لم أكن قد التقيت ميشيل كيلو في حياتي عندما اندلعت الثورة السورية. كنت أقرأ له مقالات وتصريحات، وكنت معجباً بأفكاره وصموده، وتضحياته لبناء سوريا دولة ديمقراطية ومدنية وتعددية؛ أفكاره التي قادته للمعتقل مرات عدة، آخرها عندما وقّعَ مع معارضين سوريين آخرين على بيان حول تحسين العلاقات السورية-اللبنانية في أيار (مايو) 2005.
بعد مرور سنة على اعتقاله، وتحديداً في حزيران (يونيو) 2006، التقيت ببشار الأسد. كان هذا اللقاء الثالث المنفرد بيننا بعد لقاءين عامي 2002 و2003، حيث تحدثنا عن الإصلاح السياسي والاقتصادي خلال «ربيع دمشق». قبل ذلك، حضرتُ مع الجالية السورية اجتماعاً مع الأسد لدى زيارته لندن في نهاية 2001. وقتذاك، كنت من الداعمين له: رئيس شاب، يتكلم عن الإصلاح السياسي والاقتصادي، وتزوّج أسماء الأخرس التي كانت تعيش في لندن وبدت أنها عصرية بثقافتها الغربية. كما كنت من مؤسِّسي الجمعية السورية-البريطانية.
عندما ذهبت إلى دمشق للقاء الأسد في العام 2006، حظيت باستقبال رسمي، ثم توجّهت للاجتماع به في قصر الشعب، على عكس الاجتماعين السابقين اللذين جريا في جبل قاسيون.
في البداية، كان الاجتماع ودياً ودافئاً. سألني عن لندن، وعن رأيي بالسفير السوري هناك سامي الخيمي، قلت له إن الخيمي ممتاز ومحبوب من الجالية السورية. فردّ علي: «نعتبر أن أي رجل أعمال ناجح هو سفير، وأنت لك دور أهم من السفير كي تعمل على توضيح صورة سوريا وتتكلم عما يحصل فيها أمام الرأي العام البريطاني». هنا، تشجّعت وعرضت مقالاً في صحيفة هيرالد تربيون كنت قرأته في الطائرة في طريقي لدمشق، عن اعتقال ميشيل كيلو بعد توقيعه البيان عن العلاقات السورية-اللبنانية. قلت: «كسفير، يصعب عليّ أن أدافع عن اعتقال صحفي أو مدافع عن حقوق الإنسان بسبب مقال أو بيان». فوراً تغيّر جوّ الاجتماع، وانتقد ميشيل قائلاً إنه «عميل لتيار المستقبل ولدى المخابرات أدلّة على ذلك».
رددت: «هذا كلام المخابرات، ربما هناك كلام ثانٍ، ودكتور أنت كنت تتحدّث عن الإصلاح والتعددية»، فردّ بما معناه أن ثمة فلتاناً في البلد، وأن الديمقراطية تحتاج إلى أجيال، وأنني أعيش في برجي العاجي في الغرب ولا أعرف حجم المؤامرات والضغوطات التي تتعرّض لها سوريا. وطلب مني التركيز على الاقتصاد وليس على السياسة، التي لها أهلها.
وبعد سنتين، التقيت بمسؤول سابق في أوروبا، وقال لي «الرئيس لا يزال مزعوجاً منك»، وإنني لو زرت دمشق فلأذهب لأصدقائي مثل ميشيل كيلو، الذي كان قد أُطلق سراحه حينها. وقتذاك، أيقنت أن الرغبة في الإصلاح غير متوفرة أبداً.
في الواقع، لم أتحدث مع ميشيل كيلو إلى حين خروجه من سوريا، إذ دعمنا سوية الدكتور برهان غليون رئيس المجلس الوطني، ثم عقدنا اجتماع الائتلاف الوطني السوري في باريس، قبل إعلانه في الدوحة في العام 2012، وأسّسنا المنبر الوطني الديمقراطي في العام 2013.
أذكر كيف اتّصل بي مسؤول عربي لأتوسّط لدى ميشيل كيلو ليتوقف عن انتقاد تركيا، التي كانت تستضيف اجتماعاً للمعارضة شارك فيه كيلو وانتقد بشدة الإخوان المسلمين والمتطرّفين وأسلمة الثورة. كما وجّه انتقاداً حاداً لسياسة أميركا وامتناعها عن دعم الثورة في اجتماع لمجموعة أصدقاء سوريا بحضور وزير الخارجية جون كيري.
في كل الاجتماعات، كنت ألاحظ شجاعة ميشيل كيلو وعدم توانيه عن قول الحق ومناهضة الاستبداد والعمل لما فيها خير الشعب السوري. كما أنه كان صادقاً ومحبوباً حتى ممن لا يعرفه. وكنت شاهداً في العديد من المرات على عطائه وكرمه في التبرّع للسوريين والعمل على مساعدتهم، رغم ضعف إمكانياته المادية.
مثّلَ ميشيل كيلو وجدان الثورة السورية، وآمن بمبدأ المواطنة قبل العرق والطائفة والدين، وعبّر بكل إخلاص عن التيار الوطني والمدني والعصري في سوريا. ناضل وتعرّض للاعتقال، مرّات ومرّات، دفاعاً عن مطالب الحرية والكرامة.
قال لي أكثر من مرة إنه تواق للعودة إلى سوريا حتى لو كان مصيره هو الاعتقال، لكن جسمه لم يعد يحتمل التعذيب في السجون.
كان ميشيل كيلو، رحمه الله، يتقصد أحياناً التركيز على التفاؤل. هذا كان مقصوداً لأنه يريد الإبقاء على الأمل. كان جريئاً، وكان إخلاصه لسوريا مميّزاً. ضحّى لأجلها ولم ينكسر. يحزّ في نفسي أنه لم يرَ سوريا التي ناضل لأجلها، لكن وصيته الاخيرة دعوة للاستمرار في العمل المشترك لتحقيق أهدافه، وهذا أفضل عزاء له.