كان الحديث المفتوح عن النسوية السورية – رغم الكم الهائل من المغالطات والسخرية السطحية – يُظهر اهتماماً متزايداً، ويقول شيئاً واضحاً، عن آنية الطرح، وعن أننا بشكل من الأشكال أصبحنا نخوض اليوم حديثاً عن نسويتنا كتفاصيل حياة وأسلوب عيش، وأنها ضمن أعمالنا وأفكارنا وحتى حياتنا الحميمية، وأنه لا يمكن للمجتمع تجاهلها أو تحجيمها.

شخصياً، بدأتُ منذ فترة أفكر/أكتشف كيف تتقاطع تفاصيل نسويتي مع كل شيء، وكيف تحضر بشكل أكبر في كل نقاش عن الهوية، عن الشتات، عن الثورة. تصبح النسوية بعلاقتها مع هذه الأفكار هي النقاش بعينه. ورغم ثقل الأحداث والتغيرات الكبيرة التي نعايشها، والخوض اليومي في جدالات عن الحياة والموت والعيش، إلا أنه لم يعد بالإمكان الابتعاد عن ساحة النسوية كنقاش مطروح دائماً على الطاولة، ويُعاد التفكير به، أو النقاش حوله، والتواصل معه. لذا بات واضحاً لي أن النسوية أصبحت اليوم للمجتمع، سواءً كممارسة أو اعتياد، لتخرج من أطرها كحركة نضاليّة أو فكرية أو كموجة تغيير فقط، ولتدخل بشكل مباشر في حديث المعاش اليومي.

لكن وإن كنا قادرات ضمن دوائرنا الصغيرة على إيجاد وامتلاك تقاطعات مشتركة كثيرة يمكن اعتبارها من المسلّمات، إلا أننا غدَونا نعاني في دوائر أكبر ومع شرائح متعددة من نقاش أولي ومرحلي، يصل حدّ الغوص في معنى المفهوم ومدى علاقته بمجتمعنا أو ابتعاده عنه. هكذا فإن فتح النقاش ومحاولة تسمية هذه الاختلافات والتضامنات يشكل فرصة تراكمية لهذا النضال/الحراك/الممارسة، ولنا أيضاً، نحن اللواتي في النهاية نعرّف أنفسنا كنسويات سوريات.

مقتنعةً بأهمية ربط السياق واللحظة بهذا الحراك/النضال/الممارسة، والتفكر بقدرتنا على الخوض فيه اليوم بعد عشر سنوات، وتلمُّس معالمه، قرّرتُ أنَّ أَفضل الطرق لبدء الحديث مع بعض النسويات السوريات هنا في هذه المقالة هو الغوص من الشخصي والفردي نحو العام. بالتالي، بدأت الأسئلة في المقابلات التي أجريتُها من تعريف النسويات لأنفسهن. في تعريفها الخاص لنفسها كنسوية، ركزت رولا أسد (صحفية نسويّة ومدرِّبة إعلامية، والمؤسسة الشريكة والمديرة التنفيذية لشبكة الصحفيات السوريات) على أنها نسوية لا-معيارية، ونسوية كويرية، وذلك للخروج من التصنيف نحو اللا-تصنيف. بالتالي فإن النسوية بالنسبة إليها تقوم على التغيير، ودائماً «في طور أن نصبح»، وذلك يفتح على حرية التفكير دوماً، أما عن تصنيفها لنفسها ضمن مدارس أو تيارات النسوية، فقد قالت أنها تجد نفسها أقرب لحراك النسويات الملوَّنات، ومن ضمنهن النسويات السوداوات، ما يشير للنسوية التقاطعية – مع التأكيد أنها أداة نسوية أكثر منها نظرية – ويقطع تماماً مع «الليبرالية البيضاء»، مع التركيز على أهمية السياق، والتجربة المادية، والتجربة الحياتية.

أما نسرين الزهر (لسانية، ومترجمة ومحرِّرة) فقد شاركتني تقديمها لنفسها كنسوية انطلاقاً من أن هذه النسوية «هي حساسية لعلاقات قوى أصبحت – في مرحلة ما – شبه بديهية». ومن هنا، ترفض نسرين هذه البداهة، وتركّز دوماً على أن تزيد حساسيتها لهذه العلاقات الظالمة جداً للنساء. في الحديث عن التقارب مع مدارس أو تيارات نسوية، رأت بأنها أقرب لنسوية كونية ناقدة وغير مقيَّدة، وذلك منبثق من إيمانها بالظواهرية – أي الانطلاق من الإحساس المرافق للمعاش ومن الجسد- لاستنباط الأفكار النظرية، وهي بذلك خليط من نسوية كونية ونسوية كويرية، رغم اعتراضها على بعض التفاصيل في كلّ منهما، وبالتالي فإن تعريفها لنفسها منطلق من المعاش، حيث إن وجود الإنسان الخالي من التناقضات برأيها «يكاد أن يكون فاشيّاً».

