يبدو من المهم العودة إلى الذاكرة الشخصية، ورواية الأحداث كما عاشها أصحابها عند الحديث الدائر اليوم عن ذكرى الثورة في سوريا. ذاك أن التذكر وحكاية ما حصل حق لآلاف السوريات والسوريين الذين عاشوا السنوات الماضية بأملها وقهرها، خاصة وأن الروايات المضّادة للمطالب البديهية بالتغيير والديمقراطية والحرية لم تتوقف عن محاولة غزو المشهد.
يصلح الكلام الوارد أعلاه لتذكّر اجتماع جرى في نيسان/ أبريل 2011، في منزل أحد الناشطين المعارضين في مدينة الجديدة بالقرب من دمشق، بعض الحاضرات والحاضرين كانوا عائدين من سجن دام عدة أيام أو من توقيف سريع، بينما كان هدف الاجتماع هو العمل على إصدار جريدة مطبوعة تواكب ما يحصل. لكن السؤال لماذا الجريدة المطبوعة في زمن يمكن فيه استخدام الانترنت ووسائل التواصل وتأسيس مواقع إلكترونية؟
كانت الإجابة على مثل هذه التساؤلات حاضرة في ذهن من اقترحوا المشروع. ذاك أن جريدة مطبوعة لها حمولة رمزية وحضور فيزيائي ملموس في وجه نظام احتكر الصحافة والفضاء العام على مدى أربعة عقود، ثم إن الانترنت لم يكن متاحاً في كل المناطق السورية، وعدد مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي لم يكن بالحجم الذي هو عليه اليوم، إذ كانت هذه الأخيرة محظورة، كما أن الكادر الأساسي لإصدار الجريدة من صحفيين ومصممين كان حاضراً، وإمكانية الطباعة أو التوزيع في عدة محافظات سوريّة لم تكن صعبة بوجود شبكة من العلاقات بين ناشطين/ات بدأت تقوى وتزدهر خلال الأشهر الأولى لانطلاق المظاهرات، ولا تخفى هنا الدلالة الرمزية لطباعة الجريدة في عدة محافظات في نفس الوقت، أمام نظام طالما منع قنوات التواصل بين الناس. في العموم، بدت الدوافع وراء تأسيس جريدة دوافع نضالية/سياسية أكثر منها إعلامية/إخبارية في تلك المرحلة.
لم يرَ المشروع النور بالشكل الذي خُطِّط له خلال عدة اجتماعات، إذ أفشلته حملات الاعتقال التي استهدفت الناشطين، ثمّ تغيّرت ظروف الصراع السياسي القائم، فخرجت مشاريع مماثلة استجابت للشروط التي فرضها تصاعد الأحداث من المظاهرات السلمية إلى الصراع المسلح.
هكذا، بدل أن نرى جريدة تُوزَّع في عدة مدن سوريّة، سنتعرف على ازدهار نموذج الجريدة المحلية التي تُنتَجُ في مدن وأحياء محاصَرة. أما من حضروا بعض تلك الاجتماعات، فمنهم من عاد والتحق بمشاريع صحفية أخرى، ومنهم من قُتل أثناء عمل صحفي، ومنهم من شردّه قوس المنافي الممتد من تركيا وحتى كندا.
كان يمكن للحاضرات والحاضرين في عدد من تلك الاجتماعات أن يُشكّلوا صورة لبلاد تطلب الحياة، فمنابتهم المتنوعة اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، وأفكارهم المتزاحمة، لم تكن تمنعهم من التفكير بمشاريع سياسية وثقافية تصلح لتشكل مُتّحَدَاً وطنياً جامعاً بين «مواطنين/ات»، على عكس ما تُصوّرهم كثير من المقالات الصحفية الدارجة والمؤتمرات التي تُصرّ على أن كل سوري/ة يقوم بتمثيل «مُكَوِّن».
قبل الحديث عن الصحافة، ربما يساعد الكلام السابق هُواة جلد الذات، وهُواة ربط مشاكلنا بـ«جواهر ثابتة في ثقافتنا»، على تذكّر أنّ مطالب التغيير ترافقت بمحاولات حقيقية لإنتاج مشاريع وأطر تنظيمية وسياسية موازية، كان يمكن لها أن تُثمر لو كان في البلاد سجون أقل من تلك التي ابتلعت السوريات والسوريين، أو لو سقطت عليها براميل أقل، أو لو قُدِّر لأهلها التظاهر واستنشاق الغاز المسيّل للدموع بدل الاختناق بالكيماوي، ثم لو أتيح لمن انتفضوا وتظاهروا وجازفوا أن يُنتِجوا ما يمثّلهم سياسياً قبل أن تملأ مكانَهم معارضات شديدة السفاهة والشعبوية والارتزاق.
