تقول الشاعرة الأميركية الراحلة والمدافعة عن حقوق الإنسان مايا أنجلو: «كانت الموسيقى ملجأي، فقد كان بإمكاني الزحف إلى الفراغ بين العلامات الموسيقية وثني ظهري للوحدة».

وعني، فإني مثل مايا، أحب الموسيقا بكافة أنواعها، وأرى فيها ملاذاً من الهموم. أحب الأنغام الهجينة التي تخلط بألحانها وإيقاعاتها بين الشرق والغرب؛ آلات من هنا وهناك، وكلمات من هنا وهناك أيضاً، لكني أحمل مكاناً في قلبي لأغاني الراب عموماً، والعربي منها خصوصاً، جزائرية الهوى منها أولاً، ومن ثم الشامية. وأرى في ذاك العالم تشويقاً ومتعة هائلين أَسعدُ بتفكيك دقائقهما. الموسيقى هي نتاج لتفاعلنا مع بعضنا ومع المدن، فهي ثمرة علاقة تبادلية بين عواطفنا وأفكارنا وسلوكنا ومدننا.

أحاول في هذا المقال اقتفاء أثر المدينة على ساكنيها بحالها الملموس وغير الملموس في الأغنية العربية، من خلال نقدها عبر الأنماط غير الشرقية من الموسيقا، أو فهمها من منظور مغنّيٓ الراب والجاز خاصة.

المدينة والناس

لا أرى انفصالاً بين كينونة المدينة وكينونة ساكنيها، هما في علاقة منفصمة من طراز حب/كراهية، تُعبِّر عن أطوارِها المتأرجحة نماذجُ عدة، ملموسة وغير ملموسة، فإذا كانت علاقة الحب/الكراهية هذه تحدث في منظومة أبوية خانقة وتسبح في فلك فساد وظلم ولا مبالاة، فإن كلتا الكينونتين محكومتان بالاختناق.

معظم مدن المشرق والمغرب العربي تعاني بشدة، وقد تردّى حالها منذ ستينات القرن الماضي، فهي تدور مع ساكنيها في دائرة مغلقة، كلٌّ منها يؤثر سلباً على الآخر. طاقة الدوران الضائعة فيها أنتجت قباباً زجاجية صلبة فوق هذه المدن لا يمكن اختراقها، وضعت كلا الطرفين تحت إقامة جبرية في ذاك الفلك المظلم.

لكن منذ عام 2011، وبسبب شرارة أُطلقت في تونس، حدث شرخ في صُلب هذه القُبَب، أمست المدن وساكنوها من بعده في حال مغايرة لما كانت عليه قبله، وكأن هواءها قد تسرّب إليه مكون جديد، أزال سحراً كان قد كبّل أعيُن الساكنين.

شروخ القبب الصلبة هذه سمحتْ بتسرُّب مُكوِّن سحري إلى المدن القابعة تحتها، مكوِّن سمح لأبناء وبنات هذه البلاد برؤية حقيقة واقعهم البائس المعاش، كما فتح أفواههم المَخيطة بخيوط حديدية لنقد هذا الواقع، وكأن معظم من استنشق هذا المكوّن أفاق من تأثير «نهر الجنون» الذي تكلم عنه توفيق الحكيم: هو الحرية.

علاقة الحب والكراهية بين المدينة العربية وساكنيها في العقد الأخير، وبعد التغييرات الهائلة التي مرّ بها الطرفان، أفردت مجالاً للتعبير عن نفسها، فقد سادت المدينة حال بائسة، قطّعت أوصالها، وبترت تراثها، وفرّغت مراكزها التي طُرد منها ساكنوها، ناهيك عن الدمار الذي أتى استجابةً لمطالب ثورات الحرية من حكامها. أما سكان المدن، من جهة أخرى، فإما قد لازموا الصمت، أو تركوا مدنهم وراءهم، لاجئين ومهاجرين ومغتربين، متخذين من الفنون الثقافية وسيلةً للتعبير عن معاناتهم، ولتوثيق مشاعرهم المتضاربة، باثّين فيها أشجانهم ومشاعرهم وحنينهم. الموسيقا والأغاني هي أحد هذه الفنون.

