إنّ تضافر الصراع الداخلي، والتدخل الخارجي، والتدهور الاقتصادي، وندرة الموارد لفترة طويلة جعل اليمن يواجه أسوأ أزمة إنسانية في العالم. ورغم أن العمليات العسكرية الدائرة لعبت دوراً أساسياً في صناعة هذه الأزمة الإنسانية وتعميقها، إلا أنه لا يمكن للنزاع المسلح وحده تفسير حجم المعاناة في جميع أنحاء البلاد، بما فيها تدهور النظام الصحي. فهناك عوامل أخرى يجب أخذها بعين الاعتبار عند رسم استراتيجيات الاستجابة للاحتياجات الصحية والإنسانية في المدى المنظور والبعيد.
خلفية الصراع
أدّى نصف عقد من العمليات العسكرية بين الجهات الحكومية وغير الحكومية، المدعومة من قوى إقليمية ودولية، إلى تدمير حياة الملايين من اليمنيين ووضع البلاد على شفا الانهيار التام. اندلعت الحرب الدائرة في آذار (مارس) 2015، عندما تدخلت مجموعة من الدول بقيادة المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، وبدعم من الولايات المتحدة الأميركية، لإعادة الرئيس المؤقت عبد ربه منصور هادي إلى السلطة. اليوم، تغذي شبكة معقدة من «النزاعات بالوكالة» هذه الحرب – من دعم الإمارات للمجلس الانتقالي في الجنوب، إلى دعم السعودية للحكومة المعترف بها دولياً، إلى مساعدة إيران السرية للحوثيين في الشمال الغربي. أدت هذه المصالح السياسية المتشابكة إلى إطالة وزيادة تعقيد الصراع في اليمن.
على الرغم من مخاوف جماعات حقوق الإنسان بشأن الأزمة الإنسانية في البلاد، لا يزال تداخل المصالح المحلية والإقليمية والغربية يؤجج الحرب واقتصادها. حيث إن الآثار طويلة المدى للنزاع المسلح في اليمن تعمّقت واعتبرت من أكثر النزاعات تدميراً منذ نهاية الحرب الباردة. على مدى السنوات الخمس الماضية. حدثت ما يقارب ربع مليون حالة وفاة نتيجة للصراع بصورة مباشرة وغير مباشرة، وهذا يشمل أكثر من 12,600 مدني قُتلوا في هجمات مستهدفة. كما أن 60 بالمئة من القتلى هم أطفال دون سن الخامسة. ووفقاً للأمم المتحدة فإنه إذا استمرت الحرب حتى عام 2022، قد تتجاوز الوفيات 480 ألف، مع ما يقدر بنحو 330 ألف حالة وفاة لأطفال دون سن الخامسة.
إن الظروف التي واجهها اليمن بعد وقت قصير من بداية النزاع المسلح تتشابه مع تلك التي واجهتها عدّة بلدان تشهد نزاعات مسلّحة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كما في سوريا أو ليبيا. رغم اختلاف سياقات هذه النزاعات المسلحة في الأساس، إلا أن ديناميات العنف، ومشاركة اللاعبين الإقليميين والدوليين، والانقسام الحاد في المؤسسات العامة تحمل أوجه تشابه قوية.
في هذه المقالة نسعى إلى تسليط الضوء على العوامل السياسية، الحوكمية والإنسانية، التي تؤثر على الفضاء الإنساني في اليمن والتي ساهمت في هشاشة النظام الصحي.
السياسة وانهيار الثقة
خلال النزاع المسلح في اليمن، قسّمت المصالح السياسية للأطراف المتحاربة البلاد إلى كيانات متصارعة محلياً، فتم إستبدال الدور التقليدي للحكومة المركزية بمجموعة من المناطق المحكومة من قبل سلطات الأمر الواقع الناشئة، مما أدى إلى انهيار المؤسسات العامة بما في ذلك النظام الصحي.
تخضع الأراضي اليمنية حالياً لسيطرة ثلاثة أطراف رئيسية متنازعة، وهي الحكومة المعترف بها دولياً، حركة الحوثيين، والمجلس الانتقالي الجنوبي. تشكلت الكيانات الناشئة في اليمن غالباً على أساس الولاءات السياسية أو القبلية أو الطائفية أو المناطقية، ما جعل مستقبل العديد من اليمنيين – وبشكل غير عادل – يعتمد على المنطقة التي يعيشون فيها أو على الولاء الذي يمكنهم تقديمه. بالإضافة إلى هذه القوى الثلاث الكبرى، لا تزال العديد من المناطق اليمنية تحت سيطرة الجماعات المحلية أو القبائل. ورغم عدم اعتراف المجتمع الدولي بحركة الحوثيين والمجلس الانتقالي الجنوبي رسمياً، إلا أنهم يسيطرون على مناطق واسعة في كل من جنوب اليمن وشماله (انظر الشكل). ويمثلون بواقعهم الميداني أرقاماً صعبة في حاضر اليمن ومستقبله، مما يزيد من تعقيد الأزمة السياسية والإنسانية والتنموية.