بعد مقدمة طويلة وضرورية حول الذاكرة هذه الأيام، لنعد إلى الحديث عن الصحافة في لحظة التغيير، ولنحاول قراءة المشهد من خلال ظاهرة الصحافة المطبوعة التي نشأت في السنوات الماضية.
ثنائية المظاهرة والفيديو كوثيقة
ظهرت الحاجة الماسّة للمعلومات بعد انطلاق المظاهرات الأولى ضد النظام السوري في آذار (مارس) 2011، حيث شكّل الردّ الدموي على المتظاهرين في مدينة درعا، والذي أسفر عن سقوط أول الضحايا، نقطة التحول الأساسية لإدراك أن التغيير في سوريا لن يسلك طريقاً مشابهاً لغيرها من الدول العربية كمصر وتونس.
في السياق، جاء اعتقال الناشطين والصحفيين، ومن ثم منْع وسائل الإعلام من تغطية المظاهرات التي تصاعدت حدتها خلال الأسابيع الأولى، إضافة إلى البروباغندا الإعلامية ضد المتظاهرين من قبل وسائل إعلام النظام، لتشكّل دوافع أساسية للبحث عن مصادر بديلة للأخبار ووسائل بديلة للتعبير.
هكذا شهدت ساحة الأحداث السوريّة ظهور وسائل تعبيرية جديدة، ولأول مرة خارج سلطة الرقابة المطلقة للنظام، فلم يقتصر الأمر على محاولات التنظيم والحشد السياسي، بل ظهرت نصوص وكتابات جديدة، ورسوم وفنون الشارع، كما ازدهرت الأفلام الوثائقية لاحقاً، وعرفنا إنتاجات موسيقية وفنية وإعلامية، وبغض النظر عن اختلاف مستواها، إلا أنها ساهمت بشكل أو بآخر في صياغة مشهد بديل عن الرواية الأحادية التي انتهجها النظام، كما أنها أُنتِجَت خارج قنوات رقابته وفي الضد من روايته للأحداث منذ بداية حركة التظاهرات.
كما بدا واضحاً إدراك المتظاهرين لأهمية الوثيقة المصورة لدعم روايتهم، ما دفعهم إلى تصوير الاحتجاجات والمظاهرات الأولى، حتى باتت الثورة ومن ثم الحرب في سوريا من أكثر النّزاعات الموثقة والمصوَّرة عبر الفيديو في العالم، ولا يمكن اليوم حصر أو إحصاء الفيديوهات التي وثّقت الصراع، والتي تتناثر على شبكات التواصل وبالتحديد يوتيوب، على اختلاف أشكال هذه الفيديوهات وأنواعها وتطورها في سياق الزمن Boëx Cécile, « Figures remixées des martyrs de la révolte en Syrie sur YouTube. Réinterprétations politiques et mémoires vernaculaires de la mort héroïque », Archives de sciences sociales des religions, 2018/1 (n° 181), p. 95-118.، ما دفع كثيراً من النشطاء للقول أن الثورة في سوريا هي ثورة يوتيوب بأحد أشكالها Sahar Khamis, Paul B. Gold , Katherine Vaughn, Beyond Egypt’s «Facebook Revolution» and Syria’s «YouTube Uprising:» Comparing Political Contexts, Actors and Communication Strategies, March 28, 2012..
في المقابل، كانت رواية النظام تتحدث عن مؤامرة غربية يتعاون فيها الإرهابيون مع جهات عربية تمولهم لتنظيم المظاهرات Ibid., Khamis, Gold, Vaughn. ، ومع إحكام النظام سيطرته على وسائل الإعلام في البلاد، كان لا بد من البحث عن وسائل بديلة تشرح حقيقة ما يحصل، في ظل رواية رسمية أنكرت وجود أي حراك سياسي أو شعبي.
