لم يتم اعتماد نقطة انطلاق للانتفاضة الفلسطينية الحالية حتى الآن، إذ يمكن أن تكون بدايتها مع المواجهات التي دارت في المسجد الأقصى عندما حاول فلسطينيون، مقدسيون وغير مقدسيين من أبناء الضفة الغربية والأراضي المحتلة عام 1948، التصدي لقوات الاحتلال التي سعت الى اقتحام المسجد أواخر شهر رمضان. كما يمكن أن نعتبر البداية مع هبة باب العامود في القدس بداية شهر رمضان، حين نشر جيش الاحتلال الحواجز والموانع المعدنية في الساحة بهدف التضييق على المقدسيين، وتحديداً أبناء البلدة القديمة باعتبار أن ساحة باب العامود مُتنفَّسُهم العام الرئيسي وشبه الوحيد. كذلك يمكن ربط البداية بحملة الصمود والتضامن من ومع أهالي حي الشيخ جراح المقدسي، الذين يتعرضون لحلقة جديدة من سلسلة سياسات التطهير العرقي عبر طردهم من منازلهم وإحلال عائلات مستوطنين يهود مكانهم. ربما يكون تعدد نقاط البداية المحتملة واحداً من الاختلافات بين هذه الانتفاضة وما سبقها من هبات وانتفاضات شعبية، كان لأغلبها لحظات انفجار فارقة، كذلك ربما تلعب صدفة تزامن بداية هذه الانتفاضة مع ذكرى النكبة دوراً في التذكير بأن نقطة البداية التي يمكننا اعتمادها هي لحظة النكبة نفسها قبل 73 عاماً، ذلك أن ما يجري اليوم ليس إلّا مرحلة جديدة من مراحل الصراع بين المُستعمِرين والمُستعمَرين في فلسطين، وهي تشمل هذه المرة كامل الشعب الفلسطيني على كامل الجغرافيا الفلسطينية.
انقدحت شرارة الانتفاضة الفلسطينية الأولى في الثامن من كانون الأول (ديسمبر) 1987، عند قيام سائق شاحنة إسرائيلي بدهس مجموعة من العمال العرب في قطاع غزة، وجاءت بمجملها نتيجة القمع والإذلال المُمارَس بحق الشعب الفلسطيني داخل فلسطين، ولا سيما في الضفة والقطاع والقدس. كانت تلك الانتفاضة سلمية في المقام الأول، رغم حضور المواجهات والعمليات المسلحة في بعض محطاتها، وقد ساهمت في مزيد من عودة الفلسطينيين في أراضي 48 إلى البُعد الوطني الفلسطيني عبر دعم الانتفاضة والخروج في بعض التظاهرات، وهو المسار الذي كان قد بدأ قبل ذلك طبعاً، وكانت هبة يوم الأرض عام 1976 إحدى محطاته الرئيسية.
واجه جيش الاحتلال الانتفاضة بالقمع العنيف الأمني والعسكري طيلة سنوات، ثم جاء مسار التفاوض الذي أفضى إلى اتفاق أوسلو 1993 وقيام السلطة الوطنية الفلسطينية، الأمر الذي كان يفترض أن يكون محطة على طريق عملية تنتهي بقيام دولة فلسطينية. أدرك الشعب الفلسطيني في السنوات اللاحقة عبثية العملية التفاوضية، إذ تبخرت الآمال بقيام دولة فلسطينية مستقلة حتى على 22 بالمئة من مساحة فلسطين أو على أقل من ذلك. ما مهّد الطريق نحو مرحلة جديدة متمثلة بالانتفاضة الثانية، التي كانت شرارتها في 28 أيلول (سبتمبر) 2000، عند دخول رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون برفقة حراسه إلى ساحات المسجد الأقصى. غلبت على الانتفاضة الثانية عمليات المقاومة المسلحة، فيما واجهها جيش الاحتلال بالكثير من العنف والعمليات العسكرية الكبيرة، وتم على خلفيتها بناء جدار الفصل العنصري في الضفة الغربية. وقد لعبت السلطة الفلسطينية دوراً بارزاً في إنهاء هذه الانتفاضة بعد انتقال رئاستها إلى محمود عباس خلفاً للراحل ياسر عرفات، وكان من نتائجها غير المباشرة انسحاب جيش الاحتلال من قطاع غزة وتفكيك المستوطنات اليهودية فيه. بعد الانتفاضة الثانية، شهدت الأراضي الفلسطينية هبات شعبية أقل اتساعاً وأقصر زمناً، أبرزها سلسلة الأحداث المعروفة باسم انتفاضة السكاكين بين 2015 و2017، ومسيرات العودة في غزة 2018-2019.