أدى عدم الاستقرار السياسي في اليمن إلى تعميق مناخ انعدام الثقة، خاصة بين السلطات المسيطرة والمنظمات المحلية والدولية. تخضع كل من العمليات الإنسانية وطواقمها العاملة لفحوصات أمنية صارمة وقيود على تنقلاتهم، ما أعاق دخولهم وإمكانية وصولهم إلى المحتاجين.
انتشار انعدام الأمن الغذائي
يحتاج 80 بالمئة من سكان اليمن، بمن فيهم 12 مليون طفل، إلى المساعدة الإنسانية والحماية. إنّ ثلثي السكان لا يعرفون فيما إذا كانوا سيتوفر لهم وجبة طعام أخرى أو متى سيتناولونها. قد يصل عدد الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية إلى 2.4 مليون بحلول نهاية 2020، وهذا سيمثل نصف أطفال اليمن الذين هم دون سن الخامسة. من بين 3.3 مليون طفل يعانون من سوء التغذية في البلاد، مليون طفل يعانون من سوء التغذية متوسط الخطورة وأكثر من 400,000 من سوء التغذية شديد الخطورة، يمكن أن يموت 90 بالمئة منهم ما لم يستمروا في الحصول على العلاج.
ارتفعت أسعار المواد الغذائية فعلياً قبل عام 2015، معرضةً الكثير من سكان اليمن للخطر. تفاقم انعدام الأمن الغذائي بسبب الحصار البحري والجوي المفروض منذ العام 2015، والذي وضع قيوداً شديدة على تدفق الكثير من المواد بما فيها الغذاء والوقود والأدوية.
أدى الصراع المستمر إلى تعزيز ديناميات تجارة الحرب، وإلى المزيد من مأسسة شبكات الفساد والمحسوبية في البلاد، والتي بدورها حرمت اليمنيين من الوصول المتكافئ والكريم للمساعدات الإنسانية. مثالاً على ذلك، تم الاستيلاء المساعدات الغذائية التي تقدمها الأمم المتحدة إلى المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون. وقد أوضح ذلك المدير التنفيذي لبرنامج الغذاء العالمي الذي قال: «إن سرقة الطعام من أفواه الجياع، في وقت يموت فيه الأطفال بسبب عدم وجود ما يكفيهم من الطعام …هو سلوك إجرامي يجب أن يتوقف على الفور». على أي حال، لا تقتصر الانتهاكات المنهجية والمنظمة للمساعدات الإنسانية على طرف واحد من هذا النزاع.
ضعف القيادة والحوكمة
على الرغم من أن انعدام الأمن والاستقرار أعاقا العديد من العمليات الإنسانية في جميع أنحاء البلاد، فإن مناطق أخرى مثل حضرموت، التي لم تتأثر نسبياً بالحرب الدائرة، شهدت نفس التدهور في وضعها الإنساني، مما يطرح سؤالاً مشروعاً عن العوامل الأخرى التي تخنق اليمنيين بأزمة إنسانية غير مسبوقة. من الممكن الاجابة – ولو جزئياً – على هذا السؤال عبر التفكير بقدرة السلطات المحليّة الاستراتيجية والحوكميّة في إدارة الموارد المتوافرة. فمن منظور عملياتي للاستجابة الإنسانية وقت الأزمات، يمكن لمحافظة حضرموت أن تلعب دوراً رائداً في الاستجابة للأزمة الإنسانية؛ ليس فقط ضمن حدود المحافظة ولكن أيضاً للمناطق الأخرى المجاورة والبعيدة. تضم محافظة حضرموت واحداً من المطارين الدوليين العاملين في البلاد. علاوة على ذلك، لم تتضرر بنيتها التحتية (خاصة مرافق الرعاية الصحية) من جراء الحرب، مما يجعلها موقعاً استراتيجياً للتدخلات الطبية أو الإنسانية بما في ذلك الحالات المعقدة والذين يتم إجلاؤهم حالياً من اليمن إلى دول اخرى بغية الحصول على الرعاية الصحية وما يرافق ذلك من تكاليف باهظة وترتيبات لوجستية وأمنية واسعة.
