الصداقة
الصداقة

تقف «الآنسة ملك» أمام طابور طويل على الصراف الآلي لكي تأخذ معاشها الشهري، حيث يقف عشرات مثلها ينتظرون دورهم للوصول إلى الورقات النقدية القليلة التي سيتحايلون عليها لكي تكفيهم هذا الشهر. تضع الكمامة، وشيء من الملل والسأم يكلل وجهها لأنها تعرف أنها لن تستطيع الوصول إلى معاشها اليوم، وأن عليها أن تنتظر أياماً أُخَرَ حتى تقبضه. هي حالة تعيشها كل شهر للوصول إلى المعاش، أحيانا تنتظر مُضِيّ أكثر من نصف الشهر، فالازدحام على الصرافات الآلية القليلة المتباعدة، والتي تختفي الخدمة منها مع انقطاع الكهرباء، تجعل الوصول للمعاش أكثر صعوبة.

بداية المشوار

هي معلّمة سابقة للمرحلة الأساسية، في الثامنة والخمسين من العمر، مضى لها في سلك التعليم ما يزيد على ثماني وثلاثين عاماً، أي أنها أمضت أكثر من نصف حياتها في التدريس وفي التعامل مع الأطفال وأسرهم. كانت قد قررت مؤخراً أن تتقاعد، ليس بسبب الإنهاك والسنّ فقط، بل بسبب التغيير الذي طرأ على سير العملية التعليمية برمتها، كما تقول.

نحن الآن في بيت السيدة ملك. بيتها متواضع ويتألف من أربع غرف صغيرة وشرفة على الشارع. البيت استعارة من أختها المسافرة في كندا، أما بيتها الأساسي في حي القصور فقد تدمر تماماً. تحمد الله مراراً أنها غير مضطرة لدفع الإيجار، وإلا فلن تستطيع أن تحمل مع زوجها نفقات أسرتها المؤلفة من أربع بنات، تبلغ أكبرهن في الخامسة والثلاثين، وأصغرهن العشرين. تدخن سيگارة من دخان غولواز، وتقول أنها لا تدخن سوى ثلاث سيگارات في اليوم. مع ذلك، تستكثر على نفسها هذا النوع الذي يعدّ فاخراً بالنسبة لدخلها.

تقول عن بداية مسيرتها في التدريس: «حينما نجحت في البكالوريا، رفضتْ أسرتي رفضاً قاطعاً دخولي الجامعة، حيث لم تكن هناك جامعات في مدينة حمص، وكان عليّ السفر إما لدمشق أو لحلب لدراسة الجامعة، وهو ما عارضته أسرتي تماماً، لذا دخلت الصف الخاص أو معهد إعداد المدرسين، لمدة عامين، وتخرجتُ منه، لأشتغل في التدريس لما يقارب الثماني والثلاثين عاماً».

بدأت السيدة ملك مسيرة تدريسها في الأرياف، تحديداً في قرية صغيرة في ريف حمص تسمى العامرية، حيث تولّت دور «معلم وحيد»، أي مدرّسة عدة صفوف في صف واحد. كان في الصف الواحد حوالي 35 طالباً، لكن كل 15 طالباً منهم في صف مختلف؛ الصف الثاني والثالث والرابع مثلاً. كانت تعطي كلاً منهم مهامه على حدة، لتنتهي الساعة الدراسية المؤلفة من 45 دقيقة، وهكذا دواليك. استمرت بأداء مهامها كمدرس وحيد لمدة سنتين، ليأتي تعيينها في مدينة ريفية أخرى هي الرستن، حيث أمضت هناك سنتين أيضاً. تقول إنّ الوضع كان مختلفاً تماما في مدينة الرستن، حيث المدرسة التي درّست بها أقرب للمدرسة النموذجية، مقارنة بالمدرسة السابقة. كانت المدْرسة الجديدة مؤلفة من ثلاثة طوابق وصفوف منفصلة، وكان الأهل هناك يولون اهتماماً فائقاً بتعليم أطفالهم، ويولون اهتماماً واحتراماً مضاعفاً للمدرسين عموماً. تضحك حين تذكر تلك الفترة من حياتها، حيث ذرفت الكثير من الدموع أثناء هذه الفترة، واضطرت للانتقال بعيداً عن أسرتها والعيش في الريف. ورغم معارضة الأهل للسفر للدراسة في الجامعة، إلا أنهم لم يرفضوا سفرها للريف للتدريس في المدارس الحكومية. تقول بأن مهنة التدريس كانت وما زالت الأكثر تفضيلاً لعمل المرأة بالنسبة للأهل، حيث احتكاكها محصور أكثر مع فئة الأطفال والمدرّسات، وهو الأمر الذي سيُضيف لسمعتها في العائلة، بينما تُعتبر الفتاة وأسرتها «متحررين» إن سُمح لها بالسفر من أجل الجامعة.