خلال الأسابيع الأولى للاحتجاجات، وفي ظل الحاجة الماسّة للمعلومات، ظهرت على ساحة الأحداث شخصية «الناشط الإعلامي»، وهؤلاء هم الناشطون الذين ساهموا في تصوير المظاهرات بهواتفهم المحمولة قبل أن يتطور عملهم ويصبح لديهم كاميرات، ومن ثم ساهموا بتحميل وبث الفيديوهات عبر وسائل التواصل الاجتماعي ولا سيما فيسبوك ويوتيوب De Angelis, Enrico, L’Evolution du journalisme citoyen en Syrie le cas des web radios.، إذ قاد اهتمام وسائل الإعلام بهذه الصور والفيديوهات واعتمادها كمصدر للمعلومات إلى تنامي الشعور بأهميتها في إطار الصراع الدائر. بهذا لعبت وسائل التواصل الاجتماعي في المرحلة الأولى للاحتجاجات دوراً أساسياً في بث الرواية المعارضة لرواية النظام، ما يفسّر ارتفاع شعبية فيسبوك ويوتيوب بين السوريين، حيث أتاحت خصائصهما التقنية – من قبيل سهولة الاستخدام وبث المعلومات – إمكانية كانت معدومة في سوريا للتعبير عن الرأي، وربما يفسّر هذا ارتفاع نسبة مستخدمي فيسبوك في سوريا بعد مرور أسبوعين على رفع الحظر عن الموقع في 8 شباط / فبراير 2011، إذ وصل عدد المستخدمين إلى 400 ألفمصطفى، حمزة، المجال العام الافتراضي في الثورة السوريّة، الخصائص الاتجاهات آليات صنع الرأي العام، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، قطر، 2012، ، وضمن هذا الإطار بات من الممكن لسوريين مهتمين بالشأن العام سواء كانوا داخل سوريا أو خارجها أن يتشاركوا النقاش والأفكار والتواصل خارج رقابة السلطة.
ظهور الجريدة المطبوعة
ضمن هذا السياق، وبعد ما يقارب 6 أشهر على انطلاق المظاهرات بدأت تظهر صحافة مطبوعة في سوريا. وتعدّ جريدة سوريتنا من أول التجارب الموثَّقة والتي حافظت على استمرارها لفترة طويلة نسبياً مقارنة بغيرها، فيما تعتبر كثافة تأسيس صحف مطبوعة واحدة من الظواهر المتفردة في الساحة السورية بالمقارنة مع غيرها من الدول العربية التي شهدت انتفاضات وثورات مماثلة. ويقف خلف هذا عوامل منها غياب أي صحافة مطبوعة معارضة عن ساحة الإعلام في سوريا طوال عقود، وهو ما بقي متاحاً إلى حد ما في بعض الدول العربية الأخرى. كذلك ساهم تصاعد العنف والحصار وخضوع مناطق متفرقة من البلاد إلى سلطات مختلفة في ظل انقطاع الانترنت والكهرباء إلى تنامي الحاجة للمعلومات والتواصل مع المجتمعات المحلية، فكانت العودة إلى الورق أحد الحلول المطروحة. كما ساهم توفّر الدعم المالي لمثل هذه المشاريع خلال مرحلة من مراحل الحرب في تصاعد عدد الجرائد وسنمرُّ على هذا لاحقاً.
هكذا تأسست خلال الفترة الممتدة من آذار (مارس) 2011 وحتى شباط (فبراير) 2012 ما يقارب 29 مطبوعة، بينما شهدت الفترة من آذار 2012 وحتى شباط 2013 ظهور 108 مطبوعات ما بين جريدة ومجلّة. في المقابل بدأت حركة الإغلاق بالتصاعد منذ عام 2014 DOLLET, Soazig, La nouvelle presse syrienne, Bilan, défis et perspectives, http://www.cfi.fr/sites/default/files/etude_presse_syrienne_VF.pdf، مع الأخذ بعين الاعتبار أن عامي 2013 و2014 كانا من أكثر أعوام الحرب دموية، وقد شهدا انقسام البلاد وخضوع مناطق واسعة منها لسيطرة فصائل وجهات عسكرية مختلفة، كما يتوجب التذكير بعدم قدرة ناشطين وهواة وصحفيين على الاستمرار بمشاريعهم ضمن ظروف العنف والاختطاف والاعتقال التي فرضتها الحرب، إذ تحتل سوريا منذ العام 2011 مركزاً متقدماً ضمن قائمة أخطر الدول على العمل الصحفي.
