ليس انتصار الأسدية مضموناً حتى اللحظة، ولهذا بالتحديد يعتبر كثيرون أن الثورة السورية لم تُهزَم بعد. لكننا لا نستطيع اليوم أن نتصوّر وقائع تكون الثورة قد انتصرت حال وقوعها، في حين أن هناك أوضاعاً ممكنة تنتصر فيها الأسدية، يمكن تلخيصها في أن تستعيد قوات النظام السيطرة على كامل البلد عبر اتفاقات أو بالقوة، وتستعيد الدولة السورية علاقات معقولة مع العالم على المستويات السياسية والاقتصادية، مع بقاء الأسديين في السلطة. لا تحتاج الأسدية إلى انسحاب القوات الأجنبية واستعادة سيادتها على الأراضي السورية كي تستكمل انتصارها، ذلك أن انتصارها هو استعادة هيمنتها على حاضر السوريين ومستقبلهم، استعادة الأبد الأسدي الذي حطمه السوريون بلحم أجسادهم.
ليس كافياً أن يتم إجبار بشار الأسد وعائلته على التنحي للقول بانتصار الثورة اليوم، وإن كان كافياً للقول بهزيمة الأسدية. ليس كافياً، لأن الثورة السورية عندما قامت عام 2011 كانت تهدف إلى إسقاط النظام واستبداله جذرياً بآخر يقوم على أُسس ديمقراطية. هذا كان الهدفَ المُعلنَ المتّفق عليه بين المشاركين في الثورة، وقد بات تحقيقه مستحيلاً في المدى المنظور، حتى أن أقصى ما يمكن أن نأمله اليوم نظامٌ انتقاليٌ برعاية دولية، تتقاسمه قوى متعددة من بينها طبعاً بعض تشكيلات الأسدية السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، وجميع هذه القوى لديها سجلات إجرامية، وليس بينها قوة واحدة تتجاوز الديمقراطية عندها حدود العبارات التي تُكتَب في البيانات الرسمية. سيكون على السوريين الراغبين في نظام يقوم على أسس ديمقراطية أن يستأنفوا الكفاح في مواجهة النظام الجديد، والأرجح أنه سيكون كفاحاً بالغ الصعوبة ومفتوحاً على احتمالات دموية، يَسعُنا فقط أن نأمل أنه سيجري في ظل حدٍّ أدنى من دولة القانون، وحدٍّ معقول من الاتفاق على تجريم وتحريم القتل والتعذيب والتغييب.
وقد صعدت إلى قيادة الطور المسلّح من الثورة قوى إسلامية، بعضها سلفي وحتى قاعدي التوجهات، على نحو يدفع إلى التشكيك في مدى جدية الاتفاق على الديمقراطية خلال أطوار الثورة الأولى. لكن مع ذلك، فإنه حتى نهاية الطور المسلّح من الثورة، أي حتى الهزيمة العسكرية التي اكتملت في وقت ما بين أواسط 2016 وأواسط 2018، بقي الرجاء معقوداً عند قطاع عريض من السوريين على أن سقوط الأسدية يمكن أن يقود إلى تأسيس نظام سياسي يحتوي بُعداً ديمقراطياً صالحاً للتأسيس عليه، على نحو كان يسوّغ القول بانتصار الثورة. اليوم، لم يَعُد ثمة مسوِّغات معقولة للقول بأن تنحية بشار الأسد تعني انتصار الثورة، ولا للقول بأن ثورة 2011 مستمرة، إلّا في كلام شعري أشبه بالغيبيات والأساطير، من قبيل القول إن المعركة بين الحق والباطل مستمرة إلى يوم يبعثون. هذا ليس قولاً سياسياً، وهو لا ينفع في شيء إلا في شحذ الهمم.
وقد يقال أيضاً إن الثورة لم تُهزَم باعتبار أننا نعيش عملية ثورية تاريخية بدأت عام 2011، لها مراحل ومحطات وموجات، ولا يصحّ على ذلك القول بهزيمتها، ذلك أننا أمام فشل الموجة الثورية الأولى في إنجاز أهدافها فقط. يملك هذا القول قليلاً أو كثيراً من الوجاهة، خاصة إذا ما تأملنا في ما بدأ في الفضاء الناطق بالعربية عام 2011 ولا يزال مستمراً على شكل موجات متتابعة، أحرزت انتصارات هنا وإخفاقات وهزائم هناك، لكن هذا لا يغير شيئاً من حقيقة أن ثورة 2011 في سوريا هُزمت، أو فشلت في إنجاز أهدافها، أو أصبحت من الماضي، وأن ما نعيشه وسنعيشه في السنوات القادمة هو من آثارها وارتدادتها ونتائجها، سلباً وإيجاباً، لكنه ليس استمراراً خطّياً لها.