الموسيقا، والأغاني العربية عامةً، تخاطب العواطف، وتبجّل الحب والحبيب بوجوده وفَقده، وهي إن تكلمت عن مواضيع أخرى، فهي تتلمسها من خلال الشوق والحنين والدعم والكثير من المشاعر الإيجابية، لكنها لا تنتقدها كما يجب ولا تنظر لها بحيادية أو تتعامل مع مشاكلها، بل على العكس، ربما كأي قضية أخرى، تُجمّلها وتحاول إظهارها في أبهى حُلَلِها، لذلك يُحتمَل هنا أن الحرية وَجدت ضالتها في موسيقا عالمنا العربي في أنماط غربية، أهمها وأشهرها الهيب هوب والراب والجاز كما كانت في سائر أنحاء العالم. سمحت هذه الأنماط الموسيقية لفنّانيها التعبير عن أنفسهم ومشاعرهم أولاً، وعلاقاتهم ثانياً، وما يحيط بهم أخيراً. كما أن سقف الحريات في الراب عالٍ، وارتفع أكثر بعد عام 2011، مع انحسار المحرّمات أو المنهيّات، ومع شيوع استخدام اللغات المحكية فيه وورود ألفاظ الشارع والسُّباب في كلماته، وهو أمر ما كان ليحدث قبلاً.

المدينة هي إحدى هذه القضايا، لا نغني إلا عند الحنين لها أو لشحن مشاعرنا تجاهها، أو دعمها خلال ظروف صعبة، وهنا نحاول استعراض أغاني تعاملت حقاً مع المدينة العربية المعاصرة ومشاكلها، ملموسةً كانت أم غير ملموسة.

قبل النظرة الأكثر تعمقاً إلى الأغاني التي سنوردها كنماذج فيما يلي، علينا أن نوضح أن المدينة هي ليست بيئة مبنية فحسب، تتضمن أبنية وشوارع ومؤسسات إدارية وخدمية ووظائف متعددة إلى جانب موظفيها وشاغليها، وإنما هي فراغ غير محسوس من العادات، والأفكار والمشاعر، والروح التي تسود البيئة وتعطي ساكنيها طابعهم وتقاليدهم، فالمدينة ليست بناءً اصطناعياً، بل هي عامل مهم في صنع الناس الذين يشكلونها، والذين ينتجونها بدورهم، كما قال روبرت إي بارك: «المدينة نتاج للطبيعة، وخاصة للطبيعة البشرية».

نقد المدينة وواقعها يبدأ بنقد ساكنيها، أو ربما الأصح أن نقول: بنقد مسؤوليها وحكامها الذين تردت حال المدن بسبب سياساتهم وإساءة استخدامهم للسلطة؛ يمرّ بنقد السياسات وانفصالاتها الداخلية وتناقضاته، كما أن هذا النقد يمر بمنطقة الأمور غير الملموسة، بانعكاسات ما سبق علينا، بما تُشعرك به المدينة، وبما تُحسّه بالمقابل، وربما يكتمل المشهد بالتكلم على الجانب المحسوس/المبني من المدينة.

 وهنا تتشابه المدن، بين دمشق وبيروت وطرابلس وبعلبك وصيدا والقاهرة والجزائر العاصمة، واقع ديستوبي، شوارع تخرج عن وظيفتها في احتواء المواطن العربي، إلى كونها حدوداً أو حواجز (borders) بحال كالحة وخدمات سيئة.

لمحة عن تاريخ الراب في العالم العربي

ظهر مصطلح الراب، والذي يعني الشعر الإفريقي المُقفّى (Rhythmic African Poetry)، في سبعينات القرن الماضي في حي ذا برونكس في مدينة نيويورك. وكان محاولة من الشباب الأميركيين الأفارقة للتعبير عن همومهم ومشاكلهم، بإقامة حفلات يديرها اثنان: مقدم الأغاني المسجلة (disk jockey) المعروف أيضاً بالدي دْجيه DJ؛ و«عريف الحفل» (master of ceremonies) أو الإم سي MC، وقد تطور دور الأخير من التقديم إلى الترحيب بالناس والإلقاء المقفى والسرد الشعري بمواضيع شتى فلسفية وأخرى عن الحب والجنس والمخدرات والتمييز.