بدورها، كانت رند صبّاغ (صحفية، وباحثة وأخصائية بالمحتوى النسوي) أكثر اهتماماً بتقسيم المفهوم، وإعادة صياغة تعريفها الشخصي كنسوية. فهو في الأساس، بحسب صبّاغ، مبني على النسوية كحالة «فطرية»، بما تعنيه من وضوح وأحقية للقضية، وإن كانت تفاصيلها ما زالت تتكشف. صبّاغ تجد النسوية بفطريتها «هي حجر الأساس لأي تعريفات شخصية لاحقة، أو الثابت في هذه العلاقة»، وتشير إلى أن التحولات في التجارب الحياتية والشخصية والسياسية وغيرها عامل أساسي في بلورة هذه التعريفات والخوض فيها. حملها لصفة المهاجرة/اللاجئة اليوم، والقادمة من ذلك المكان في العالم، جعلها تخوض بشكل أكبر بالنسوية التقاطعية، والنسوية العابرة للأوطان والحدود، وصولاً إلى اللا-معيارية، لأنها عابرة للجندر والتصنيفات.

ثالث النقاط التي ناقشتها صبّاغ هي التغيير المستمر، فالمعرفة والتعاريف تتغير بتغيرنا كل يوم، وتجد لنفسها صيغاً وأفقاً مختلفاً ضمن تفكير أكثر عمقاً. بالتالي فإن الثابت الأساسي بالنسبة لها هو النسوية كمبدأ فطري تدافع فيه المرأة عن كونها كائناً كاملاً، لديه جميع الحقوق والواجبات التي من المفترض أن يتمتع بها الرجل. ورغم تلاقي هذا المبدأ مع حقوق الإنسان بشكلها الفضفاض، إلا أنه النسوية تتميز بحساسيتها الجندرية، ووعيها للامتيازات الذكورية وعدم التساوي في الفرص، وغيرها من العوائق الهيكلية وغير الهيكلية التي تقف في وجه النساء. هي نسوية مبنية على الحرية والمساواة والعدالة، وموجهة بشكل أساسي ضد النظام الأبوي الذي تسعى في نهاية المطاف إلى إنهائه، وهو ما يمكن تصنيفه بالنسوية الراديكالية.

من جهتها ناقشت نسرين ح. (باحثة نسوية) نسويتها بناءً على مراحل تطور رؤيتها الشخصية، منوهةً إلى تعرفها على مفهوم الجندر قبل التعرف على النسوية. فهي كانت ترى لفترة أن كلمة «نسوية» تكاد تكون إقصائية، فصارت تعرف نفسها على أنها «جندرية لا نسوية»، وهو ما يعود برأي نسرين ح. إلى جيل معيَّن من النسويات «كُنَّ نسويات إقصائيات»، على حسب تعبيرها، «ويمكن نسبهن إلى نسوية يسارية تضع معايير ما للمرأة كي تكون نسوية»، في حين أنها كانت ترى المشكلة الحقيقية في المجتمع ككل وموقعية المرأة داخل هذا المجتمع وضمن القانون، «ولحل هذه الإشكالية لابد من فهم الأدوار والمواقع للرجل والمرأة في المجتمع دون إقصاء للرجل». من خلال عملها مع النساء اللاجئات في لبنان والدخول في المجال الأكاديمي، أخذت تتوضح لها «النسوية كقوة»، فهنالك أفعال ونضالات نسوية تخرج من نساء حتى لو لم يعرّفن أنفسهن كنسويات، وبالتالي تنبع النسوية بالنسبة لنسرين ح. من الأرض، إذ يمكن للحراكات النسوية أن تخرج من المطالب المجتمعية بعيداً عن المصطلحات المفاهيمية.