القول الواضح والمباشر بأن ثورة 2011 باتت من الماضي لا يهدف إلى تعذيب الذات ولا إلى استبعاد الأمل، بل إلى أن نرى واقعَنا بعيون مفتوحة، وأن نتدبّر في أساليب ممكنة لتغييره؛ أي من أجل سياسة الأمل. ولعلّ مصطلح الهزيمة يكون بالغ القسوة على النفس، خاصة عندما يُقال وفي وجدانِ قائلِه مئاتُ آلاف الشهداء والضحايا والمُغيَّبين والمُعتقَلين والمُعذَّبين، وملايين المهجَّرين والنازحين واللاجئين: هل يُعقَل أن يكون كلّ هذا من أجل لا شيء؟
فلنتحدث عن «ما بعد الثورة» إذن، بدل الحديث عن الهزيمة.
نحتاج إلى التفكير في إطار «ما بعد الثورة» لأن الانحباس في تصوُّرات عن ثورة واحدة مستمرة يعني انحباساً في زمن مضى، انحباساً في شعاراته وأدواته وتحالفاته ورؤاه، وانحباساً في فشله وفي أسباب هذا الفشل. والأهم أنه يعني انحباساً مع مؤسسات تابعة ليس لديها أبعاد تحررية من أي نوع، مثل الائتلاف وحكومته المؤقتة، ومع تشكيلات إجرامية مافيوية، مثل تلك التي تستبيح عفرين وأهلها، ومع فاشيات دينية مثل هيئة تحرير الشام. كيف يكون التعويل على انتصار الثورة اليوم تعويلاً على شيء غير انتصار هؤلاء؟ هل يمكن أن ينتصر هؤلاء أصلاً على الأسديين؟ وهل يمكن أن يكون انتصارهم انتصاراً لأي قيمة إيجابية حملتْها الثورة السورية؟
وليس القصد هنا أن ما بقي من الثورة السورية هو هؤلاء فقط، بل بقيت أشياء أخرى كثيرة، لعلّ أبرزها تجربة كفاحية استثنائية خاضها عشرات آلاف الناس، ومواصلة كثير من الثائرين والثائرات حياتهم وكفاحهم الفردي والجماعي مستنِدين إلى إرث الثورة وأحلامها. لكن غاية القول أن إطار ثورة 2011 لم يعد صالحاً لتعريف الذات ولا لصياغة التحالفات ولا لاختيار الاصطفافات، بل بتنا نحتاج أُطُراً أخرى لاستئناف الكفاح ضد الأسدية على نحو يكون فيه كفاحاً معلوم الأهداف، بما يتجاوز هدف الخلاص من قاتل متوحش هو بشار الأسد. سيكون الخلاص من بشار، بأي صيغة كانت، خبراً عظيماً ولحظة احتفالية مهيبة دون شك، وهو ممرّ ضروري لا بدّ منه إذا أردنا أن نتصور بلداً صالحاً للعيش والتقدّم في العقود القادمة، لكننا نحتاج اليوم أن نتحالف ونصطفّ حول قيم ومبادئ مشتركة، لا حول لحظة ماضية وذكرى آفِلة وهدف لم يَعُد يعني أشياء كثيرة في ذاته، وفوق ذلك بات تحقيقه مستحيلاً بقوى سورية. هل هناك من يشكّ في أن رحيل الأسد، إن تحقّق اليوم أو في المدى المنظور، إنما يتحقق بإرادة دولية لا تأثير تقريباً لأي سوريين عليها؟
