لا ينفكّ هذا العالم الذي نعيش فيه عن مفاجأتنا في مدى قدرته على أن يكون ظالماً وقبيحاً ومؤلماً يوماً بعد يوم. يُجبرنا ذلك أحياناً على الابتعاد عن الحيز العام وعن مشاركة قضايانا فيه، وعلى الرجوع خطوة الى الوراء في محاولة لحماية أنفسنا من الضرر الذي فرض شعوراً باللاجدوى، ولاحقاً باللامبالاة، تجاه أي قضايا لسنا طرفاً فاعلاً فيها، بغض النظر عن تأثير هذه القضايا على حياتنا. لكن تَداخُلَ الحيز العام بالخاص يُصادر حقنا بالتراجع في بعض الحالات، ويحدّ من قدرتنا على لملمة خساراتنا وانكساراتنا الذاتية والوجدانية، إذ يجعلها مباحة أمام أنواع من التوحش.

اليوم، يجد كل سوري نفسه أمام وابل من الأسئلة حول جدوى ما حدث ويحدث، وعلى كل مستويات حياته وخياراته السياسية والاجتماعية والفكرية، وكل ما هو مرتبط بمصيره كشخص وُلِدَ في بلد يحكمه رئيس دموي، جعل من مأساتنا كابوساً يلتصق بنا مدى الحياة. وأمام كل هذا نجد أنفسنا، نحن المتضررين بشكل مباشر، أمام تحديات أكبر من قدراتنا على تجاوزها أو التعامل معها، خاصة فيما يخص نقاط ضعفنا المتعلقة بفقدان أفراد من عائلاتنا، والتعقيدات التي تمنعنا من معرفة مصيرهم. يجعلنا ذلك عرضة لشتى أنواع الاستغلال التي نواجهها بأدواتنا المحدودة، في ظل غياب برامج ومشاريع تدعم الأهالي لمواجهتها، وهو الأمر الذي تعرضتْ له عائلتي مؤخراً، وحرَّضني على كتابة هذا المقال للحديث عن موضوع الابتزاز العاطفي والمالي الذي تتعرض له عائلات المفقودين بشكل يومي.

ابتزاز عاطفي ومالي في قضية سمر

اختار حسن السويدي، وهو اسم وهمي على الأغلب، مسنجر فيسبوك ليتواصل مع أختي، مدّعياً في البداية أنه فاعل خير يعرف مكان وجود أختي الصغيرة سمر، المختطفة مع صديقها محمد العمر لدى تنظيم داعش منذ العام 2013 في مدينة الأتارب في ريف حلب الغربي، والتي لا نعرف عنها أي معلومة حتى الآن.

قال السويدي إنه يريد فقط أن يطمئننا أنها على قيد الحياة، وأنها متواجدة في سجون أحد الفصائل الإسلامية التابعة لداعش داخل سوريا، وأن عناصر داعش قاموا بتسليم معتقلين كانوا لديهم لهذا الفصيل بعد التضييق عليهم وهزيمتهم منذ أكثر عامين.

قد يكون الخبر جيداً للوهلة الأولى، إلا أنه بالنسبة لنا كعائلة سمر كان أشبه بقنبلة فجّرت كل ما في بداخلنا من خوف وأمل وحزن وألم، ومن مئات المشاعر المتناقضة التي ما تزال تجتاحنا حتى الآن.

حاول السويدي إقناعنا أنه يعرِّض نفسه لخطر التصفية بإرساله لنا أخبار سمر، وأنه فقط يريد لنا أن نعرف أنها على قيد الحياة، وأنه حصل على هذه المعلومات من ملف سمر عند تسليمها من قبل داعش للفصيل. وقد قال إنه ينتمي لهذا الفصيل، لكنه رفض ذكر اسم الفصيل أو أي معلومات عنه.

أختي التي اختار السويدي التواصل معها هي أم لثلاث أطفال، قُلِبت حياتها رأساً على عَقِب، واجتاحتها مشاعر كسرت قوتها ودمّرتها، وبدأت تتوسله من أجل معلومات وتفاصيل أكثر عن سمر، فأخبرها أنها فاقدة للذاكرة، وأنها موجودة في سجن سري تابع للفصيل الذي لا نية له بالإفراج عنها.