من تلك الانطلاقة في النقاش المتبادل، بدت استعادة الحديث حول النضال/الحراك/الممارسة النسوية السورية مَعيناً لا ينضب، لما له من زوايا متجددة للنقاش والتفكير. وعلى الرغم من كونه شائكاً ومعقداً وحذراً، إلا أنه حديث مشروع وملحّ، بل وحاضر بكلّ صياغاته، حتى أنّ التعارضات على اتساعها تصبّ في النهاية في النهر نفسه، وتطبعه بألوان وأشكال مختلفة اختلافَنا نحن كأفراد، وتصبغه أيضاً بطموحاتنا وأفكارنا، ويصبح التحرك المستمر في تلمس معالمه حيوياً ومعاشاً في حين، ومتصلاً منفصلاً مع كل الأفكار الأخرى الحاضرة على ساحة المجتمع المدني السوري حيناً آخر، حيث تصبح هذه النضالات ممارسة وأكثر فاعلية كمحرك يقبع في اللب دوماً، ويمكن تتبعها ضمن صيرورة مستمرة كان لها إرهاصاتها حتى ما قبل الثورة.

النضال النسائي في ظل البعث

بعد سنوات من الركود في سوريا، بدءاً من أواخر الثمانينات حتى العقد الأول من الألفية الجديدة، كان النضال/الحراك النسائي السوري – الذي تمت «مأسسته» واحتوائه عبر الاتحاد النسائي بداية الستينات – قد خرج من الصورة تماماً، ليقتصر حضوره على بعض التجمعات والجمعيات التي رفضت الانخراط ضمن الاتحاد، وخاضت حملات على صعيد قانوني مثل رابطة النساء السوريات، وحملة «جنسيتي حق لي ولأسرتي»، كما برزت أيضاً على الساحة شخصيات نسائية مستقلة نشطت بمثابرة وكفاءة، مثل د. جورجيت عطية والمحامية دعد موسى ود. مية الرحبي وغيرهن (كما ورد في تقرير الأمم المتحدة «تاريخ الحركات النسائية في العالم العربي»). هكذا كانت هذه الأنشطة والحركات، سواءً في سياق قانوني أو في سياق مكافحة العنف ضد النساء، تدور في فلك محفوف بالمخاطر ضمن حرية نسبية في حال كانت المواضيع بعيدة عن الحريات السياسية. وعليه يمكن عدّ محدودية النضال النسائي في تلك الفترة أمراً مبرَّراً ومفهوماً، بسبب اندثار أي مظهر من مظاهر المجتمع المدني في البلاد في ذلك الوقت، في ظل منع الأحزاب والجمعيات، وتطبيق قانون الطوارئ والأحكام العرفية، والمحاكم الاستثنائية.

ربما كان من الأصح تسمية الأنشطة في تلك الفترة من الزمن، وعلى اختلافها، بالنسائية لا النسوية، ونقصد هنا النسائي بما هو مبني على النوع البيولوجي، أي نشاطات قادتها نساء لمصلحة النساء، وبذلك نفرقه عن النسويمن أجل تناول أوسع لهذه القضية، انظري القضية كتاب شيرين أبو النجا، نسائي أم نسوي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مكتبة الأسرة، 2002. بما هو حركة وعي فكرية تستند إلى الاعتقاد بأن المرأة مظلومة أو محرومة مقارنة بالرجل، وأن اضطهادها بأي طريقة هو غير شرعي أو غير مبرر، ذلك حسب تعريف قاموس ستانفورد للنسوية. وهكذا يمكننا أن نقول إن النسوية تتضمن النضال النسائي ولكن العكس غير صحيح.

النضال النسوي السوري المعاصر في العقد الأخير 

كل هذه الإرهاصات والنضالات التي تمّ ذكرها فيما سبق كانت حاضرة مع انطلاقة الثورة السورية، والتي شكلت بدورها لحظة مهمة لنواة تفكير حول المجتمع المدني السوري، بما يشمله ذلك من أفكار وتنظيرات، ومن ضمنها استعادة تعريفاته كساحة الحياة السياسية الوسيطة بين الدولة والأسرة، مع مراعاة خصوصية السياق السوري المتمثلة في غياب فاعلية الدولة أو حتى حضورها كفاعلية سلبية، وازدياد الاحتياج المتبادل مع الحاضنة الأهلية.

كانت للنسوية في هذا السياق فرصة تفكير وحضور واضحة، حيث سارعت النساء إلى إعادة تشكيل تموضعاتهن ضمن المجتمع، لتتزامن الثورة على النظام مع تصاعد وازدياد في تواتر الثورات الفردية على مفاهيم المجتمع التقليدية، مثل عمل المرأة، حقوقها، استعادة صوتها، حقها في الفضاء العام، إلخ.