أما في الوطن العربي، فقد ظهر الراب في محاولة لتقليد الواقع الأميركي في أزقة شوارع المغرب العربي، وخاصةً بين شبابه الذين هاجروا إلى أوروبا، الذين استعملوه كوسيلة تنفيس عن هموم الغربة والهجرة، لكنّ هذا النمط لم يقنع شركات الإنتاج الموسيقي أبداً بدعم مغني الراب، لذلك اعتمدوا على إنتاج منتجاتهم بدعم ذاتي، وتقديمه مجاناً في حفلات حية، أو وضعها لاحقاً على الإنترنت.

ومن بعدها، انتقل الراب إلى المشرق العربي كالسعودية وفلسطين ولبنان وغيرها، وتأسّست العديد من الفِرَق، أذكر منها ما كنت أسمعه في صغري، وهي أغاني غسان الرحباني وفرقته، وأكثرها شهرةً «بلدية بيروت» المُنتَجة عام 1994، والتي يشتكي فيها من وضع مدينة بيروت الخدمي وبناها التحتية السيئة، وهي حسبما أظن أولى محاولات نقد المدينة في العالم العربي، وربما من المحاولات السبّاقة التي خلطت أكثر من نمط موسيقي سويةً: كالجاز والبوب، مع غناء الكلام المحكي المقفّى.

,

لائحة الأغاني العمرانية

أبدأ لائحة الأغاني العمرانية بأغنية «الوسخ التجاري» لفرقة الطفار، المكونة من بوناصر الطفار وجعفر الطفار، والمنتَجة عام 2011. «الطُفّار» كلمة تعني المتوارين عن أنظار الشرطة، ولكنها أيضاً صيغة التفضيل من «طافر» وهو الفقير. الثنائي يجمع جهورية صوت المروان (بوناصر) وشجن جعفر، يعبران فيه عن احتلال شركات الإعمار لبيروت، عن إبعاد الفقير وإحلال الغني.

يتكلم كلاهما، وهما المنحدران من بلدة الهرمل عن أن الطريق إلى بيروت مليء بشقق صغيرة لا تحترم لا الإنسان ولا حرمته، عن صعوبة الموت في بيروت وطبقيته. يركزان كثيراً على ابتلاع سوليدير والشركات الأجنبية للوسط التجاري، على تعمير البحر، وتزيين القبب بالذهب والبذخ الذي يمارَس منها. ويُنهيان الأغنية بالوعد بأن الثورة ستقتل كل من تجرأ على الناس، وعلى الحكام، وستدمّر شركات التطوير كسوليدير وتُعيد الحق لأصحابه، في إشارة لحق السكان في مدينتهم.

,

أما عن الجوانب العمرانية غير الملموسة، فأذكر هنا تعاون ثلاثي بين بوناصر الطفّار والراس وألحان وتر (المعروف أيضاً باسم جندي مجهول)، في أغنية الراب «بيروت خيبتنا»، بإنتاج بسيط عام 2013.

يطالعنا الطفار بكلماته اللاذعة لحال اليسار والمثقفين العرب المتردي، وللفساد المستشري بينهم وبين مسؤولي لبنان وحكامه، لكن ما يميز هذه الأغنية هو الربط الذكي لتناقضات بين تلك المدن أو شواهد من شوارعها ذات الأسماء اللمّاعة مع أوضاعها السيئة وواقعها المر.

هناك شاعرية بربط المتناقضات والأضداد، بربط القمم بالهاويات، بين كيس قاذورات وبين رب هذا الكون («ساحة الله» في مدينة طرابلس)، بين بعلبك مدينة الرجال الشجعان وبين تفشّي الجوع والظلم المُغطى باستعارة الشادور (غطاء ديني أسود اللون تلبسه النساء في إيران)، وما يعنيه من تغلغل للسلطة الإيرانية في تلك المدينة، وبين مدينة صيدا الحرة التي سيطر عليها القائد السلفي أحمد الأسير وجعلها عرضةً للصدام بين مكونات المجتمع اللبناني.

