان ينزل في هذا النبع، إلا بنصفه، عندما يخرج منه،
وأن يفقد ذكوريته رأساً منذ أن يلامس هذه المياه»
التداخل الجنسي بسبب التربية
أما حكاية إيفيس فهي التي تعيش الذكورة والأنوثة معاً. وهي تبدأ قبل ولادتها، حين يرفض الأب ليغدوس أن يكون الجنين في بطن زوجته الحامل إلا ذكراً، ويهددها بأنه سيقتل المولودة لو كانت بنتاً، لأنه يريد وريثاً، دون أن تنفع توسلات زوجته تيليتوزا التي تأتيها الآلهة في المنام وتطلب منها أن تربي ابنها سواءً كان ذكراً أو أنثى. ولدت ابنة دون علم الأب، وأمرت الأم بتربيتها بوصفها ابنا ذكراً. سميت الطفلة باسم جده: إيفيس، ورضيت الأم عن الاسم لأنه مشترك بين الجنسين. بقيت الأم تخبئ الحقيقة، فكان للباس الطفلة لباس ذكر، وكانت تَقاطِيعها جميلة سواء للأنثى أو للذكر. وحين بلغت الثانية عشرة، قدم له-ـا أبوه-ـا خطيبة، هي إيانتا الشقراء المشهورة بجمالها. من هنا نشأ الحب الذي نفذ إلى الروحين البسيطتين لهاتين الرفيقتين، وأحدث في كل منهما جراحاً متساوية، لأنه لكن لم تكن لديهما آمال واحدة. كانت إيانتا تنتظر اليوم الذي ستشتعل فيه من أجلها مشاعل الزواج المتفق عليه، والذي ستظهر فيه إيفيس رجلاً. أما إيفيس فكانت تحب إيانتا الجميلة دون أمل أن تمتلك من تحب. هذه الفكرة نفسها كانت كذلك تثير حبها، فهي عذراء، وتتحرق من أجل عذراء.
كانت تقول:
«إلى أين ينتهي بي الأمر، أنا التي تعيش فريسة لعذاب لم يعرفه أحد، ضحية لحب مخيف، ولا نموذج له؟
جميع الكائنات الحية تتزاوج ذكراً وأنثى
أعرف أن كريت أنتجت جميع الأشياء المخيفة،
نعم أحبت ابنة الشمس ثوراً،
لكن، كانت أنثى أحبت ذكراً.
حبي أنا، إن جرؤتُ على الاعتراف بالحقيقة، أكثر جنوناً من حب ابنة الشمس.
ليس هناك عقبة من عناق من تحبينها، ولا يحول دون ذلك الحرس الذي يحيطون بها، ولا تحول رقابة زوج مرتاب أو قساوة أب.
ولا يحول رفضها هي نفسها:
ومع هذا كله، فإن اتحادك بها محرم».
في نهاية الحكاية تتضرع إيفيس إلى الآلهة لكي يحولها ذكراً، ويتم لها ذلك، تصف القصيدة لحظة التحول:
«كانت تسير بخطوات أكبر مما اعتادت،
وجهها يفقد شيئاً من بياضه،
وقواها تتزايد، وبدا في قسماتها مزيد من النشاط، وأخذ شعر رأسها يقصر طبيعياً؟
وشعرت أن فيها قوة
لم تكن أبداً في امرأة.
والحق، يا من كنت امرأة،
منذ لحظة،
أنت الآن شاب.
ويتزوج إيفيس، الذي أصبح رجلاً حبيبته يانتا».
التحول الجنسي خلاصاً من الاغتصاب
أما حكاية كاينيس، فتحدث في ذلك اليوم الذي كانت تتشرد فيه على ضفاف النهر منعزلة، فاغتصبها إله البحار، وعندما تذوق نبتون لذائذ هذا الحب الجديد، قال:
«يمكنك أن تتمني أمنية، أياً كانت،
دون خشية من أن ترفض،
اختاري ما تشائين.
أجابت كاينيس:
يلهمني العار الذي لحق بي،
أمنية خارقة: أريد أن يستحيل عليّ من الآن فصاعداً، أن يلحق بي شيء مشابه.
اسمح لي ألا أبقى امرأة، وبذلك تحقق جميع رغباتي.