البحث الذي خاضه جميع السوريين والسوريات عن ذواتهمن ضمن المعادلات الجديدة، صار بحثاً من عدة طبقات ومستويات تقاطعية. فمن جهة هي ثورة على النظام، ومن جهة أخرى هي مساحة للتفكر بالحقوق المدنية، ومن جهة ثلاثة هي فرصة ثورة على المجتمع وتقاليده وأفكاره. في تلك اللحظة، بدا أن هنالك اتفاق بين الثائرات/الثائرين حول مفهوم الثورة بما يخص النظام، واختلافات واضحة فيما تبقى من الأفكار، بين من يطالب بتأطير ما يحدث كأزمة، أو كمطالبة إصلاحية، وبين من يقف عند حدود الثورة على النظام كمؤسسة دولة، وبين من يخوض ثورة على التقاليد التي كرسها النظام، وبين من يثور على كل السائد منطلقاً من النظام السياسي والأبوي والديني التقليدي.

بدا أن النضال/الحراك النسوي السوري يقبع في مستوى تحدث فيه كل الثورات سويةً، وأنه لا بد لمن اختارت هذه الثورة أن تكون نصيرة كل الثورات الأخرى بشكل غير قابل للتشكيك. عليه، يمكننا إذا أردنا مَوقَعَة هذه الحركات النسوية السورية ضمن خريطة التعريفات والمفاهيم المتبعة، أن نرى تقارب للنسوية السورية في ذلك الوقت مع المنحى النسوي الراديكالي الاشتراكي. أقصد هنا ما يحضر من تعريف للحركة النسوية الراديكالية التي ترى الأبوية هي أساس التمييز ضد النساء، وطالما هذا النظام وهذه القيم هي التي تحكم المجتمع، فإن المرأة لن تتمكن من إنجاز أي تغيير هام في مسيرتها نحو المساواة. وأقصد بالاشتراكي ما يحضر من مطالبات النسوية الماركسية الاشتراكية التي تعمل من أجل حل عملي في القضايا الأساسية لحصول النساء على الرعاية الصحية، وتكافؤ الفرص في التوظيف والتعويضات، والتمثيل العادل في النظم السياسية والقانونية، وحماية المرأة في إطار الزواج والأسرة، وخدمات لرعاية الأمهات والأطفال، وتأمين وتوسيع نطاق الحقوق الإنجابية والحريات، وإعادة تشكيل القوانين المتعلقة بالاغتصاب والتحرش الجنسي، والتوعية والحماية للنساء المعنَّفات، وتعليم النساء الأميّات والمهاجِرات، والعديد من المجالات الأخرى التي أهملها المجتمع الأبوي وتجاهلها.

هذا النضال/الحراك، الذي نقول هنا إنه كان ذا منحى اشتراكي راديكالي، اضطُر في لحظات متتابعة أن يأخذ سياقات مختلفة. وبما أنه نضال منخرط أساساً في الثورة وابن اللحظة، فقد تفاعَل وتعقَّد وتحرَّك مع سنوات الثورة، ثم تصاعَد تعقيداً مع تزايُد العنف والبطش ثم العسكرة والتهجير والنزوح الداخلي والخارجي. كذلك بدأ ينسل هذا النضال/الحراك خارج البلاد مع الفاعلات والفاعلين اللاجئات واللاجئين إلى البلاد القريبة في البداية ثم أوروبا أو أميركا بشكل أقل.

هكذا انتقل الحراك/النضال إلى مرحلة مختلفة صارت فيه الحراكات والنضالات أقرب للفردية أو لمجموعات صغيرة، وعلى عكس النجاة الجماعية وفكرة التغيير الجماعي والجذري ضمن مساحة البلاد بأكملها، التي كانت تنادي بها الثورة وتحاول تحقيقها. هذا بالتزامن أيضاً مع تعقُّد واقع الحال بشكل كبير، ومقتل الكثير من الناشطات والناشطين، وازدياد التضييق، وتهجير جزء كبير من الباقين/ات، صارت النجاة فردية هي الحل الوحيد للكثيرين ومرتبطة بقدرة الإنسان على الهرب من الحرب والموت.

تغيرت نوعية الخطاب النسوي السوري وآلياته، وصارت لكل منطقة جغرافية خصوصيتها وفكرها الخاص بالنضالات النسوية في طرحها بالعلاقة مع حياة الناس فيها، مع القدرة المحدودة على التنظيم والعمل بسبب البطش المتزايد والتغيرات المتسارعة الدائمة. يمكننا ذكر أمثلة كثيرة لأفعال نسوية نوعية قامت بها النساء في كل مكان وقطعة من البلاد، مُنطلِقاتٍ من التغلب على المعاش اليومي الكارثي ضمن الحرب. والأمثلة على ذلك كثيرة. وإحداها بيان ريحان وعملها في دوما، أو المؤتمر النسائي الأول في إدلب والذي خرج بمشروع «حلقة سلام»، وطبعاً المشاريع التنموية التي تستنبط الفكر النسوي حتى وإن لم تُعلن أنها نسوية بشكل صريح. وربما يعود ذلك إلى تعقد حضور المصطلح في السياق المحلي السوري، وهذا الموضوع هو من أهم التقاطعات التي سبّبها الظرف العام تجاه الحراكات النسوية السورية، خاصة مع من غادرن من النسويات خارج البلاد، فأصبحن بشكل أو بأخر ضمن ارتباط بالبيئة الجديدة وبفكرة الشتات السوري، وهكذا صارت النسوية نضالات/حراكات فردية مبنية على مساحة القدرة على الفعل، والتصالح أو التكيف مع الواقع، ومع الفاعلية على الأرض.