أتحدّث هنا عن الأفكار النظرية الأيديولوجية التي أقصيناها طويلاً من أجل هدف مشترك هو إسقاط النظام، وعن القيم السياسية ذات البعد الأخلاقي اليومي. ما المعنى من استمرار اصطفافِ مَن يؤمن بحرية الاعتقاد والتعبير، إلى جوار من يرى وجوب معاقبة المرتدّين والمجاهِرين بالكفر؟ ما المعنى من اصطفافِ مَن يؤمن بالمساواة بغض النظر عن الجنس، إلى جوار من يدافع عن تحكُّم الرجال بالنساء؟ ومن اصطفافِ مَن يؤمن بحق الناس جميعاً في امتلاك أجسادهم، إلى جوار من يرى ضرورة تحكُّم السلطة بالأجساد بذريعة الدين أو قيم المجتمع والأسرة أو غيرها؟ ومن اصطفافِ مَن يطالب بحكم القانون واستقلال القضاء وشفافيته، إلى جوار من يجد مبرِّرات للتعذيب والتغييب والقتل؟ ومن اصطفافِ مَن يطالب بالديمقراطية، إلى جوار من يطالب بتحكيم الشريعة أو من يحرس بالسلاح شعاراته السياسية ومشاريعه التسلُّطية وصور قادته؟
أتحدّث أيضاً عن ضرورة تجاوز المنطق الائتلافي في العمل السياسي السوري المُعارِض، وتجاوز ما تركه من آثار على مستوى الثقافة السياسية، وعلى مستوى التمثيل السياسي، على ما يشرح ياسين السويحة باستفاضة. وبدلاً من المنطق الائتلافي الذي كان ابناً شرعياً لظروفه ومرحلته، آن أوان التفكير في تحالفات على أهداف وبرامج سياسية معروفة ومتفق عليها، لا ترمي جانباً كل شأن خلافي، مهما بلغت أهميته، من أجل الحفاظ على ائتلافات وتحالفات لم يعد منها فائدة سياسية تُرتجى. لم يَعُد مهمّاً أن نتحالف أو نأتلِف، بل الأكثر أهمية اليوم هو: على ماذا نتحالف؟ ولماذا نأتلِف؟ وطبعاً لا أعني ضرورة أن يكون التحالف بين متطابِقِين في كل شيء، بل أن يكون التحالف حول قيم معروفة جرى نقاشها علناً، ودون رمي المسائل الخلافية خارج السياسة والنقاش. هذا على أي حال كلام في التحالفات السياسية وكيفية عقدها، وللقول فيه مقام آخر.
كذلك أتحدّث عن ضرورة التفكير في جيل من السوريين والسوريات، ربما يبلغ عددهم الملايين، وسيكونون عماد البلد وقوته العاملة خلال العقدين القادمين، وقد تجاوزوا ويتجاوزون سنّ الطفولة منذ العام 2014، ولم يعرفوا شيئاً عن ثورة 2011 سوى أنها جاءت بعدها الحرب والدماء والتدمير، وجماعات مسلحة تفعل أشياء لا تختلف كثيراً عمّا يفعله النظام. كيف نتحدّث إلى هؤلاء اليوم؟ هل تصلح شعارات 2011 واصطفافاتها في مخاطبتهم؟ ألا نحتاج أن نقول لهم رأينا في كيف يمكن أن تصير حياتهم أفضل؟ ليس رحيل بشار الأسد جواباً كافياً على هذا السؤال على الإطلاق.
في زمن ثوري مضى، عندما خرج الملايين إلى الشوارع مُطالِبين بحقهم في امتلاك المصير والمشاركة السياسية، ردّ وحش الأسدية المنفلت بكل ما أوتي من سلاح وقدرة على القتل، وكان لا بدّ من خوض المواجهة مع شياطين الموت بأعلى قدر ممكن من الاتحاد. كنا نحتاج التكاتف في مواجهة النظام وحلفائه والباحثين عن أعذار له أو مبررات لأفعاله، بمن فيهم أولئك الذين ما برحوا منذ بانت تباشير المذبحة يمعنون في تحميل المسؤولية عنها لخصوم مرتكبيها. هذه طبائع الأزمان الثورية ومقتضياتها، لكن الزمن الثوري انقضى، ومن أبواب الوفاء له أن ندعه ينقضي بسلام وأن نودعه وداعاً كريماً لائقاً.
لم يكن مشهد عفرين، بالتزامن مع سقوط الغوطة ربيع 2018، وداعاً كريماً ولا لائقاً بحال.