إن تبنّي استراتيجيات مختلفة، وتوافر إرادة سياسية أكثر إنفتاحاً، وضمان سلامة المرضى أو الجرحى، قد يحوّل حضرموت إلى قاعدة استراتيجية للتدخلات الإنسانية والطبية، فعلى سبيل المثال، يمكن للفرق الطبية الدولية والمحلية التعاون سويةً لتقديم خدمات رعاية صحية متقدمة، مثل العمليات الجراحية المعقدة أو حتى بناء كفاءات الفرق الطبية المحلية من خلال برامج التدريب الطبي.
تغيير الفضاء الإنساني
على غرار النزاعات المسلحة الأخرى في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، يقدم اليمن مثالاً آخر للتحديات التي تواجه الأمم المتحدة ليس فقط بسبب نقص التمويل، أو عدم إمكانية الوصول، أو عدم التعاون مع السلطات المحليّة، ولكن الأهم من ذلك التحدي في تفسير التفويض «الإشكالي» للتدخل الإنساني، إذ يُسمَح لوكالات الأمم المتحدة بالاستجابة للأزمات الإنسانية ولكن بشرط العمل ضمن «الإطار الحكومي». هذا الإطار غائب فعلياً في اليمن!
لا يمكن التقليل من دور العمليات الإنسانية للأمم المتحدة في مكان تكون فيه وحشية الصراع المسلّح وآثاره بالحجم الذي شوهد في اليمن، لكن التفويض الأممي – بالشكل الحالي – غير مناسب للتعامل مع ديناميات الصراع الحديثة، لا سيما مع ضعف أو غياب الدور الفاعل للحكومات المركزية، أو مشاركتها المباشرة في النزاعات المسلحة على أراضيها.
من ناحية اخرى، لا يزال صوت المنظمات الإنسانية ومنظمات المجتمع المدني اليمنية خافتاً أو مهمّشاً في تقرير الأولويات واستراتيجيات التدخل. ففي المجال الصحي مثلاً، يتم التقليل من شأن الدور المحتمل للقطاع الصحي الخاص، حيث تم استبعاد مرافق الرعاية الصحية الخاصة من الدعم المقدَّم من المنظمات الدولية، بما في ذلك الإمدادات والمعدات وفرص التدريب ذات الصلة. وبالتالي، لا يزال النمط غير المتكافئ في تقديم الرعاية الصحية سائداً، لا سيما في المناطق الريفية.
التوصيات والاستنتاجات
لفترة طويلة، تم التقليل من أهمية دور المجتمعات المحلية أو تجاهله في البلدان التي تشهد نزاعات مسلّحة أو أزمات إنسانية، وقدّ أدّى ذلك بشكل تراكمي إلى تعميق التفاوت في كمية ونوعية الخدمات المقدّمة وكذلك جدواها. قد يكون تعزيز دور المجتمعات المحليّة وتعزيز قدرتها على لعب دور أكثر محوريّة في تحديد الأولويات واستراتيجيات الاستجابة، وهو المفهوم الأكثر أهمية في خلق عمليات تعافٍ وتنمية مستدامة في البلدان المنهكة بالنزاعات المسلحة. يجب أن تكون المنظمات الإنسانية ومنظمات المجتمع المدني المحليّة والفئات المهمشة جميعها من ضمن صنّاع القرار في الاستراتيجيات قصيرة وطويلة الأجل لا مجرد منفّذين لخطط الاستجابة المستوردة. بالإضافة إلى ذلك، يجب إشراك القطاع الخاص بشكل أكبر، لا سيما أثناء حالات الطوارئ وتفشي الأمراض نظراً لموارده البشرية والتقنية خاصة في القطاع الصحي. تعد مراجعة تفويض التدخلات الإنسانية للأمم المتحدة أمراً بالغ الأهمية، لا سيما في مناطق الحرب، حيث تشارك بعض الحكومات بشكل مباشر في النزاع المسلح.
لا يوجد حل سهل لأزمة اليمن المدمرة، ولكن كما هو الحال في الطب، فإن التشخيص الدقيق ضروري لوضع خطط العلاج المناسبة. إن وقف إطلاق النار وتوفير التمويل المناسب للعمليات الإنسانية ضروريان لسحب اليمن من الحلقة المفرغة من الضعف والهشاشة.
على أي حال، فإن المحن الإنسانية التي نشهدها في هذه السنوات تتطلب نهجاً جديداً وشاملاً للنظر فيها. وهذا لا يشمل فقط معالجة التأثير المباشر للعنف ولكن أيضاً العمل على معالجة تأثير العوامل المؤسساتية. وإن الفشل بذلك سيجعل أي حل مجرد علاج عرَضي ومؤقتاً للأعراض بدلاً من علاج حقيقي وجذري.