بدت النسوية السورية في هذه اللحظة تقارب المنحى الفرداني والليبرالي نوعاً ما، وهنا يحضر تعريف النسوية الفردانية التي تؤكد على حقوق الإنسان الفردية والاستقلالية الشخصية. هي إذاً تدافع عن حقوق المرأة على أساس حق الإنسان في الاستقلال، وتعتبر النسوية الفردانية أن التحرر هو مسؤولية شخصية، وتتجاهل أهمية أي اختلافات «طبيعية» بين الجنسين وأدوار الجنسين التي تم إنشاؤها ثقافياً واجتماعياً باعتبارها غير ذات أهمية بالنسبة لمسألة المساواة بين الجنسين، لأن المرأة قبل كل شيء بشر. كذلك يحضر من النسوية الليبرالية تصُّورها للحرية على أنها استقلالية شخصية، واستقلال سياسي، مع التأكيد على أن الدولة هي العدو الأول، والضرر المؤسسي للمرأة موجود فقط في ظل اضطهاد تُجيزه الحكومة. هذه المقاربات، مع منهجيات نسوية معيارية غربيّة، لا تجعلني أبداً غافلة عن التأكيد أنه، حتى وإن استطعت رسم تغير منحى النضال/الحراك النسوي السوري، فلا يجب نقد هذه النسوية بمقارباتها، فهي تتقارب مع هذه المفاهيم وتتشابه مع بعض خصالها، لكنها تبقى ابنة سياقها وثورتها. هناك تجارب مختلفة ومتنوعة تحاول الخلط والابتكار ومقاربة سياقها الخاص من وجهات نظر مختلفة، وهي تحاول حتى اليوم إيجاد طرق للعمل المشترك والجماعي رغم الشتات والخطر، ورغم العقوبات الدولية التي أضرت تمويل ودعم العمل المدني المشترك بين الداخل والخارج.

بشكل عام، هناك كثير من الحراكات والتجمعات والمؤسسات التي تعمل ضمن كل المساحات الممكنة بين الداخل والخارج، وهي مساحات معقدة جغرافياً ومكانياً، وكذلك على مستوى القدرات. لذلك من الظلم ربط المنحى الذي أطلقتُ عليه «فرداني ليبرالي» هنا بالنقد الغربي اليوم للفردانية بوصفها الابنة المدللة للرأسمالية، دون وضع مفهوم أساسي وحاضر دوماً هو سياق النسوية السورية، والتي تعيش اليوم بلا بلاد. أعتقد أن هذا الأمر يبقى رغم الاختلافات الكثيرة في المعاش واليومي أمراً مشتركاً بين الداخل والخارج، طبعاً كلٌ ضمن البيئة والعوامل المحيطة والتجربة، ولكن بالتأكيد هنالك سقوط واضح للدولة بجميع أشكالها، وعليه ربما يمكن اعتبار النسوية السورية عابرة للقارات، وموجودة في كل مكان من هذا العالم نجد فيه رجلاً أو امرأة تعرف نفسها على أنها نسوية سورية. وربما يمكننا عبر تتبع هذه الإرهاصات في وقت لاحق تشكيل مفهوم خاص لهذه النسوية السورية بما هي عليه ضمن سياقاتها الداخلية المنفصلة وسياقها الكبير المتصل.

إذا كان ما خلُصنا إليه الآن هو تغيُّر خط الحراك/النضال/الممارسة النسوية السورية، من ميل نحو الراديكالية الاشتراكية في بداياتها، إلى اقتراب من الفردانية الليبرالية الحديثة اليوم، فإننا نطرح ذلك هنا ليخوض المراحل الذي يحتاجها أي افتراض. وبالتالي فإن الهدف الأساسي من هذا الافتراض هنا هو فتح نقاش مفتوح عن النسوية مع النسويات اللواتي قابلتهن خلال المقالة.