,

أغاني الراب التي نوردها صدرت كتعبير سياسي عن وضع المدينة المتردي، فكما يقول الفيلسوف الفرنسي لوفيفر: «الفضاء هو وسيلة النضال والموضع النهائي، وبالتالي فهو قضية سياسية حاسمة. هناك سياسة للفضاء لأن الفضاء سياسي». كل أمر هو سياسي بأصله، ونحن نقول هنا إنه لا سبيل لتلافي السياسة، فهي أصل المدينة وتصميمها، وجذر أساسي للمشاكل فيها. وقد فهم مغنوٓ الراب هذا الأمر، ولعبوا على هذا الوتر.

في أواخر عام 2013، أصدر الراس أغنيته «من كوكب الفيحاء»، وفيها يخبرنا عن مدينته المخبأة طرابلس، عن حارة جبل النار، عن ساحة الدولفين، البحصاص وحارة الرمل، ومنطقة السرايا، وفيها يهدي الأغنية لكل من عانى التهميش وفقدان الأمن، للبسطاء «المرَدة» من أهالي طرابلس، والذي غيره لجمع الترميم «ماردين»، بحسب ما أخبر به موقع المدن (رغم أنني منذ سماعي الأغنية كنت أظنها من كلمة ميرد merde الفرنسية، أي أن الناس يعانون ولم يعودوا عابئين بما حولهم).

,

هنا يوجه الراس دعوة لسكان المدينة أو لمن تركوها، لأن يتخيلوها، أو يُعيدوا تخيلها ويغيروا واقعها، بأن يلونوها ويروا إمكانياتها حتى تتغير عقول ساكنيها وتطور من تمايزاتها. هنا، لا يميز الراس بين الطرابلسيين، ساكنين كانوا أم مهاجرين، يتوجه بالدعوة للجميع على السواء، فلا حدود يرسمها بينهم. هي دعوة لاستعادة بيئتنا المبنّية، لفضاءاتنا العامة، لتحقيق ما كتب عنه لوفيفر وديفيد هارفي عن حقنا في استعمالنا للمدينة.

في عام 2014 يعاودنا الكاتب والمغني بو ناصر الطفار بأغنية تعاون فيها مع وتر (جندي مجهول)، يتكلمان فيها عن مدينة بيروت مجدداً: «بيروت خنقتنا». تلك المدينة التي تحتضن الجميع لكنها تدفعهم خارجاً بفعل قوة نابذة نتجت عن حرب أهلية أفرغت مركزها الحيوي.

,

التفاصيل التي أوردها كل من بوناصر الهرملي، ووتر السوري مثيرة للاهتمام، فكمّ التناقضات الرهيبة التي يعاني منها المختلف/الآخر في هذه المدينة هائل، فهي تعطي الحرية للأبيض الأميركي أو الأوروبي على حساب أصحاب البشرة الداكنة، رافضةً المهاجرين إليها، والذين قد أفشت سرّهم لهجاتُهم المكسرة أو المختلفة.

يحدّثنا وتر كيف أنه، كسوري، في مدينة بيروت مسجون في سجن بلا جدران. هو ضيف مهما حدث. هذه ليست بمدينة للغرباء، هي مدينة أنهكتها الحرب وأمراؤها، ولم يعد بإمكان ساكنيها الأصليين أن يساعدوا أنفسهم قبل مساعدة جيرانهم السوريين، الذين حاصرتهم الحدود من كل مكان، وظلت بيروت منفذهم الوحيد. وينهي وتر مقطعه بجملة مميزة: «بيروت خيبتنا من يوم يللي كنت كائن حي بـ حيّ بالشام ساكن»، وكيف أنها نبذت السوريين منذ زمن بعيد.