سيناريو محكم  

بدأ السويدي خطته بابتزازنا عاطفياً، وتحميلنا مسؤولية وجود سمر حتى الآن في السجن بسبب «عدم سؤالنا عنها وإهمالنا لملفها» كما قال. وقد أراد أن يصلنا شعور بأن نيته فعلاً هي «فعل خير» من خلال إصراره المتكرر على إنهاء الحديث عند هذا الحد، وذلك بذريعة أنه يعرّض نفسه لخطر القتل والتصفية، وخاصة عندما طلبنا منه دليل فيديو أو صورة تثبت صدقه. أخبرنا السويدي باستحالة تنفيذ هذا الطلب، بسبب وجود كاميرات مراقبة في كل متر في السجن الذي توجد فيه سمر.

لاحقاً، في اليوم ذاته، بدأ السويدي بالإشارة الى أنه يستطيع إخراج سمر عبر إقناع «الإخوة» بالتفاوض على مبلغ مالي. يوحي السيناريو الذي رسمه السويدي فعلاً أن عملية الابتزاز هذه مخطط لها بعناية، فالتسبيق علينا بفكرة أن سمر فاقدة للذاكرة ما هو إلا ليقطع الطريق على طلب أي دليل عبر سؤال يمكنها هي فقط الإجابة عليه، بحيث نعرف من خلال ذلك أنها فعلاً على قيد الحياة.

كانت خطة السويدي لتسليمنا سمر تقتضي إعطاءها دواء يغيّبها عن الوعي، فيضطر الفصيل لنقلها إلى مشفى في الريحانية في تركيا، ومن هناك نستطيع نحن استلامها. وقد طلب منا لمساعدته في إنجاح خطته أن نسأل عن دواء له هذا التأثير، دون أن يشكل خطراً على سمر، بالإضافة إلى كيملك مزور (بطاقة حماية مؤقتة تركية)، أو جواز سفر عليه معلومات سمر أو أي أحد يشبهها بحيث تستطيع من خلاله البقاء في تركيا. أخيراً، طلب مبلغاً قدره خمسون ألف دولار تُدفع في مكتب حوالات كأمانة قبل يوم من الموعد المحدد لإخراج سمر من سوريا. هذا المبلغ، حسب ما ادعى، سيُدفع لـ«الإخوة» المسؤولين عن ملف سمر لدى الفصيل مقابل السماح لها بالخروج إلى تركيا للمعالجة. بعدها سألَنا إن كنا قادرين على استلام امرأة أخرى قد تخرج مع سمر كمرافقة، وهي أيضاً حسب روايته معتقلة، والفصيل ليس مهتماً بمصيرها بعد وصولها لتركيا.

مواجهة الابتزاز

قد يوحي هذا السيناريو لأي متابع بأنه خطة لعملية احتيال وابتزاز، لكنه كان بالنسبة لنا مثل انفجار ملايين البراكين من المشاعر المتضاربة في وقت واحد. شعرنا أننا أمام فرصة قد تكون حقيقية لإنقاذ سمر من الجحيم، رغم كل الشكوك في رواية السويدي، إذ لم يستطع أحد منا تحمّل مسؤولية إيقاف التفاوض والحسم بأننا نتعرض لعملية ابتزاز.

وفي محاولة منا لحماية العائلة من هذه التجربة وقسوتها، أرسلت أختي رسالة للسويدي موضحة فيها أننا لن نقوم بدفع أي مبلغ إلا في حال حصولنا على فيديو تظهر فيه سمر وبتاريخ حديث، أو إرسال ملف سمر لدى الفصيل الذي ادعى أنها في سجونه. وطلبت منه ألا يتواصل مع أحد بعد الآن دون تحقيق هذه الشروط، وأننا من سنقوم بالتواصل معه من حسابي أنا بعد أيام، ثم قامت أختي بحظره على فيسبوك.