نقاش مفتوح عن النسوية السورية

ينطلق الافتراض السابق في جذره من معرفتنا الأساسية بأنه ليس من الضروري فعلاً تصنيف الحركات أو النضالات، ومن التأكيد أيضاً على مراعاة السياق السوري بالعلاقة مع أي تصنيف عالمي قد يكون «أبيض» قادماً من سياق مختلف ولحظة زمنية أخرى، ولا يمكن بأي شكل إسقاطه على الوضع السوري، بل يمكن الأخذ منه بما يتناسب معنا، وطرح افتراض لتشكيل معرفة عن النسوية السورية قد تجتمع في نقاط وتجارب مع نسويات أخرى من هذا العالم، وتنفرد أيضاً بما هي عليه من خصوصيتها. وإن وضعها ضمن معيارية ما هو محاولة تلمُّس لمعالمها وخلق خريطة للنظر إليها والتفكير بها، وهو ما أعتقد أنه واجب النقد الفعلي في كل لحظة زمنية، وهذا ما قادني إلى محاججة هذا الافتراض.

رأت نسرين الزهر أنه يمكن للافتراض أن يكون معقولاً إلى حد ما، مع توضيح أن حضور بعض الجوانب أوضح من جوانب أخرى في الحديث عن مقاربة النضال/الحراك النسوي السوري للمنحى الاشتراكي في بدايتها، حيث تجد الزهر أنه عبر متابعتها، يمكنها تحديد نضال حقوقي، وحقوق الأمومة وتقاطُعها مع حقوق العمل، بينما بشكل أقل الحديث عن مساواة الأجور، وبالتالي فإن هذه المقاربة جزئية، بحيث يمكن القول إنه لم يكن هنالك حديث واضح حول العدالة الاجتماعية الاشتراكية، وهذا يمكن رده إلى خلفيات وسياقات المشتغلات والفاعلات في الحراك في تلك اللحظة، مثل المشتغلات في النضال الحقوقي اللواتي كُنّ يساريات نوعاً ما. أما بالنسبة للتغير الذي حدث في خط هذا النضال/الحراك، فأيضاً تراه نسرين نابعاً من تقاطع البيئات الجديدة مع الفاعلات، وبذلك ترى أنه كانت هنالك مقاربة لمنحى ليبرالي كما يقول الافتراض، ولكن أيضاً منحى شديد الجذرية، وهي نابعة بشكل أساسي من التأثيرات الدراسية والحياتية وطبيعة العلاقات الاجتماعية للفاعلات. ورغم أنها متفقة مع الشق الثاني من الافتراض، إلا أنها طرحت فكرة أن التعمق الحقيقي في هذا النقاش يكون عبر سبر المحتوى المكتوب باللغة العربية، والذي يعبّر عن الفاعلات النسويات في هذه المرحلة، وأين يتم نشر هذا المحتوى، وكيف، وماذا يتناول؟ يمكن لهذا السبر أن يضيف دقة أكبر للافتراض، إلا أن انطباعها العام متوافق مع افتراض حراك فرداني متفاعل إلى حد ما مع البيئات المحيطة. كذلك اقترحت نسرين فكرة مَهنَنة النضال في هذه المرحلة، وتطرّقت إلى عدم الاتساق أحياناً بين نمط الحياة والخطاب، كأن يكون نمط الحياة شديد الليبرالية أو الاستهلاكية، بينما الخطاب أكثر جذرية، وتساءلت هنا عن النضال ضمن هذا الاختلاف.

أما رولا أسد فقد انطلقت في تعقيبها على الافتراض من سؤالها عن تعريف لأي حراك نسوي في العالم. وهي ترى الاهتمام بالتعريفات عبئاً يُلقى على ما أطلقت عليه العالم الجنوبي، وهو منطلق من ضغط العالم الشمالي للسؤال: من أنتمن؟ وفي حين أن الحراكات النسوية السورية ذات أبعاد مختلفة ولا تقع ضمن مفهوم واحد، إلا أن رولا تطرقت في حديثها إلى إمكانية مقاربة النسوية الاشتراكية بمعناها الاجتماعي في لحظة من لحظات بدايات الحراكات ضمن الثورة، مع توضيح أنه من المحتمل أن تكون هذه المقاربة اشتراكية/متدينة – بمعنى الإيمان – وذلك بما يتناسب مع السياق السوري للحراكات. أما بالنسبة للمنحى الليبرالي في لحظة لاحقة لهذه الحراكات، فتؤكد رولا وجود هذا المنحى داخل وخارج سوريا، بالرغم أنه لم يكن نابعاً من تفضيلات معينة، بل هو ناتج عن الاستعمار الجديد، وربطتْه بالتطورات الدولية وخاصة بما يتعلق بقطاع التنمية، وبالتالي تحوُّل الحراك إلى مؤسسات عاملة، وخضوع استمرارية المؤسسات للمفاوضات الدولية مع المموِّلين.