في الأغنية لعبٌ على تناقضات المدينة، كيف أن بيروت مدينة مئة مدينة، تتجول في أحيائها وكأنها مقاطعات، وليست بأحياء يُفترض أن تتواصل. مثير للاهتمام كيف أن الغريب عن بيروت يستطيع الإحساس بانفصالاتها وحدودها الداخلية، كيف أن الخط الأخضر موجود ليس في شارع دمشق وحسب، وإنما بين بين الحمرا والرملة البيضا، بين الضاحية ومخيم صيرا وشاتيلا وغيرها. إشارات لسلطة سياسية تكبر في كنف الدولة، وكيف أن الضواحي تكبر  على حساب العاصمة المركزية، في إشارة لسيطرة الضاحية الجنوبية.

ربما في المقطع الأخير من الأغنية أول إشارة إلى الجزء المحسوس، بإشارة بوناصر لحقيقة أن فراغات بيروت العامة ليست للعامة، كيف أن الغريب الطافر البسيط مطرود من رحمة عمومية الفراغات، فلا الحرش يستقبلهم، ولا البحر يفتح أمواجه لهم، في إشارة إلى عملية «الجنترة» (gentrification) التي ربما تصل إلى سحب السماء من فوق رؤوس سكانها، منهياً المقطع بحقيقة أنها ستظل تطرد الغريب وتراه كخلل في نظام المصفوفة المعلولة أصلاً.

الراس وبو ناصر على وجه الأخص ثائران على الأنظمة الرأسمالية النيوليبرالية التي شكّلت المدينة اللبنانية المعاصرة. كلاهما قادران على  تحديد نقاط ضعفها ومكامن أذاها بدون تردد، حتى لو ارتد ذلك عليهما، وما يتداعى عليه من أمور. كلاهما يريانها على حقيقتها تماماً، بجمالها وقباحتها، وهنا تظهر قوتهما، فهما لا يخشيان قول الحق حتى لو فيه أذية لفئة أو أخرى.

مروراً بأغاني أخرى تطرق على باب الجانب غير الملموس من المدينة، لا بد أن نقف عند أغنية الفرعي «اتغيرتي ليه» بلحنها الحنون، وتصويرها البسيط الذي تمّ في لندن، بعيداً عن المدينة الأم. يخاطب الفرعي مدينته بكلمات قليلة، طالباً منها تفسير أمر ما: لماذا تغيرتْ؟ لمَ لم تصرّح بأن صوته فيها لم يعد مهماً؟ تلك المدينة التي يطلب منها أن تبقى بوصلته، أن تثبت بعد أن رحل جيرانه، وخاصةً أنه لم يبق شيء يُهان أكثر مما كان.

,

هنا نرى المدينة وكأنها ضاعت من ساكنيها وأضاعتهم، أبقت لوعتهم مشتعلة، لكن طريق العودة مقفل. مدننا أصبحت مراكز لقوى نابذة، تطرد أبناءها وبناتها وتُهين كرامتهم إن أرادوا حقوقهم، وهم بخروجهم منها أصبحوا حكايات جديدة، لكنهم إن عادوا أصبحوا هدية جديدة لهذه المدن، فإن هي رضيت بهم فالأمر ليس متبادلاً!

هذه الأحوال تتكرر في المشهد الحضري في المشرق العربي وتُستكمل في مصر، مع زاب ثروت وأغنيته «المدينة» في وجهة نظره، فهي مكان التناقضات، بازدحامها وخلوّها، بامتلاكها لعدة وجوه، بجمالها وقبحها، بزيفها وحقيقتها، و بعمقها وسطحيتها، لكنها لا تتناقض في خلق مشاعر الرفض في ساكنيها وزاب ثروت، الذي يدعونا في مجمل الأغنية إلى عدم التغني بجمال المدينة، بل إلى إظهار بشاعتها وحقيقتها اللئيمة!