تتميز الانتفاضة الحالية عن سابقاتها بامتدادها من النهر إلى البحر، نتيجة الدور الرئيسي وغير المسبوق الذي يلعبه الفلسطينيون والفلسطينيات في أراضي 48، والذي يأتي تتويجاً لمسار طويل جداً من المعاناة والنضال. بقي العرب الفلسطينيون في الداخل المحتل، منذ النكبة 1948 وحتى العام 1966، يعيشون تحت حكم عسكري يمنعهم من التنقل والالتقاء ببعضهم بعضاً دون إذن من الحاكم العسكري. وكانوا طوال هذه السنوات يتعرضون للتمييز العنصري والعنف، وحتى التصفية الجسدية كما في مذبحة كفر قاسم عام 1956. حصل الفلسطينيون داخل الخط الأخضر على حرية التنقل بعد إلغاء الحكم العسكري عام 1966، لكن سياسات مصادرة الأراضي وهدم البيوت استمرّت، وهو ما فجَّرَ الأوضاع في 30 آذار (مارس) 1976، في ما بات معروفاً بأحداث يوم الأرض. وحتى اليوم، يعاني الفلسطينيون هناك من سياسات تطهير عرقي وتمييز عنصري في مختلف النواحي. على سبيل المثال، تصل نسبة البطالة بين العرب إلى 25 بالمئة بحسب بيانات المكتب المركزي للإحصاء الإسرائيلي لعام 2011، في مقابل 6.5 بالمئة في أوساط المستوطنين. ووفقاً للمكتب نفسه، فإن متوسط رواتب العرب يقلّ عن متوسط رواتب المستوطنين بما يعادل 30 بالمئة. كذلك تحظى المدن والبلدات والأحياء ذات الغالبية العربية بخدمات أقل، وذلك في شتى المجالات من تعليم وصحة ومرافق عامة وغيرها.
يضاف إلى كل هذه الظروف عامل أساسي آخر، إذ يتهم الفلسطينيون داخل الخط الأخضر سلطات الدولة الصهيونية بتسهيل ودعم انتشار عصابات الجريمة في أوساطهم، التي لقي 1500 ضحية حتفهم على يدها منذ العام 2000، ومعظم هذه الجرائم انتهت دون التحقيق فيها أو بتسجيلها ضد مجهول. واستهدفت هذه العصابات قيادات من الحركة الإسلامية التي تحظرها السلطات الإسرائيلية، ومن ذلك اغتيال القيادي في الحركة محمد أبو نجم، وهو ما يؤكد وجود صلة بين السلطات الصهيونية وهذه العصابات التي بدأت تأخذ الطابع العائلي والعشائري. ففي نتيجة مباشرة لغياب «سلطات الدولة» عن دورها في حفظ الأمن، تدخل تشكيلات بديلة تأخذ شكل العصابات العائلية، ويندفع أفراد المجتمع باتجاه هذه الاصطفافات الممزِّقة لنسيجه في غياب مشروع وطني أو مجتمعي جامع، ليقع الفلسطينيون في دائرة من العنف المتبادل بين بعضهم بعضاً، ويخرجوا من خلالها غضبهم الناتج عن العنصرية والتفقير والتهميش الذي يعانون منه تحت الاحتلال والحكم العنصري.