ثلاثون عاماً في التدريس

تُهرَع السيدة ملك لتشغيل الغسالة والسخان الكهربائي ووضع الهواتف بالشحن عند مجيء الكهرباء. يبدو الأمر لوهلة مضحكاً ومثيراً للرثاء معاً. تتحدث عن الأوضاع المادية السيئة التي يعيشها الناس الآن، وهي واحدة منهم. فرغم أنها موظفة حكومية وتقبض معاشاً شهرياً، إلا أن معاشها الذي لا يصل إلى تسعين ألف ليرة سورية لا يكاد يكفيها لمنتصف الشهر، علماً أن متوسط معاش المدرّسين الشهري هو خمسون ألف ليرة لكنها أمضت أكثر من ثلاثين عاماً في التعليم.

تفتخر المعلّمة المخضرمة بكونها درّست أطفالاً من ذوي الاحتياجات الخاصة لمدة عشر سنوات، حيث جعلتها جدارتها في التدريس مؤهلة لذلك، علماً أنها في البداية خضعت لدورات متواضعة متعلقة بدمج الأطفال الأسوياء مع الأطفال من ذوي الاحتياجات. تحكي طويلاً عن قصص ذوي الاحتياجات الذين عملت بجهد على دمجهم مع أقرانهم في المدارس الحكومية. قالت إن الموجهين كانوا يُكيلون لها المديح لأسلوبها في التدريس وفي الدمج. تحكي عن مشهد رأته لطفل كفيف يقود طفلاً آخر على كرسي متحرك في الاستراحة بين الصفوف الدراسية. كان لهؤلاء الأطفال أثر هائل عليها، وهي تفتقدهم من الآن.

تفتخر أيضاً بمسيرتها في التدريس. تقول إن ما تفتخر به أكثر من أي شيء قدرتها على تعليم الأطفال المنهاج بشكل ممتاز، رغم كل الصعوبات. لكنها تقول أنها لم تنجح في أمرين، الأول هو استخدامها للوسائل المساعدة على الشرح، حيث لم توفر لها المدرسة هذه الوسائل، والثاني إخفاقها في تدريس الصفوف الدنيا، حيث وجدت صعوبة شديدة في التعامل مع هذه الفئة من الأطفال.

التقاعد عن العمل

عند سؤالها عن سبب تقاعدها، تجيب بأن كل شيء تغير عما قبل عام 2011. حتى التعامل مع الأطفال كان مختلفاً. تذكر تماماً كيف كانت ملكة الصف آنذاك، أما الآن فبالكاد تستطيع ضبطهم. تقول في الأعوام السابقة لـ2011 إنها كانت تشعر بأنها منتجة ولها قيمة، وإن الأطفال الذين درسوا على يديها أصبحوا بمعظمهم من حاملي الشهادات العليا، وهم لا ينسون فضلها للآن.

أما الآن فقد تغير عليها أبناء هذا الجيل، حيث أصبحوا عنيفين ومستهترين وغاضبين، ووقحين كما تقول. هي لا تفهم تماماً سبب تغيرهم، رغم أنها كانت تحاول دائماً التعامل معهم بطريقة غير منفّرة، ومن دون استخدام أدوات الضرب التي لم يستغنِ عنها كثير من زملائها رغم منع وزارة التربية لها. حتى أطفال الصف الثالث الابتدائي كانوا أكبر من عمرهم بكثير، بطريقة كلامهم وتعاملهم مع بعضهم، ولا-مبالاتهم بها أو بالمنهاج الدراسي التي كانت تدأب على إكماله رغم كل صعوبات السنوات السابقة. تصمت برهة وتقول، هم كانوا فعلاً أكبر من عمرهم لأن الكثير منهم متأخرون في دراستهم وراسبون أو منقطعون عن الدراسة.

أما أهل الأطفال فلم يكن التعامل معهم أكثر سهولة. حيث واجهت عدة نماذج من الأهل، ولا سيما الكثير من الأسر التي غاب الأب عنها، إما قتلاً أو تغييباً، وبالتالي أصبحت مسؤولية أطفالهم على الأمهات، اللواتي لديهن غالباً الكثير من المشاغل التي تلهيهن عن العناية بدراسة أبنائهن وتقدمهم الدراسي. وفي حال وجود الأب، فإن الأسرة أيضاً مشغولة بتأمين احتياجاتها اليومية، ولا يملك بالغوها الوقت لملاحقة تقدم الأطفال في المدرسة. وأحياناً بسبب الواقع المعيشي المتردي، فهم يفضلون أن يتركوا المدرسة ويتعلموا «صنعة» ما، وهو الأمر الذي أدى إلى تسرب كثير من الأطفال من مدارسهم.

لكن تبقى بلا شك فئة أخرى من الأهل ممن يتابعون دراسة أبنائهم بدقة، مستعدين للذهاب للمدرسة محتجين بسبب علامة أو علامتين فقدها ابنهم في الامتحان، كما تقول.