بالاستناد إلى ما سبق، يمكننا تتبع المسار الذي عاشته محاولات تأسيس صحافة مطبوعة معارضة في سوريا خلال فترة الثورة والحرب، حيث نشطت بعض هذه الصحف بشكل محلي في مناطق خرجت عن سيطرة النظام السوري، مثل جريدة عنب بلدي في درايا أو أوكسجين في الزبداني، إلا أن تصاعد وتيرة العنف أجبرت كل الصحف السورية على النزوح خارج سوريا، حيث استقرت منذ العام 2015 خارج الحدود، بالتحديد في مدينة غازي عنتاب التركية، التي باتت مركز تجمّع للناشطين والمعارضين السوريين، بالإضافة إلى المنظمات والمؤسسات الدولية وغير الحكومية الناشطة في مجال الإعلام، والتي عملت على تنظيم ورشات عمل ساهمت في امتلاك عدد من الناشطين الإعلاميين خبرات أكثر مهنية، خاصة مع طرح مسألة المهنية كهاجس أساسي مع طول فترة الصراع، وتعقد العلاقات ما بين جبهات القتال التي كانت تشهد تغيّراً يومياً. خلال هذه المرحلة بات تأسيس جريدة بداية لمشروع إعلامي يمكن أن يحقق بعض الاستقرار المادي والمعنوي لناشطين وصحفيين وجدوا أنفسهم في المنفى دون أعمال مستقرة، وهذا يفسر بعض الشيء أسباب زيادة أعداد الجرائد في الفترة الممتدة ما بين 2013 وحتى أواخر العام 2015للاطلاع على حركة تأسيس الصحف وتوقف نشاطها وأعدادها يمكن العودة إلى أرشيف المطبوعات السورية على الرابط https://ar.syrianprints.org/ .
اختفاء الجريدة
تراجعت حركة الإعلان عن تأسيس صحف ووسائل إعلام جديدة ابتداءً من العام 2016، مقارنة بالأعوام السابقة، يضاف إلى التراجع المذكور توقف العديد من الصحف خلال السنوات التالية، وبعد أن أُعلن عن تأسيس ما يقارب 300 مطبوعة في سوريا ما بين جريدة ومجلة منذ عام 2011، بقي 13 مطبوعة فقط تحافظ على صدورها وإن بشكل غير منتظم لغالبيتها في مطلع العام 2021، ولا يوجد بينها أي مطبوعة يوميةيمكن مراجعتها من خلال أرشيف المطبوعات السورية السابق ذكره..
يمكن القول إن مشروع الصحافة المطبوعة قام به في البداية نشطاء معارضون سياسياً للنظام، تحوّل بعضهم إلى العمل الصحفي الاحترافي خلال سنوات الصراع، في المقابل كان هناك حضور لكتّاب وصحفيين محترفين في بعض هذه المشاريع الإعلامية، بينما ارتبطت غالبيتها بالتنسيقيات ومكاتبها الإعلامية في البداية. غير أن استمرارية بعض الصحف كان شبه مستحيل مع مقتل واعتقال وهجرة كثير من كوادرها، كما أن ظروف الاستقرار لم تعد متوفرة في الدول المحيطة بسوريا، والتي انتقل معظم الصحفيين إليها بالتحديد لبنان وتركيا، قبل أن يضطر كثير من النشطاء والصحفيين المرتبطين بهذه المشاريع إلى هجرة ثانية حملتهم في الغالب باتجاه الدول الأوروبية وكندا وأميركا.
بهذا يمكن تقسيم المراحل التي عرفتها الصحافة المطبوعة إلى ثلاث مراحل مرتبطة بتطور الصراع في البلاد:
تبدأ المرحلة الأولى من آذار 2011 وحتى خريف العام 2012. وهي مرحلة غلبت عليها التظاهرات والحراك السلمي وفيها ازدهرت الصحف الناشئة داخل سوريا، وبلغ عددها ما يقارب 25 إلى 30 صحيفة، لاقت بعض المساندة من سوريين في الخارج ومن مثقفين وناشطين سياسيين، وكان تمويلها في الغالب شبه ذاتي وقائماً على التبرعات الشخصية.