شهدت أراضي 48 احتجاجات على أعمال العصابات قبل هذه الانتفاضة، وهي مسألة حاضرة بقوة في فعاليات انتفاضة اليوم. ويمكن أن تكون هذه العصابات سلاحاً ذا حدين، فبقدر ما يمكن استخدامها لصالح الاحتلال، فإنها يمكن تنقلب إلى مجموعات مقاومة، خاصة في حال وجود مجتمع مدني قوي، وهو ما يتوفر لدى الفلسطينيين في الداخل المحتل. لم يحدث هذا حتى الآن، لكن بوادره بدأت بالظهور يوم أمس مع دعوات للصلح بين العائلات المتصارعة، وهي البوادر التي يمكن أن تأخذ أشكالاً أخرى إذا تصاعد العنف الصهيوني ضد الفلسطينيين المنتفِضين داخل الخط الأخضر، الذين استطاعوا فرض معادلة جديدة عبر تأجيج الصراع في المدن والبلدات ذات الغالبية العربية، أو حتى تلك التي صار الفلسطينيون فيها أقلية، كمدينة اللد التي استغاث رئيس بلديتها بعد أن خرجت لساعات عن سيطرة قوى الشرطة الإسرائيلية رغم أن الفلسطينيين فيها أقل من 30 بالمئة.
أما في قطاع غزة، حيث تتمترس المقاومة المسلحة الفلسطينية بفصائلها – وأقواها حماس، الحاكم الفعلي للقطاع – فإن الصواريخ محلية الصنع التي تم إطلاقها باتجاه أراضي 48 لم تكن تلبية لمطالب المتظاهرين في القدس فقط، وإنما أيضاً بسبب احتقان الوضع الداخلي نتيجة الأوضاع الاقتصادية والمعيشية المزرية التي يفرضها الحصار الإسرائيلي البري والبحري والجوي على القطاع، إضافة إلى النظام المصري الذي فرض حالة حصار وإغلاق للمعابر منذ الانقلاب العسكري الأخير. نتيجة ذلك، فإن 80 بالمئة من المصانع بحكم المغلقة منذ بداية الحصار، في حين تراجع معدل الإنتاج في المصانع التي تعمل إلى 20 بالمئة بسبب منع إدخال المواد الخام اللازمة وتقييد حركة الاستيراد والتصدير، كما يتدهور الوضع الاقتصادي لعمال المياومة وأصحاب المحال التجارية والورش بشكل مستمرّ. وبحسب الأمم المتحدة، فإن خسائر غزة الاقتصادية الناتجة عن عقد من الاحتلال والحصار الإسرائيلي تخطت 16.5 مليار دولار، وذلك في قطاع مساحته 365 كيلومتر مربع يقطنه مليونا إنسان، ما يعني كثافة سكانية بمقدار 5,555 نسمة في كل كيلومتر مربع. يقوض ذلك فرص إنشاء مشاريع زراعية إنتاجية قادرة على تغطية حاجة القطاع الغذائية. هذه الأوضاع التي لا يمكن احتمالها هي ما يدفع قطاعات من سكّان غزة إلى خيارات يعتبرها كثيرون انتحارية، من قبيل الدخول في مواجهات عسكرية مع الاحتلال، أو مسيرات العودة السلمية عام 2018، التي راح ضحيتها 111 شهيداً وأكثر من اثني عشر ألف جريح. في هذه الظروف، لا معنى للحديث عن تعاطف دولي تتسبب صواريخ الفصائل في خسارته، وليس من المستبعد أن يتم التوصل لاتفاق تهدئة بين حماس والاحتلال، لكن التحدي هو ألا يمسّ هذا بأشكال النضال الأخرى والمقاومة الشعبية في أراضي 48 والضفة الغربية وغزة نفسها.