,

أغنية عمرانية بحق

بالعودة إلى الأبعاد المحسوسة من المدينة، وبعد كل الدمار وتدني الأحوال المعيشية وهجرة أناسها إلى جانب تهجير قسم منهم قسرياً، تشهد مدننا العربية ظاهرة الجنترة، والتي إن بحثت عن ترجمتها في غوغل أو معجم المعاني تجده بمعنى الترميم أو التحسين أو رفع مستوى الحي الاجتماعي، وهو ما يُشعل الغيظ في القلب، فهو دائماً معنى سطحي لا يرقى لأن يصف كل ما تشمله هذه الكلمة التي صاغتها عالمة الاجتماع الألمانية البريطانية روث غلاس عام 1964، واصفةً ما قامت به طبقة الأغنياء «البوهيميين» في شرق لندن من عملية تغيير الأحياء، من خلال «غزوها» وتحديث مبانيها وضخ رؤوس الأموال لتجديدها واستبدال ساكنيها من الطبقات الدنيا والعاملة بالطبقات المتوسطة العليا والغنية بتزامن.

وهنا أصل إلى أغنيتنا الأخيرة في هذا المقال، التي أُنتجت في شهر كانون الأول 2020 وأعتبرها ذروة اكتمال الأغنية العربية ذات الطابع الغربي التي تتناول المدينة العربية عموماً، والتغييرات التي تسحب منها ما يميزها، لكنها بالأخص تركز على عملية الجنترة، وتقوم بالتركيز على المدينة بجزئها المبني بطريقة مميزة. وهنا أنا متحيزة، فأنا لا أرى لهذه الأغنية منازعاً، لأنها تخرج من القلب لتصل إلى القلب، تعبّر ببساطة عن أمور مُعاشة. إنها أغنية فرج سليمان «شارع يافا» أو باسمها الإنكليزي Hymn for Gentrification: ترنيمة للجنترة.

,

الأغنية ليست من نمط الراب الذي يسود المقال. هي من نمط غربي مخالف تماماً، ربما يصح وضعه تحت نمط الجاز، كما هي معظم أعمال فرج سليمان، الأمر الذي ساعد على تطبيع الجاز لدينا.

كمُمارِسة حضرية، وكمُستمِعة شغوفة بالموسيقا الهجينة، اتّسعت عيناي تفاجؤاً، ورقص قلبي طرباً عندما سمعت الأغنية وقرأتُ كلماتها، فنحن لم نعتد أن يتكلم أناس خارج المجال الحضري عن المكان، إلا لامتداحه أو الحنين إلى إيجابياته، لكننا محصورون في دوائرنا ومجالاتنا، ونادراً ما نرى هذه الخصوصية التي نراها في «شارع يافا».

مجد كيّال هو كاتب كلمات هذه الأغنية، يصف حال مدينة يافا المحتلة، والتي وإن كانت تحت سلطة إسرائيلية استيطانية، فهي حالها حال أخواتها تحت السلطات العربية، تعاني من نفس المشاكل والقوى النابذة.

جميل أن نسمع كيف ينظر مجد لعملية الجنترة كأنها وحش ينهش بطن يافا، بأن الشوارع بعد التهامها ستتغير، ولن تعود المدينة هذه بيئة مرحِّبة بالمشاة (بترجمة لطيفة لكلمة walkable)، ووظيفة الحارات تتغير من فراغات عامة يشغلها الناس – كبيرهم وصغيرهم – إلى حواجز بين الناس، في تذكرة بجين جيكوب وبمطالبتها بمدن إنسانية.

يتساءل الاثنان على مدار الأغنية حتى نهايتها عن العديد من الأمور، فلماذا أصبح السوق مجمّعاً مبنيّاً، وتغير من شكله المتعارف عليه كفراغ طولي عام مكوّن من تتالي دكاكين بسيطة لمبنى طابقي كبير يملأه الضجيج؟ من يقود عملية الجنترة ويستبدل سكانها بمحتلين غرباء عن المدينة، ليخرجهم من بيوتهم ويبيعها، ويسمح لهم بأن يُحشَروا في فتات البيوت التي تضيق عليهم كتابوت؟ ومن يقوم ببناء أبراج زجاجية جديدة ويحرم الناس من شرب قهوتهم الصباحية على شرفات منازلهم ذات المقياس الإنساني القديم؟