تابعتُ التفاوض مع السويدي بتكليف من العائلة، وبعد استشارة صديقَين أشعر بالامتنان والعرفان لهما، هما الصديق محمد العبد الله والصديق دياب سرية، اللذَين كانا معي في كل التفاصيل، وقدّما لي الدعم اللازم للتأكد من كل ما يدعيه السويدي، بالاستناد إلى خبرتهما في هذا الملف.

كانت إحدى أكبر التحديات بالنسبة لي هي ألّا يقوم السويدي بالتواصل مع والدتي، التي هي في الأساس مهشمة المشاعر بسبب تغييب سمر، خاصة أن عملية الخطف حدثت أمام عينيها، وأن حياتها ما تزال تتمحور حول تلك الدقائق.

لم يكتفِ السويدي بمحاولة فرض شروطه علينا، بل أراد الاستمرار بالضغط العاطفي علينا من خلال محاولته مراسلة أختي الثانية ووالدتي، إلا أننا استطعنا بأعجوبة حذف الرسالة من حساب والدتي وحظره قبل أن تقرأ الرسالة، التي كان يحاول فيها أن يوحي لها أنه كان أمامها فرصة لاسترجاع سمر، إلا أن أخواتها أفسدنَ الموضوع.

أخيراً أرسلَ السويدي لنا ما قال إنه ملفّ سمر، الذي أرسلتُه بدوري فوراً إلى محمد ودياب، وتبيَّن معنا بشكل واضح أن الملف مزور لاحتوائه على أخطاء املائية هي ذاتها ارتكبها السويدي سابقاً خلال محادثاته معنا، بالإضافة إلى الختم الذي تم وضعه على الملف، المختلف تماماً عن الختم الذي تستخدمه داعش في أوراقها حسب ما سُرِّب منها، وهو ما دلّنا على أن الملف مكتوب من قبل السويدي نفسه.

 

كان هذا الملف هو الدليل القاطع بالنسبة لنا على أن المدعو حسن السويدي هو مجرّد مجرم يقوم بمحاولة ابتزازنا من أجل المال. وقد أرسلتُ له قائلةً إن الملف غير مقنع، وطلبتُ منه التوقف عن التواصل مع عائلتي، وأنه إن كان لديه أي فيديو يثبت صدقه، يمكنه إرساله لي وعندها نستكمل التفاوض، مؤكدةً أنني المخوَّلة من العائلة بالتواصل معه حول موضوع سمر. إلا أنه أراد مرة أخرى ابتزازنا عاطفياً وإشعارنا بالضعف من خلال القول إننا لسنا نحن من نضع الشروط، ولسنا في موضع قوة أصلاً لنطلب إثباتاً أو دليلاً، وإن الموضوع لم يعد للتفاوض لأن «الإخوة» لم يعد لديهم رغبة في استكماله.

أخيراً، بسبب إصراري على إرساله دليلاً يحسم وجود سمر لدى الفصيل قبل متابعة التفاوض، أيقن السويدي أننا لن نخضع لابتزازه، وقام بإغلاق صفحته أو حظري منها ولم يتواصل معنا مجدداً بعد ذلك.

الخوف وفقدان الشعور بالأمان

لا يتوقف هذا النوع من الابتزاز فقط عند الألم والمشاعر المتضاربة التي اجتاحت عائلتي وهزّتها، بل يتجاوز ذلك إلى رعب حقيقي، استرجعتُ فيه الشعور نفسه الذي كان ينتابني من الخوف من اعتقال أو اختطاف أي فرد من عائلتي في سوريا. على الرغم من عدم منطقية هذا الشعور الآن، كوننا جميعاً نعيش في أماكن آمنة، إلا أن السويدي فعلاً انتهكَ شعورنا بالأمان.

من جهة أخرى، أشعر أنني كنت محظوظة بوجود أصدقاء ساعدوني وعائلتي للنجاة من الوقوع في شباك السويدي، غير أن آلاف العائلات الأخرى تقع ضحية الابتزاز العاطفي والمالي، ولا تجد من يدعمها ويقدم لها معلومات كافية تُجنّبها أن تكون ضحية مرة أخرى.