فيما كانت تلفظ كلماتها الأخيرة، صار صوتها أكثر قوة، وكان من الممكن أن يعتقد بأنه صوت رجل. دون أن يكون هذا الاعتقاد خاطئاً. ذلك أن إله البحر العميق كان قد وافق على أمنيتها.
فرح كاينيس بهذا الامتياز، وانقطع منذ تلك اللحظة للقيام بأعمال الرجال، متجولاُ في حقول بينيوس».
لكن كل التحولات السابقة من جنس إلى آخر والموجودة في حكايات أوفيد تقوم على أسباب إما ميتافيزيقية فوق واقعية، إرادة إله، أو لعنة القدر، ويتم التحول بفعل إرادة الطبيعة، الآلهة، أو بتضرع المتحول-ة نفسه-ـا إلى الآلهة لكي تتم عملية التحول.
ثانياً: التحولات الجنسانية والأثر السياسي والثقافي
الجنسانية المتحولة في الرواية الواقعية
في روايته رجل من ساتان يبني الكاتب صهيب أيوب الجنسانية المثلية لشخصيته الرئيسية نبيل بعناية، يربطها مع الأحداث السياسية في طرابلس، والتجربة الاجتماعية، والثقافة والفنون السائدة، وطبعاً التجربة الذاتية للشخصية. طبعاً، لا ترصد الرواية تحولاً من جنس إلى آخر، ولكن البناء المحكم لتشكل الجنسانية المثلية عند شخصية تعيش تحت ظل ثقافة بطريركية مهيمنة يسمح بدراسة العوامل التي شكلتها.
التحولات الجنسانية والتحولات السياسية
ركزت المقالات النقدية عن الرواية على قدرة النص في الربط بين المضمون السياسي والاجتماعي للمرحلة التاريخية وبين تشكل المثلية الجنسية عند نبيل. في مدينة طرابلس المتنقلة بين التحول السياسي والآخر، ينشأ نبيل مع أم مجهولة المصير، وأب غائب مشغول بالقتال والمليشيات وبموقعه كقبضاي من أبرز قبضايات طرابلس. وبإهمال تام من شقيقاته من زوجة والده. وحدها الجارة عليا الدائزلي هي التي تعتني به. إشارة واحدة في علاقته مع شقيقته مسعودة: «اكتشفت مسعودة الطفل كلعبة، تربط له شعره الأسود الحالك بخيوط الصوف، تكحل عينيه الواسعتين، وتضع له أحمر شفاه». تشكل كيانه كلعبة يفتح احتمالات التحول الجنساني. رغم ذلك، لا ترسم الرواية الطفولة النمطية لرؤى التحليل النفسي، فرغم مرور عبارات سريعة من مثل: «بحثت عن أمي في جميع عيون النساء حينا ولم أجدها»، إلا أن الكاتب يصر التأكيد على لسان الشخصية في نهاية الرواية: «عشت طفولة مرحة»، فالرواية تتقصد الابتعاد عن الصورة النمطية للطفولة المثلية حسب تحليلات علم النفس.
متعة الأقمشة والفساتين النسائية
المهنة التي تديرها جارته ومربيته عليا تلعب دوراً محورياً أيضاً في تشكل حساسيات نبيل، فهي تدير محل للخياطة وبيع الملابس النسائية: «كنت أساعدها في ترتيب الرفوف المخصصة لعلب المكياج وتوضيب الملابس النسائية. كنت أستمتع بالنظر إلى فساتين الدانتيل والحرير والشيفون، أكتشف ملمسها بيدي، ألف بعضها حول جسمي»، ومع الوقت يتماهى نبيل مع إعجاب عليا برجل طلبيات القماش مصطفى أبو خضرة، الذي تتهيأ عليا لاستقباله قبل وصوله في كل مرة إلى المحل، فانتقلت مشاعرها تجاه هذا الرجل إلى الفتى نبيل: «يقرصني فور دخوله من شامتي، يسألني إن كنت مسروراً بشغتلي، لا أعرف كيف كانت الكلمات تخرج من فمي أمامه. تنزلق بلا تفكير فأبدو ثرثاراً فأحاول التحدث في أمور لا قيمة. تصلني رائحة عطره بسهولة، كولونيا رجالية. استمتع بها وحيداً كأنه يضعها لي»، المقطع يقارب ما أمكن الوصف العشقي، الارتباك، الرائحة، التأتأة، كلها علامات على العشق.