المرحلة الثانية تبدأ من خريف 2012 حتى خريف 2015. في هذه المرحلة تكرّسَ تحول الانتفاضة الشعبية نحو العمل المسلح، ثم اتجه الصراع الداخلي ليصبح صراعاً إقليمياً مع اشتراك الميليشيات الشيعية في الحرب إلى جانب النظام، ووصول الجهاديين للالتحاق بصفوف الجماعات الإسلامية المتطرفة، ثم أخذ الصراع طابعه الدولي إثر تدخل التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة في أيلول (سبتمبر) 2014 ضمن إطار الحرب على الإرهاب ضد تنظيم الدولة الإسلامية، ثم التدخل الروسي في أيلول 2015 إلى جانب قوات النظام.
خلال هذه المرحلة خرج كثير من الناشطين والصحفيين من البلاد، بعضهم نقل عمله الصحفي معه، وبعضهم أسس صحفاً خارج سوريا، وشهدت نهاية هذه المرحلة انتقال الصحافة المطبوعة بالكامل إلى المنفى.
المرحلة الثالثة، والتي شهدت تراجع الإعلان عن صحف جديدة وإغلاق عدد من الصحف التي كانت قائمة، تبدأ مطلع عام 2016، متزامنة مع تراجع الدعم الدولي والإقليمي، وظهور صراعات أخرى استقطبت تمويل المنظمات التي كانت تدعم بعض وسائل الإعلام السورية. إضافة إلى ما سبق، تقدّمَ النظام السوري عسكرياً، وسيطر على مناطق واسعة منها حلب وبعض أريافها بالإضافة إلى الغوطة الشرقية، وكامل محيط مدينة دمشق ومدينة درعا وريفها في الجنوب. الهزيمة العسكرية أمام النظام ترافقت مع تراجع الاهتمام الدولي بالملف السوري، والهجرة الثانية لصحفيين ونشطاء غيّروا أماكن إقامتهم من دول الجوار السوري إلى دول أوروبا وأميركا الشمالية. ضمن هذا السياق انتهى وجود عدد كبير من المشاريع الإعلامية، وما ينطبق على الصحف ينطبق على محطات الراديو وغيرها من المشاريع التي تعثرت أو توقفت في هذه الفترة.
كذلك شكّل سؤال الاستقلال المالي عن المؤسسات المانحة عقبة أساسية أمام استمرارية كثير من المشاريع الإعلامية، التي لم تستطع البقاء بسبب انقطاع التمويل أو عدم انتظامه، فعملية تأسيس جريدة، والتي كانت بشكل شبه كامل طوعية وتقوم على تبرع صحفيين وناشطين وجامعيين بالعمل والتكاليف، تطورت مع طول مدة الصراع، وخضعت هي الأخرى لشروط الحرب والتدخلات الإقليمية والدولية، قبل أن تصبح لاجئة خارج البلاد. مولت المشاريعَ الأولى التبرعاتُ المباشرة لبعض الناشطين والمعارضين، فخلال تلك الفترة كان الأمل بانفتاح الفضاء العام والتغيير السياسي يحدو الجميع، إلا أن حالة الأمل هذه انتهت عندما انفلت العنف ولم يحصل التغيير المأمول بقدر ما تعقّد الوصول إليه.
خاتمة
كان إنتاج رواية مضادة لتلك التي أصدرها النظام عن الأحداث عاملاً أساسياً وراء نشوء وسائل الإعلام خلال السنوات الماضية، سواء كانت جرائد ومجلات أو مواقع إلكترونية ومحطات راديو وتلفزيون أو حتى مراكز أبحاث، بينما يمكن اعتبار الصحافة المطبوعة «ظاهرة مؤقتة»، عرفها المشهد الإعلامي. ولا يحمل هذا التوصيف حكماً سلبياً ينتقص من قيمتها، بل يسمح بإظهار مدى الصعوبة التي يمكن أن يواجهها تأسيس صحافة مطبوعة في حالة الحرب وعدم الاستقرار، وضمن سياق الصراع السياسي والعسكري الذي أخضع جميع السوريين لشروطه.
بالرغم من ذلك، ربما ستقدم لنا الصحافة المطبوعة وثيقة هامّة في الأيام القادمة لدراسة بعض التطورات السياسية والعسكرية والاقتصادية الاجتماعية التي عاشتها سوريا، خاصة تلك التي اهتمت بتغطية الأحداث في بعض المجتمعات المحلية، كما ستسمح لنا هذه الصحف بمعرفة تطوُّر ما استمرَّ منها أو من سيحاول العودة للصدور في المستقبل.