الغموض حول مصير المختطفين لدى تنظيم داعش، خاصة بعد إعلان القضاء عليها من قبل التحالف الدولي وحليفه على الأرض قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، يجعل معركتنا أكثر تعقيداً. نشعر نحن أهالي المختطفين على يد داعش أن كلاً من التحالف وقسد لم يضعوا معرفة مصير المختطفين أو سلامتهم على أجندتهم أثناء عملياتهم العسكرية. وقد تم استهداف مواقع محتملة لسجون داعش مرات عديدة دون أي اعتبار لحياة من في داخلها، وحتى بعد انتهاء المعارك واحتجاز الآلاف من مقاتلي داعش وعائلاتهم، لم تُظهِر القوى التي تعتقلهم أي اهتمام جدي بالتحقيق معهم حول المختطفين، بل على النقيض تماماً، إذ تقوم قسد بإطلاق سراح مقاتلين سابقين في التنظيم بموجب واسطات عشائرية أو صفقات واتفاقات لا نعرف عن خلفياتها شيئاً، ولم يسبق أن سمعنا أنها شملت معلومات عن مختطفين لدى التنظيم، رغم إيماننا نحن العائلات أن السجون التي تحتوي عناصر وقادة داعش قد تكون بنكاً من المعلومات، وأن التحقيق معهم قد يساعدنا على معرفة مصير أحبتنا، أو معرفة مواقع محتملة لسجون سابقة أو مقابر جماعية كانت داعش تدفن فيها من تقوم بتصفيتهم. وبالإضافة إلى التحالف الدولي وقسد وأدائهم المحبط في ملف المختطفين، نجد أيضاً أن الدول التي استرجعت مواطنيها الذين كانوا يقاتلون في صفوف داعش، لم تكن مهتمة هي الأخرى بالسؤال عن مصير المختطفين السورين أثناء التحقيق معهم.

قد يكون كل هذا الخذلان المتكرر الذي يتعرض له الأهالي، أو حتى الناجون، من آلية معالجة ملف المفقودين على المستوى الدولي والمحلي، هو ما أفقد كثيرين منهم الرغبة بالتواجد في أي فضاء عام يخص هذه القضية، خاصة بعد تداول الملف كورقة ضغط سياسية بين الأطراف المتنازعة في سوريا، وكثرة الجهات المتورطة في عمليات الاعتقال والخطف والتغييب القسري، الذي حوَّل المطالبات بكشف المصير وتحمُّل المسؤولية إلى اتهامات تتبادلها الجهات العسكرية والسياسية المتنازعة وداعموها.

على الجانب الآخر، لم يكن للاهتمام الكبير بالمفقودين عند المنظمات الدولية والمحلية العاملة في سوريا الأثر المرجو، كما أن أغلبها لم يكن مهتماً بإشراك الأهالي في خطط العمل، ولم يأخذ احتياجاتهم بعين الاعتبار، مما أدى مثلاً إلى غياب مشاريع تدعم الأهالي وتخفف العبء عنهم عند مواجهتهم لمواقف كالاستغلال أو الابتزاز العاطفي والمالي. هكذا بقيت معالجة المنظمات لملفات المفقودين ناقصة، إذ إنها لم تتضمن أي استراتيجية واضحة لحماية العوائل من مواجهة حوادث مشابهة، حتى لو كان ذلك على شكل «برامج توعية»، أو حتى على مستوى مشاركة البيانات والتجارب الموجودة لدى كل منظمة مع باقي المنظمات.

واقع هذه المنظمات، بالإضافة إلى سلوك التشكيلات السياسية وسلطات الأمر الواقع التي تطرح نفسها كبديل عن نظام الأسد، يجعلنا اليوم في حاجة ماسّة إلى طرح هذا الحوار على المستوى العام، وتقييم أدائهم وحثّهم على بذل جهد أكبر، علّنا ننقذ أحبتنا من الجحيم أينما كانوا، أو على الأقل نقف إلى جانب الأهالي في معاركهم اليومية لمعرفة مصير أحبابهم.