يحترف نبيل مهنة الخياطة، حيث يبدأ بخياطة الفساتين لنفسه: «كانت الفساتين تشعرني بأني جميل، وحين أرتديها أحس بقشعريرة وخوف يبددهما وقوفي أمام مرآة الغرفة التي تظهر جسمي ليناً. أتمدد بها على الفراش، أتخيل مصطفى مداعباً فمي بيديه المتشققتين، أفكر لو يقبلني كما قبل رشدي أباظة، صباح في فيلم كانت الأيام الذي شاهدته في سينما أمير».
من الفنون والثقافة العربية في تشكيل المثلية
تقدم الرواية قاموساً من الأغاني والأفلام العربية التي تحيل في بعض احتمالاتها إلى خطاب مثلي، ويعمد الكاتب إلى تقديم هذه الأعمال الفنية العربية بين الحين والآخر، ليبين دور الفن في تهيئة الجنسانية المثلية، منها أغنية نعيمة المصرية:
تعال يا شاطر نروح القناطر
هاودي ودينك، ماتكسرلي خاطر
هات القزازة وأقعد لاعبني
دي المزة والحال عاجبني.
والأغنية الشهيرة لفدوى عبيد:
شب حلوية أفندي
قميصه تفتا هندي.
ويقلد الفتى نبيل الرقص وحركة الجسد كما تلك التي رآها في الأفلام المصرية: «أحرك يدي في الهواء كما تفعل الراقصات في الأفلام المصرية، التي كنت أشاهدها في سينما الأهرام، نجوى فؤاد، نعيمة عاكف، تحية كاريوكا». وفي مقطع آخر: «أتمايل برشاقة على أغاني طروب وشادية ونجاح سلام. أقفل الباب وأرقص كمن يرقد في فقاعة. وعلق على أحد جدران الغرفة صورة لسامية جمال تعود لعام 1958 قصصتها من غلاف مجلة الكواكب».
أسماء مغايرة لتحولات الشخصية
لكن الثقافة الطرابلسية لا تقتصر على جانب الأزياء النسائية والأغاني المتداخلة الهوية الجنسانية وحسب، لكن الحدث السياسي يطرح على نبيل تجارب مغايرة تماماً. فبسبب إعجابه، بمصطفى أبو خضرة، ينخرط معه في الكفاح المسلح، فيحمل السلاح وينضم للفدائيين:
«علمني مصطفى حمل السلاح، خضعت لدورة تدريبية، واستصدرت لي بطاقة حزبية باسم ديغول. ’الزلم بيحملوا سلاح‘، أسرت لي عليا وهي تدخن باستعجال». إن هذا التحول يكسب الشخصية اسماً جديداً فيصبح اسمه في الرواية ديغول، ما سنراه لاحقاً في مسرح سعد الله ونوس حيث الشخصيات تحمل أسماء مختلفة في كل مرحلة تحول من حكايتها.
من الفنون والثقافة الأوروبية في تشكيل المثلية
يتعلق نبيل في هذه المرحلة، بفدائي يدعى ميشيل: «أصبحنا صديقين، يرتدي بناطيل من الجينز، يضع نظارة سميكة، تزيد من سحر عينيه الخجولتين، ويقرأ شعراً بالفرنسية، وكنت أحب حين يشرح لي قصائد رامبو»، إحالات الفنون المثلية الأوروبية حاضرة، الشاعر الفرنسي رامبو وقصائده، وحين ينتقل نبيل إلى باريس ويصف لنا الشقة، تحضر الأعمال الفنية المثلية الأوروبية: «في الشقة الباريسية: أفيشات أفلام إيطالية وصورتان لفرانسواز آردي، وبيير باولو بازوليني المخرج المبدع في أفلام الجنسانية في السينما الإيطالية».