نحتاج «ما بعد الثورة» من أجل كرامة الثورة وذكراها قبل أي شيء آخر، ومن أجل أن نصون بعضاً من أفضل وأكرم ما بقي منها: تراث كفاحي عظيم، ودروس يمكن أن نستفيد ويستفيد منها العالم كله، وشبكات من التضامن والتكاتف يمكن صيانتها والاحتماء بها والاتكاء عليها، وآلاف مؤلفة من السوريين والسوريات الذين تغيروا وتحرروا وامتلكوا مصائرهم. نحتاج إلى ما بعد الثورة من أجل صيانة هذا الإرث، وأيضاً كي لا تكون تضحيات الشهداء والجرحى والمعتقلين والمغيَّبين والمهجَّرين والمنكوبين من أجل لا شيء. إذا كنا متفقين على أن ثوار وثائرات 2011 قدّموا تضحياتهم من أجل الوصول بسوريا وأهلها إلى حياة أفضل، فإن الوفاء لهذه التضحيات لا يكون بتكرار شعاراتهم وأساليبهم وخطابهم إلى الأبد، بل في السعي إلى ألا يتكرر كل هذا؛ في العمل على إنتاج خطاب وشعارات وأساليب واصطفافات جديدة تحول دون تكراره.
نحتاج أن نلتفّ حول ما نؤمن به من قيم وأفكار لاستئناف كفاحنا من أجل حياة أفضل. وتزداد حاجتنا إلى التفاف كهذا لأن تحطيم بلدنا وثورتنا وحياتنا ليس شأناً سورياً خالصاً. في مصيرِ بلدنا تتكثّف صورة عن العالم وسياسات القوى التي تحكمه، وفي مواجهة هذه القوى وسياساتها نحتاج أن نُكسِب كفاحنا أبعاداً عالمية. يكاد العالم كله يحضر في سوريا عسكرياً وسياسياً، فيما يكاد شتات السوريين يحضر في العالم كلّه أيضاً. هذه كارثة، لكنها في أحد وجوهها فرصة لأن نكون فاعلين في العالم ومؤثرين في مصيره خلال العقود القادمة، ولن يسعفنا الانحباس في لحظة 2011 في اقتناص هذه الفرصة.
وليس الاعتراف بالهزيمة دعوة إلى الاستسلام بحال. الاستسلام هو القبول بأن الهزيمة والعيش تحت حكم القتلة واللصوص قدَر لا مفرّ منه، أما الاعتراف بالهزيمة، والتفكير ملياً فيها وفي ما أنتجته من ظروف، فهو شرط لازم لاستئناف الكفاح السوري من أجل عيش أكثر كرامة وحرية وعدلاً، بينما يُعيق الانحباس في ثورة 2011 هذا الاستئناف، إذ يصير معطلاً لاكتشاف مساحات الفعل الجديدة وإدراك معطيات اللحظة الراهنة. نحتاج، بكلمات أخرى، إلى تجاوز ثورة 2011 والذهاب إلى بناء القضية السورية على أُسُس أكثر اتّساعاً وجذرية، وهذا وحدَه ما يمكن اعتباره استئنافاً للثورة «بأدوات مغايرة وإيقاع مختلف ونطاق مختلف» على ما يقترح ياسين الحاج صالح؛ استنئافاً يصون كرامة ما انقضى من الثورة، ويضع ما بقي منها في سياق استمرار كفاح عموم السوريين.
لا يعني الحديث عن ما بعد الثورة القبول بالأسدية أو نُسَخها التافهة الصغيرة والكبيرة، بل يعني أن نستأنف كفاحنا بعقول مفتوحة على تغيُّرات الزمن، وقلوب مفتوحة على ذكرى الشهداء والضحايا وآلام الناجين، وعيون تُحدِّق دون أن ترمش في وجوه القتلة ورُعاتهم وحلفائهم وأتباعهم. يكاد يكون هذا كفاحاً بلا أمل، لكنه ليس كذلك، ونستطيع أن ننظر إلى 2011 كي نستعيد ثقتنا بأنه ليس كذلك. منذ عشر سنين، وقع المستحيل عندما حطّمت الحشود تماثيل الطاغية ومزَّقت صور وريثه وزلزلت أركان نظامه المخيف؛ نظامه الذي لم يفعل في مواجهة الحشود سوى ما يعرف أن يفعله: التعذيب والتغييب والقتل والمذابح وتوسيع نطاق الإبادة.
في مواجهة مُرتكِبي المذابح، وفي مواجهة سياسات دولية وأوضاع عالمية لم تمنع حدوث المذابح، لا نملك سوى الالتفاف حول قيم راسخة مشتركة تُعيننا على مواجهة الإبادة ومنطقها وأخلاقها.