النقطة الثانية التي تطرقت لها رولا في مناقشة الافتراض كانت السؤال عن آليات ومحددات هذا الافتراض، فهل هو يقصد الداخل السوري وبالخارج السوري على حد سواء؟ وفي حال تضمن الخارج السوري فقط، فضمن أي سياق؟ وأي مكان؟ ومع موافقتها على الافتراض في حال تعريف الاشتراكية بمعناها الاجتماعي، والتي قد تعكس بالفعل مطالب جزء من الناس، إلا أن رولا أسد ترفض انطلاقاً من نسويتها التعميم، وتعيد الحديث عن النسوية السورية كمجموعة حراكات مختلفة، لها طبقاتها وظروفها وسياقها وهمومها التي تعاني منها، طبعاً مع رغبتها بمساحة نسوية سورية يمكن للنسويات الالتقاء فيها والتضامن معها بعيداً عن المؤسسات ومتطلباتها.

بينما ناقشت رند الافتراض منطلقةً من النسويات السوريات في الشتات، اللواتي كَوَّنَّ حسب رأيها هوية نسوية مختلفة سواءً على الصعيد الفردي أو حتى كيفية نظرهن للمجموعات. ذلك أن الشتات والمهجر خلق فرصاً وامتيازات سمحت للنسويات بالاطلاع بشكل أكبر على سياقات عالمية وإقليمية مختلفة، بالإضافة لتطوير خطابهن ونظرتهن لأنفسهن وللحراك النسوي السوري، وحتى حراكهن الفردي. ولكن في الوقت عينه كان الشتات سيفاً ذا حدين، فقد زاد غربتهن عن الواقع وعن الحركات على الأرض. تساءلت رند عن مدى فاعلية هذا الحراك الآن وهنا، وعن كيفية قياس أثره. فبناءً على أن ما يحكم آليات قياسنا في لحظة ما هو الفضاء الافتراضي، قالت أنه بمجرد الخروج من دائرة الفاعلات الصغيرة إلى دوائر أخرى ومختلفة على نفس الفضاء، يظهر خفوت صوت الحراك حتى يكاد يختفي حسب رأيها. ويعود ذلك إلى افتقاد الحراك المطلبي وغياب المقياس التي تعمل وفقه الحركات النسوية التقليدية، حيث يكون لديها فرصة النقاش أمام دولة تطالبها بتغيير أو سنّ قانون أو غير ذلك. وبالتالي فإن الحديث عن فاعليتنا كنسويات أمر صعب في ظل عدم امتلاكنا لمخرجات لنضالنا النسوي، ما يحبسه في مرحلة النضال المعرفي الذي يعني بشكل من الأشكال محاولة توعية مجتمعية، وهو عمل لا ينتهي أبداً وغير قابل للقياس في الحقيقة.

على جانب آخر، أكدت رند أن نقاشاتنا وفضاءاتنا ومنتجنا المعرفي الفكري الإعلامي كلها تطورت خلال هذا العقد، رغم ازدياد غربتنا عن الآخر، عن المجتمع الأهلي، عن السوريين والسوريات خارج دوائرنا، والذين حين يُفتح النقاش معهمن في لحظات معينة – مثل عيد المرأة – نكتشف أننا في نقاش أولي عن المفهوم نفسه.

وخلصت رند إلى أهمية التفريق بين الطموح لزيادة عدد النساء في الحركات والمطالب السورية كفعل نسائي، وبين زيادة عدد النساء النسويات، والفاعلات السياسيات. هذا مطب كبير نقع فيه مع فكرة تمثيل النساء في مطالبنا، فنحن فعلاً بحاجة إلى مثل هذه التمثيلات وإلى كوتا نسائية/نسوية، إلا أن ذلك شرط لازم وليس كافياً حين تكون المنظومة بجملها ذكورية.