في كتاب التحولات لأوفيد تظهر المثلية النسائية أو الرجالية وكأنها لعنة، حالة جبرية تتمنى الشخصيات التخلص منها، إيفيس تدعو الآلهة لتحولها إلى رجل لكي تتزوج من تانيا. أما كاينيس فتطلب من إلٰهة البحر أن يخلصها من مصير الاغتصاب بتحويلها إلى رجل. حين ينتقل نبيل إلى فرنسا ويتقدم في العمر، يقدم على الزواج، وتأخذنا الرواية في تفاصيل المشاعر النفسية والأفكار الداخلية للمثلي الذي يعيش تجربة جنسية غيرية لا تعنيه:
«تقرفني رائحة جسمها بعد الجنس، بعرق إبطيها ومهبلها الساخن، ألمسها على مضض وأقبلها بتقزز، ثم أرمي نفسي على جسدها كمن يريد فعلته على عجل، آتياً بكل الرجال الذين حلمت بهم. لطالما تخيلت زوجتي جثة، نعم، هي جثة ولست أنا. كنت أخاف مع زوجتي أن أفقد عضواً مني أخاف أن أخرج ناقصاً، أتركها نائمة مع نقاط مني أكرهها من جسمي منثورة على صدرها المزموم». في هذا المقطع لا تبقى المثلية بين الخيار والإجبار، بل توصف بوصفها شعوراً حسياً، وفكراً ذهنياً أيضاً. ويصبح نبيل رجل خمسيني يتتبع الفتية في الحدائق والحواري لممارسة الجنس.
الشهوة المثلية المستمرة بعد الموت
تأتي قوة الرواية في الدفاع عن خيارات الشخصية، في النهاية، بعد الموت. نبيل الميت يستمر بالإحساس بالشهوة وهو مقدم على الموت، فها هو يشعر باللذة بينما يُحمل جثةً في سيارة الإسعاف:
«حملني شاب عشريني بيديه القاسيتين وصار يضغط على فخذي لامساً جلدي الطري، تمنيت لو لم أكن ميتاً، أن أشبع من عينيه الدافقتين بالقسوة وهو يعاين وجهي الشاحب. وحين تركني في سيارة الإسعاف اشتممت رائحته رائحة عرق طافحة بالغضب». وتصر الرواية في السطر الأخير منها على التأكيد على خيار الكاتب في منح الجثة الميتة متعة الرغبة المثلية: «بعد ساعات من دفني جلس شاب على قبري، أزال التراب رويداً رويداً، أخرجني، فطافت رغبتي عالية كأشجار غابة يانعة». إن الشهوة المثلية مستمرة بعد الموت، ونجد أنها تشبه في المقطع السابق بالأشجار، بالطبيعة.
ثالثاً: التحولات الجسدية والجنسانية كخيار إرادي
التحولات كمصائر فردية
في نصه المسرحي طقوس الإشارات والتحولات يبني الكاتب سعد الله ونوس الحدث والصيرورة المسرحية وفق مبدأ محدد، وهي أن تعيش كل الشخصيات في هذا النص المسرحي تجربة التحول. فالمسرحية مؤلفة وفق مبدأ التحولات التي تعيشها كل الشخصيات، وهي لا تقتصر على التحولات الجنسية، بل تحولات في النفوذ والسلطة السياسية، القيمة الاجتماعية، تحولات بين العقل والجنون، بين الرزانة والهوس. كل ذلك يجري في دمشق في القرن التاسع عشر. ويضيف ونوس إلى المسرحية مقدمة توضح فكرة النص: «إن أبطال هذا العمل هم ذوات فردية تعصف بها الأهواء والنوازع، وترهقها الخيارات. وسيكون سوء فهم كبير إذا لم تفهم هذه الشخصيات من خلال تفردها وكثافة عوالمها الداخلية، وليست كرموز تبسيطية لمؤسسات تمثلها. إن أبطال هذه المسرحية ليسوا رموزاً ولا يمثلون مؤسسات وظيفية، بل هم أفراد لهم ذواتهم ومعاناتهم المتفردة والشخصية».