دروس خصوصية

تبتسم السيدة ملك، فيتضح أنّ بعض أسنان فكها العلوي غير موجودة. تحاول أن تتذكر ما كان. تقول إن سعادتها كانت تتحصل بأن تدخل معلومة إلى أذهان طلابها، لكنها مؤخرة شعرت بأنها عاجزة حتى عن ذلك، وهو ما سبب لها إحباطاً كبيراً. بالإضافة إلى ذلك، كان لتغيير المناهج المستمر وصعوبة هضمها على كثير من الطلاب آثار كبيرة على الأطفال، حيث أصبح كثيرون منهم عاجزين عن فهم العديد من المقررات الدراسية الجديدة، بمقابل فئة صغيرة من الأطفال، يوظّف لهم أهلهم الأساتذة الخصوصيين، أو يمنحونهم متابعة كثيفة تضمن لهم التفوق الدائم. بالتالي، انقسم الصف إلى فئة صغيرة متفوقة، وفئة أكبر متراجعة دراسية بشكل كبير.

تقول ملك إن الكثير من الأهالي عرضوا عليها أن تعطي دروساً خصوصية، وهو ما يقوم به كثير من زملائها، لكنها رفضت – رغم إغراء الجانب المادي الذي تعوزه حتماً – لأنها تعطي في الصف نفس المعلومات التي ستعطيها في الدرس الخصوصي، إضافة إلى عامل تقدمها بالعمر الذي لا يمكن التغافل عنه. تبلغ قيمة الدرس الخصوصي غالباً بين 2,000 إلى 3,000 ليرة، ولمدة 60 دقيقة فقط، وهو ما أصبح يمارسه الكثير من الأساتذة للتعويض عن الراتب الذي لا يكفيهم طول الشهر. تقول إنها أدت واجبها كما يرتاح له ضميرها طوال عشرات السنين، والآن تريد أن ترتاح من هذا الواجب لتهتم بشؤون حياتها اليومية.

لو..

تمسح السيدة ملك نظاراتها بطرف قميصها وتنظر من خلال النظارات لتتأكد من نقاء عدستَيها. تقول لو أنها قُيِّض لها أن تضيف شيئاً للمناهج الدراسية لاختارت مادة التربية الجنسية لأطفال المرحلة الثانية، «أي من الصف الخامس الابتدائي». تتمنى أيضاً لو تتم إضافة مقرر يتحدث عن طرائق البحث بشكل منهجي، ولا سيما مع انتشار الإنترنت بين أيدي الأطفال. كما تتمنى إضافة دروس عملية تمكّن الطالب من ربط المواد النظرية التي يأخذها بحصص رديفة تربط له النظري بالعملي. تشرح أخيراً أنها لو كانت في موقع مسؤولية لاختارت أن تضيف حصة ترفيهية يجتمع فيها غرس القيم باللعب، لكن كل كلامها كانت بدايته «لو»، وبالتالي تعرف أن ما تتمناه يبقى في إطار الأمنيات. لكن تبقى الإشارة إلى أن بعض المدارس الخاصة، وليس الحكومية، استحدثت فعلاً حصصاً للأنشطة تندمج فيها القيم من خلال اللعب.

كير كارد

تتلعثم السيدة وهي تلفظ كلمة «كير كارد»، تقول ربما اسمها «ري كارد». المهم أنها بطاقة تأمين صحي، استُحدثت منذ حوالي خمس سنوات، وهي بطاقة صحية يمكن لحاملها أن يستفيد من حسم 90 بالمئة من أجرة مراجعة الطبيب، إضافة إلى 90 بالمئة أخرى من أجرة الدواء الذي تشتريه، و90 ثالثة من قيمة أية عملية جراحية تحتاج للقيام به، وأخيراً 90 بالمئة من قيمة التحاليل، كل ذلك بشرط الذهاب إلى الأطباء والصيدليات المعتمدين المشاركين مع نقابة المعلمين. كان يُحسَم من معاش ملك من أجل هذه البطاقة مبلغ 31 ألفاً بداية كل سنة. توقفت السيدة ملك عن الاستفادة من ميزات هذه البطاقة منذ عدة سنوات، وتقول أن الحسم من الراتب كان بدون أن تستفيد منها، لأنها ترتاح عند أطباء معينين غير متعاقدين مع نقابة المعلمين. تشكو السيدة ملك من الضغط والسكري، وتتناول دواء دائماً، وتقول أنها ستفكر بالعودة للإفادة من بطاقة.

أخيراً، تذكر المعلّمة في خاتمة مسيرتها التعليمية المكانة الاجتماعية والاحترام الذي نالته بين الناس، واكتسابها للعديد من الصداقات، ثم تصمت قليلاً لتضيف أنه لم يبق أي من هذه الصداقات تقريباً، فغالبية من تعرفهم إما سافروا أو تُوفُّوا أو انقطعت أخبارهم عنها.