رأت نسرين ح. أن السؤال الذي ينطلق منه الافتراض مطروح للنقاش دوماً، وردّت الأمر إلى أن الحراكات التي تحدث اليوم بدأت مع ثورة ضد نظام سياسي، حيث خلّفت هذه الثورة والحرب من بعدها سياقات مختلفة ونضالات متعلقة بها. وقد بدأتْ بتعليقين على الافتراض، الأول هو موافقتها على الافتراض بفكرته الأولية، أي البحث عن تصنيفات مع هذا الحراك النسوي السوري، إلا أنها أبدت تخوُّفها من اعتبار هذا الطرح غربياً، مُنطلِقةً من أن هذه اصطلاحات غربية أكثر منها اصطلاحات تشبه واقعنا نحن نساء الشرق الأوسط، أو حتى واقع النسويات الإفريقيات. وأوضحت أن فكرتها الأساسية تقول أن التغيير حدث بعد سنة 2011، وقد مثل نقطة محورية أنتجت حراكات نسوية، لكنها لم تنتج عن لحظة استقرار بمطالب اجتماعية سياسية في بلد مستقر وسياق واحد، بل ارتبطت هذه الحركات النسوية السورية بشكل لصيق بالهم الوطني والمطلب السياسي العام.

ثم عادت لتوضح في التعليق الثاني أن بعض الاصطلاحات أو المقاييس تأتي من فكرة المؤسسات غير الربحية وعلاقتها مع الممول الغربي، وفكرة التثقيف التي يتبناها، رغم وضوح جهله في سياقات الوضع السوري. وفي حديثها عن الافتراض، ومع تأكيدها أن الحراكات النسوية السورية لم تنطلق من مفهوم واحد، اتفقت نسرين ح. أن هذه الحراكات قد تكون قاربت في لحظة ما النسوية الاشتراكية أو الماركسية، ولكنها توضح أننا لا يمكن أن نُغفل النقد الأساسي لهذه النظرية التي أطّرت المرأة بمكان معين. وفي حالة النظرية الليبرالية، اتفقت مع الافتراض بأنه يمكن التفكير بمقاربات ما مع النظريات، مع ضرورة التفكير أيضاً باختلافاتنا معها أو تميزنا عنها، مع التأكيد أن الحراكات النسوية التي نشأت في سوريا وما زالت تتطور بدأتْ دون أن تلجأ لهذه المفاهيم كقاعدة، وخلصت إلى التقارب مع الافتراض من ناحية أهمية التفكير بسؤال اقتراب نسويتنا من المعيارية، وبالتالي فإن طرح الافتراض يجيب عن أسئلة تُراود الكثيرات: «أين نحن من النسوية؟».

التنوع والاختلاف في نقاش الافتراض قادنا بشكل سلس للحديث عن تموضع النسوية السورية اليوم على خارطة النسوية العالمية، وتوسيع هذا السؤال كان سبباً للاستفاضة في التشكلات النسوية السورية، وأبعادها، وقدرتها على صياغة نفسها، ثم لحديث آخر متشعب عن المستقبل. بدا النقاش – الذي يمكنه دوماً أن يستمر ويتوسع – وهو يلاحق كل التفاصيل ويربط السياقات والتشكيلات، وأن المشهد النسوي السوري اليوم غني بغنى فاعلاته وفاعليه، ويمكن الخوض فيه من زاوية جديدة كل مرة كأنه فعلاً نهر مستمر للأمام، ولا يمكن السباحة في المياه نفسها مرتين.

يمكن التفكير بجولة مفاهيمية تتطرق إلى تعريفات معيارية شديدة الغربية، وهي مرحلة نشتبك بها مع السائد لأجل الخروج منه دون الاضطرار لقفزات كبيرة تصنع صدوعاً في تطورنا الفكري حول النسوية السورية، وتساهم في جعل الأفكار والمفاهيم أكثر أُلفةً مع الواقع والمعاش. وإذا كنتُ انطلقتُ من إحساسي بأن هذا ضروري الآن، فقد زادت كل النقاشات هذا الإحساس بهذه الضرورة.

أؤمن أن إعادة التفكير والنقاش هو خطوة أولى نحو صياغة تفرُّد للنسوية السورية، ومنبع ذلك رغبة في إعادة التعريف والتفكير بـ«المجتمع السوري»، خاصة مع حضور ثقل الشتات والتهجير والنزوح، مما يجعل هذه المحاولات مُلحّة وآنية بعد عشر سنوات كاملة.

رغم ما قد يبدو عليه المشهد اليوم من شدة الدقة والحساسية، علينا أن نضيف ونؤكد أننا نعي أن البحث عن نتيجة اليوم قد يكون ضرباً من الجنون، فالنسوية السورية كما أسلفنا هي ابنة اللحظة التاريخية، وهي تعيش الآن وهنا، والتفكير بالتأكيد مستمرّ وجدلي وحيوي، وهي سمات نتفق عليها رغم اختلافاتنا ونحرص على نعيد دوماً تقليبها والبحث فيها عن الجديد.