التحولات السلطوية، الأخلاقية والدينية
هذا النص مؤلف من قسمين أساسيين، القسم الأول بعنوان: المكائد، والثاني بعنوان: المصائر، وعبرهما تحدث كل التحولات. فنقيب الأشراف عبد الله حمزة يتحول من رجل الشرف والسلطة والسهر والحفلات، إلى المتشرد الصوفي ومن بعدها الجنون، حيث يلحق به الفتية في الشوارع. فبعد أن يفقد سمعته وزوجته، يلجأ إلى الغيبيات: «عبد الله يتحول إلى الصوفية، يدور وسط الحلقة ويترنح، عيناه زائغتان وملامحه تنم عن الغياب. ويسقط على الأرض. ينصحه الولي: نفسك هي حجابك والنفس هي أصعب ما يعالجه المريد. أهمل بدنك حتى يتراكم عليه الوسخ، وعفر وجهك ومرقعتك حتى يزدريك من يراك. لا تقص ظفراً ولا شعراً، واترك القمل يتناثر عل وجهك وثيابك. ثم ادخل إلى حيك الذي تعظم فيه حتى ينظر إليك أصحابك، ويسقط باللوم جاهك، ويلاحقك الصبية بالتقريع والسخرية». إن محاولة الوصول إلى النقاء مع الذات تقوده إلى الدرك الجنوني.
أما عزت بك يتحول من قائد الدرك الماهر في مهنته، إلى فقدان الثقة والريبة وخسارة منصبه بسبب تداخل النساء عليه في السجن بين وردة ومؤمنة بعد أن تتم عملية تبديلهما في السجن. الغانية وردة التي تبدأ في حال من الغنج والدلال تكشف لنا عن طفولة مستغلة من قبل شيخ مهووس بالجنس، يدرّبها على متعته. أما مؤمنة زوجة نقيب الأشراف وبنت العائلة والحسب والنسب، فتتحول إلى الغانية ألماسة أبرع غانيات المدينة وأشهرهن.
مفتي دمشق محمد قاسم المرادي، الذي يبدأ شخصية كلية القدرة والحيلة والسلطة، ينتهي عاشقاً ولهانَ فاقداً للسيطرة في مشاعره تجاه غانية المدينة الأشهر ألماسة. ما يهمنا أن كل التحولات تتم بأسباب مبنية على معطيات اجتماعية أو اقتصادية أو سلطوية، وهناك التحولات المبنية على أساس الجسد والجنس.
التحولات الجسدية بين القيود والحرية
هذا النوع من التحولات تعيشه الشخصيات النسائية في العمل المسرحي، وتحديداً مؤمنة التي تكون زوجة نقيب الأشراف، والتي يُطلَب منها أن تتسلل إلى السجن وتستبدل نفسها بالغانية المقبوض عليها معه، فتُجيب مؤمنة:
«الزوجة الغانية، والغانية الزوجة. هذا تلاعب لطيف. إذن أنت والأشراف قررتم أن أتزوق مثل غانية، وأن أحل في السجن، غانية بدلاً عن الغانية. وهل الفرق بين الزوجة والغانية طفيف إلى هذا الحد. سأكون تلك التي قبضوا عليها وهي شبه عارية. إذن أنت والأشراف قررتم أن أتزوق مثل غانية، وأن أحل في السجن، غانية بدلاً عن الغانية».
توافق الزوجة مؤمنة على أخذ محل الغانية، مقابل ضمانة أكيدة في الطلاق من زوجها حال خروجه. ومن بعد تقرر مؤمنة التحول إلى الدعارة، وتطلب من الغانية وردة أن تعلمها الكار:
«مؤمنة: جئت أرجو أن تأخذي بيدي، أريد أن أنضم إليك. وأن أغدو واحدة من غاوين هذا البلد. وردة: تعالوا اسمعوا ست الأشراف تريد أن تصير غانية. إنها تحسدنا على هنائنا، وتريد أن تنازعنا فيه».
يركز ونوس على الأسباب التي دفعت الزوجة المقدرة مؤمنة لخيار التحول إلى الغانية ألماسة، مما يذكر بتغير اسم نبيل في رجل من ساتان إلى ديغول. تحول مؤمنة دافعه تحرير الجسد من القيود والأعراف، فتتحدث عن جسدها في يوم زفافها، وجسد الراقصة:
«مؤمنة: يوم زفافي أجلسوني على الأسكي، وأوصوني أن أغض طرفي، وأن أتجهم، وأن أخجل. ظهرت راقصة في الجوق الذي كان يحي حفلة الزفاف. كان جسدها حراً، يكاد يضيق به فناء داركم الواسعة. كان جسدها، يتدفق، يتماوج، يمتد، يضحك ويشهق. كانت حرة كالهواء. وأنا أيضاً بإمكاني الرقص، ينقصني شيء من المرونة والخفة والتمرن على الإيقاع».