لم تتأخر الضفة عن الالتحاق بالانتفاضة رغم السيطرة المزدوجة عليها من قبل الاحتلال والسلطة الفلسطينية، التي لعبت أجهزتها الأمنية دوراً في إخماد الانتفاضة الثانية وانتفاضة السكاكين من خلال التنسيق الأمني مع السلطات الإسرائيلية، وحتى اعتقال النشطاء والمناضلين ضد الاحتلال. وتلعب المستوطنات بتوزعها الجغرافي دوراً عسكرياً في الضفة الغربية، إذ تحوّل مدن وقرى الضفة إلى جزر معزولة عن بعضها بعضاً، بالإضافة إلى ما يسبّبه جدار الفصل العنصري من معاناة وإذلال للفلسطينيين، لتكون الحصيلة سياسة تطهير عرقي وفصل عنصري ممنهجة. وربما يستطيع الفيلم الفلسطيني القصير الهدية تسليط الضوء ولو جزئياً على معاناة الفلسطيني اليومية بسبب توزع المستوطنات والجدار – الذي لم يفصل بين بيوت الفلسطينيين وأراضيهم فحسب، وإنما في كثير من الأحيان بين بيوت الإخوة أو الجيران. لزيارة بيت جارك أو أخيك الذي كان لا يبعد أكثر من 100 متر، قد تحتاج في بعض الحالات إلى يوم كامل أو حتى أكثر، وذلك بحسب مزاج عساكر الحاجز الإسرائيلي. يقتضي التنويه إلى أن كثيراً من الطرق التي يستخدمها المستوطنون ممنوعة على أصحاب الأرض الفلسطينيين. تحت هذه الظروف يعيش أهل الضفة، وضدَّها ينتفضون ويواجهون مهمة مزدوجة تتمثل بالنضال ضد الاحتلال والسلطة الفلسطينية التي باتت مرتبطة بالاحتلال بشكل مصلحي فردي ضيق الأفق. لقد ساهم التنسيق الأمني بيين الاحتلال والسلطة في تهدئة الأوضاع وإيجاد مناخ مناسب سهَّل على الاحتلال والجمعيات الاستيطانية التوسع، إذ تضاعف عدد المستوطنات ثلاث مرات منذ انتهاء الانتفاضة الثانية، كما أن أعداد المستوطنين في الضفة الغربية المحتلة (بدون القدس الشرقية) زادت بنسبة 42 بالمئة مقارنة مع العام 2010.
ولكي نقول «كل فلسطين»، لا بد أن نتذكر أنه لا وجود لـ«وطن حر» إلا بـ«نساء حرّة»، وهو شعار حملة طالعات، الحراك النسوي الفلسطيني بامتياز، الذي رفض بشكل قاطع محاولة النسوية الصهيونية الانخراط فيه، وامتدّ على كامل فلسطين شأنه شأن الانتفاضة الحالية، لكنه جاء قبلها ليكون انتفاضة نسوية ضد الاحتلال الإسرائيلي والاستبداد الذكوري في آن معاً. ويبدو تأثير هذا الحراك واضحاً في هذه الانتفاضة من خلال الوجود النسوي القوي ضمن صفوف المقاومة الشعبية وفي المواجهات، وهو ما يعيدنا إلى مشاهد من الانتفاضة الأولى كانت قد غابت أو ضعفت في الانتفاضة الثانية.
هي انتفاضة كل فلسطين إذن، وليست انتفاضة القدس وحدها، ولا انتفاضة صواريخ المقاومة طبعاً. ولعلّ أبرز ما يميّزها عن سابقاتها الدور المركزي الذي يلعبه الفلسطينيون في الأراضي المحتلة عام 1948. بقي أن تفرز هذه الانتفاضة قيادتها وخطابها وبرنامجها، وهو ما يمكن أن تحمله الأيام والأسابيع القادمة. ولأنها انتفاضة كل فلسطين، فهي يمكن أن تكون تأسيساً لدفن حل الدولتين الميت فعلياً، وإحياء مشروع دولة فلسطين الديمقراطية العلمانية الواحدة من البحر إلى النهر، كحل للصراع يضمن حقوق الفلسطينيين جميعاً بما فيها حق اللاجئين منهم بالعودة، ويحول المستوطنين إلى مواطنين في هذه الدولة، وهو المشروع الذي يتناقض جوهرياً مع المشروع الصهيوني. يبدو هذا كما لو أنه سيناريو من نسج خيال لا يمكن أن يجد طريقه إلى الواقع، لكن بديله هو استمرار الصراع واستمرار النظام العنصري في فلسطين، وهو ما لا يمكن أن نتصوّر استمراره إلى الأبد.