استيطان المحتل أو الظالم في كل مكان يبدأ بتغيير السردية ومحو الذاكرة، بتغيير معالم الأماكن، واستبدال القديم بالحديث بالإضافة إلى قمع السكان ونشر معالم العسكرة، لكنها لا تنتهي عند ذلك، وإنما تحاول طرد من بقي من سكانها وتحويل أماكن سكنهم إلى أخرى ترفيهية. أماكننا التي تحمل ذاكراتنا وذاكرة أجدادنا العبقة تتحول إلى أخرى «مستغربة»، على شاكلة المدن الغربية، راميةً صورتها الشرقية وراءها، وعندها المستثمرون أصحاب رؤوس الأموال يستجلبون سكاناً من طبقات «راقية» ذات لون مقبول وعرق أصفى، مستبدلين سكان المنطقة الأصليين.

تنتهي الأغنية بتساؤلات: من الذي سيدفع ثمن الحنين لنا نحن المنبوذين، من اشترى منّا أماننا فبقينا دونه، من أَفشلَ الأمل وسرق أصالة أماكننا. وهنا نرى في الأغنية حساً عالياً من المواطنة، يراها البعض بطريقة مختلفة: Citizenship/City-zenship كما سماها بعض الباحثين، والتي تعزز شعور الانتماء الحضري الشامل، حيث المدينة حقّ يجب أن يحصل عليه جميع السكان، بغض النظر عن أصلهم أو هويتهم أو شرعيتهم.

الأغنية مزجت دوائر الاختصاصات سوية، عبّرت عن آلامنا كأشخاص ومواطنين، وعن مخاوفنا كممارسين حضريين.

هنا علينا التنويه إلى أمرين: أولهما أن معظم أغاني الراب لمغنين، مع ندرة مغنيات الراب على الساحة العربية عموماً، وبشكل خاص بما يخص الأغاني التي تتناول موضوع المدينة. ثانياً هو أنني حاولت تتبع أغاني الراب في المغرب العربي، وهي رائعة جداً، وربما هي أكثر حضوراً من مثيلاتها في الشرق العربي، لكنها لا تتحدث عن المدن العربية، وهي إن ذكرت المدينة، فهم فيها يقصدون المدن الفرنسية التي يعانون ضمنها من عقدة الغريب/الآخر وبكونهم مواطنين من الدرجة الثانية. العيّنة المستخدمة هنا محدودة جداً، ومحصورة في أغاني دول بلاد الشام ومصر، ومن غير العادل أبداً تعميمها.

أنهي مقالي هذا بإجابة لويس مامفورد عن سؤال ما هي المدينة: «هي شبكة جغرافية، ومنظومة اقتصادية وعملية مؤسساتية ومسرح للعمل الاجتماعي ورمز جمالي للوحدة الإبداعية». في جوهرها هي مكان للحركة والتدفق، يعكس اللا-ملموسية. أي أن جميع القضايا متصلة وكلها تؤثر وتصبغ بعضها البعض بصبغة ما، وأثر مدننا واضح في كل منتج إنساني، وفي أغانينا، وموسيقانا، ولذلك أرى في الأنماط الهجينة باباً لتقبّل المختلف ولتقبّل الجميع. ربما لا يرى الكثيرون في الراب نمطاً غنائياً مهماً، أو يرقى لأن يكون جزءاً من فنون الغناء العربي، وأرد بأنني أرى الراب كقصائد، كجهد لإعطاء لمسة فنية على واقعنا المعاش الصعب، لصنع إيقاع يحملنا وكلماتنا إلى مكان آخر. أحب سماع أشجان بوناصر والراس وجندي مجهول والفرعي وبوكلثوم وشب جديد وجعفر الطفار ومسلّم وفرقة دام وآخرين من المشرق العربي، كما أحب سماع MBS  و113 ولطفي دوبل كانون ورياض من الجزائر بين آخرين، لأسمع الحقيقة والشجن والألم في أغانيهم.