في المقطع الجميل الطويل التالي تشرح فيه مؤمنة-ألماسة أسباب ثورتها وتحولها، تتحدث عن سقوطها إلى الهاوية، ولكن لتتحول إلى الورود والأشجار، مما يذكر بحضور الطبيعة في نهاية رواية رجل من ساتان:
«مؤمنة-ألماسة: حين أتأرجح على الحافة، وتناديني الهاوية، ويخيل إلى أنه، وفي لحظة سقوطي، سينبت من مسامي ريش كلون. من جذور نفسي سيطلع الريش مزدهراً ومكتملاً، وسأحلق في الفضاء كالطيور والنسائم وأشعة الشمس. أريد أن أقطع الأمراس الليفية الخشنة التي تحفر لحمي، وتقمع جسدي، أمراس مجدولة من الرعب والحشمة، والعفة، ومشاعر الدنس، والقذارة. من المواعظ والآيات والتحذيرات والأمثال ووصايا الأسلاف. صفائح فوقها صفائح، يذبل الجسد داخلها ويضمر. أريد أن أعتق جسدي، وأفك عنه هذه الحبال التي تمتص دمه، وتقمعه. أن يغدو حراً، وأن يستقر في مداره الذي خلق له، كالورد وأوراق الشجر».
إذاً، لم يعد تحول الشخصية النسائية المركزية في المسرحية تبعاً للحدث المسرحي وحده، بل بإحالة إلى كل واقع المرأة وجسدها في الثقافة العربية.
تحول مؤمنة إلى ألماسة هو رغبة الذات في التواصل مع جسدها بكليته: «وأول المقامات في رحلتي هو أن أرمي وراء ظهري معاييركم. ينبغي أن أتحلل من أحكامكم ونعوتكم ووصاياكم كي أصل إلى نفسي. ينبغي أن أتجاوز خطر الانتهاك كي ألتقي جسدي، وأتعرف عليه. صنعتم مني عورة هشة يمكن أن تنتهكها الكلمة والنظرة واللفتة. فصرنا جميعاً زواحف تتناهش في مستنقع من الأكاذيب والمظاهر والقيود». لكن نهاية مؤمنة-ألماسة ستفرض عليها مصيراً مأساوياً، حيث تقتل على يد أخيها.
التحولات الجنسانية في خيار الصدق والعشق
تحتل شخصية العفصة في المسرحية أهمية استثنائية، كونها من الشخصيات النادرة في المسرح العربي التي تعيش تحولاً جنسانياً نحو المثلية. العفصة وصديقه عباس من قبضايات المدينة، في المشهد الأول الذي يظهران فيه، نراهما يتسامران في بستان عند أطراف المدينة. وهنا يظهر عليها سمسم الذي يجتاز البستان بالقرب من مجلس الصديقين. وسمسم شاب مخنث لن يظهر إلا مرة واحدة، يمشي مشية خليعة. وبينما يمازح عباس سمسم ويحاوره للضحك، يغضب العفصة ويصفه بالنجاسة، ويصل به الأمر إلى أن يهجم على سمسم بالسكين:
«عباس: انظر من يقترب.
العفصة: لا تدعه يقترب من مجلسنا.
عباس: دعنا نتسلى قليلاً. ما وراك يا سوس؟ هل ضيعت الحبيب.
سمسم: كيف أضيع الحبيب، وهو يكلمني. ومن الحبيب. تعال اقترب.
العفصة: لا لا يصح. هذا نجاسة. إنك تدنس مجلسنا يا أبا الفهد.
عباس: من يسمعك يظن أن مجلسنا في صحن الكعبة. أحب أن أناغشه قليلاً.
سمسم: هل دعوتني فعلاً.
عباس: تعال هل أنت خائف.
سمسم وهو يقترب: خائف. فرطت أحشائي من الفرح.
يتخذ العفصة هيئة حردة، ويميل في جلسته عنهما.
سمسم: أنا قتيل هذه الشوارب بغيتي حليبك دون كل السباع.
عباس: يبدو أنها هائجة عليك.
سمسم: لا يشفيها إلا ضربة من خنجرك.
العفصة يهجم على سمسم بالسكين.
سمسم: هو لا يطيق وجودي، لأني أعرف بعض الأشياء».
التحولات الجنسانية كخيار إرادي
إذاً، في الأقسام الأولى من المسرحية يكون العفصة كارهاً للمثلية، متعدياً على سمسم بالسكين، وفي القسم الثاني من المسرحية يحدث التحول الناتج عن الحب الذي يكنه العفصة إلى عباس ويعترف به أخيراً. فنحن نشهد حباً بين قبضاي وآخر، ذلك حين يدخل العصفة حليق الشوارب، ناعم الوجه، يتعمد التخنث بحركاته وكلامه. ويهب العصفة شواربه في محرمة إلى عباس، وهو يوضح سبب التحول:
«العفصة: لا تقتلني يا أبا الفهد. ما فعلت هذا إلا من أجلك. وأنت تعرف أن ما فعلته باهظ التكاليف علي. إنه في بلدنا كالموت أو أسوأ من الموت.
أني لا أتحمل أن ترميني بعد أن غيرت تكويني. غدوت كالماء في صفائه ووضوحه. كيفما نظرت إلي، ستجدني واحداً. هيئتي هي سريرتي، وسريرتي هي هيئتي. أردت أن أقوي أسباب الود بيني وبينك، وأن أعترف دون مداورة أو تستر أني أعشقك، هذا العشق هو الذي جرأني على نفسي وعلى الناس، وهو الذي يمدني بالشجاعة والحياة.
عباس: ما كان بيننا هو شهوة تزول مع قضاء الوطر. وكان يلذ لي أن أعلو رجلاً محسوباً على الزكرتية، وأن أرى قامته تنكسر وتتصاغر بين فخذي. أما الآن فأي لذة سأجنيها من اعتلاء مخنث رقيع.
العفصة: أتعلم يا أبا الفهد، إن مواجهة زكرتية البلد مجتمعين لا يحتاج إلى الشجاعة التي احتجتها كي أفعل بنفسي ما فعلت».
إنها الإرادة-القوة التي يريد ونوس أن يظهرها في عملية التحول الاختياري بدافع الحب والصدق مع الذات، والشفافية مع الحبيب، كفعل يضاهي مقارعة زْكرتية البلد مجتمعين. ورغم، هذه القناعة التي يعبر عنها العفصة، قناعة اختيار المثلية كصدق مع المشاعر، كصدق مع الذات، وصدق مع الآخر، إلا أنه سيلقى المصير المأساوي الذي لاقته الشخصية النسائية المتحولة جسدياً، مؤمنة-ألماسة. فهو سيقدم على الانتحار، وهو يلقي المونولوج الأخير:
«فقدت مكاني في عيون الناس، والذي كشفت سري من أجله، رماني وسماني عورة. إني أشجع منه. أحبني حين كنت كذباً وهيئة، ثم ازدراني ورماني حين جئته صافياً كالبلور بلا كذب أو هيئة. هو الكذب، هو الجبن. لم يفهم الشجاعة التي تحليت بها، والعذابات التي كابدتها كي أتصالح مع نفسي، وأغدو شفافاً. لا أستطيع أن أندم، لا أستطيع أن أتراجع، ولا أستطيع أن أتقدم. ثم يقدم العفصة على الانتحار وهو يربط الحبلة حول عنقه يقول: يا الله، إني أخجل من مناداتك، ولا أعرف كيف سألقاك. يا رب وأنت العادل الرحيم».
الشخصيات التي تعيش تحولاً إجبارياً في المسرحية تلقى مصير الجنون أو التشرد والضياع والهاوية، أما الشخصيتان اللتان تعيشان تحولاً اختيارياً، ألماسة تحول جسدها فتقتل، والعفصة يتحول نحو المثلية فيقدم على الانتحار.
* * * * *
من التحولات، أوفيد في قصص الميثولوجيا اليونانية والرومانية حيث البشر تحت مصير الآلهة وسلطة القدر، يأتي نص سعد الله ونوس ليجعل التحولات خياراً شخصياً أو نتيجةً لخيارات الشخصيات، لقد انتقل التحول من كونه قدراً إلى اعتباره صيرورة سلوكية. ومع رواية رجل من ساتان نتابع بالتفاصيل الدقيقة كيفية تشكل الجنسانية المثلية ضمن أطر التأثير السياسي، الاجتماعي، والثقافي والفني.