لا تتعدد داخل نفسك.
«لا توجد سوريا التي فَكَّرتَ فيها إلا في الهتافات، التي مازلتَ عالقاً داخل ساحاتها وأصواتها ودموع الصاخبين بها»، أجيبُ نفسي عن سؤال «البلاد»، وعن سؤال لماذا أستخدم هذه الكلمة في التعبير عن سوريا.
في القطعة التي أعيش فيها من البلاد، تعود ذكرى الثورة وقد أكملَتِ العاشرة من سنين ولادتها. هنا لا احتفال ولا ذكرى، ولا مشاهد غير اعتيادية، إلا مشاهد الانهيار البطيء الواضح لقاتلي الثورة وخصومها. قد ينفعك المشهد لو أن الحقد خيار مُشرَع للقصاص، أو لو أن الانهيار يطال بآثاره قتلة الثورة وحدهم. هنا تسقط دولة الأسد ببطء شديد، ويسقط معها موالوها، أو يسقطون قبلها ببطء، تخنقهم أيديهم التي امتدت إلى غيرهم ولا يستطيعون الفكاك منها. لا حقد هنا، فلم نعد نحن أنفسنا الذين كنا هناك في ساحات السنين الأولى، و«نا» الجماعة هنا تعود على حيواتي التي مرَّت وتعددتْ منذ عشر سنين حتى الآن. لقد وقعنا في أعمار متعددة لم تتصل بما سبقها، تتفق مع درجات الخِناق الذي أطبقه علينا النظام وأذرعه. لكننا – الحيوات الكثيرة – نلملم أنفسنا بانتظار القصاص المأمول.
لم نعرف معنى أن تكون سوريا وطناً أو بلاداً بالمفهوم السياسي والحقوقي للوطن والبلاد، ومن غير المختلَف عليه، كما أعتقد، أننا خرجنا ندافع عن أنفسنا في الثورة السورية، عن أماننا وحقنا في العيش بلا أفرع أمنية وبلا أب قائد؛ بلا آباء قادة. لكن الذاتية الفردية هذه أصبحت جمعية بشكل ملموس لا يُنسى في ساحات المظاهرات، أصبحت لـ«البلاد» ذاتية نُخرِجها وتُخرِجنا في الهتافات والصدح الصاخب الذي لم نكسب فيه سوى صراخنا.
وعلى مدى أكثر من سبع سنوات أخيرة مضت، أي منذ توهُّج السقوط ووضوحه في أذهاننا، تم تحويل بعضنا إلى شهود على الجريمة، وشهود على قتلنا المدوي في المذبحة السورية الكبيرة، المذبحة المركبة، المذبحة «فوق الجسدية»، التي استمرّت بهمّة يومية لا يستطيع أحد اللحاق بنزفها ولا الإحاطة بمحاولات تجاوزها اليومية، والتي كانت مختصرة لديّ بمشهد الوظيفة: وظيفة أربع مروحيات روسية تهدر صباحاً بمحاذاة كورنيش مدينة طرطوس، ثم «تُشرِّق» نحو مدينة حمص، وأنت تسير إلى عملك مُضافَاً إليه وظيفتان: محاولة معرفة وجهة الطائرات اليوم، مع مشاهد كثيرة في عقلك تتشابك كهاتفك المحمول حين يصيبه «التعليق» وتُجَنُّ في داخله الصور والملفات والمقالات والملاحظات، بطريقة تشبه ما تذكره اليوم من مشاهد نشرات الأخبار، وصور المدن والمراسلين في مناطق الثورة، وبشكل مركب من مشاهد اليوم السابق. لكل يوم حصته من الهول، وليس سهلاً أن تجمع الحصتين سوياً.
والوظيفة الثانية هي محاولة التغاضي عن رحلة المروحيات ومقاصدها، حتى تستطيع المتابعة والنجاة من الهيستيريا التي يُضاعفها عجزك عن تغيير توصيف سلامتك إلى إصابة مرضية.
تحاول الكتابة خارج الواقع؛ كتابة شيء ما بمجاز عالٍ. يُدهشك كم أصبحتَ جدياً في مناداة نفسك داخل النص، ويُدهشك كم يصعب عليك أن تعي هذا الواقع وهذا الكمّ من الأحداث؛ كم أصبح هذا الواقعي أشد خيالاً منك، ينافسك على نفسه، لأنك ببساطة في حديث عابر مع أصدقاء تقول: «ما تخيلت نوصل لهون»
«كيف يعني ما تخيلت؟!».
تُخاطِبُ الآخرين هنا في مدينتك في حوار مُتخيَّل، تخاطبهم دون أن يسمعوك، تُنشئ معهم حواراً عن الثورة والنظام لتُحذِّرَهم، وتقول إنك سبق وحذَّرتَ من أنهم مثل غيرهم سيدفعون ثمن بقاء الأفرع الأمنية ومؤسسيها، وأنهم سيُخوَّنون إذا ما طالبوا حتى برغيف خبز. حوار مُغرٍ، لو أنك تستطيع الصراخ فيه بصوت عالٍ.
هنا ولدتَ وكبرتَ، تحب البحر والكورنيش ووجوه الناس صباحاً وهم يحجّون إلى أعمالهم، بسطاء بلا أفكار جاهزة، بلا أب قائد، وانقسامات مواقفية. يُدهشك أنك حتى في هذه الحوار المونولوجي تختلفُ معهم. حين يُطالعك «بغل» ببدلة مموَّهة، وثياب غير مرتَّبة تعرف معانيها جيداً، تُكمل حوارك بعاطفة أقل، لكن رصيدك من الخيال يطردك خارج الكتابة والأفكار. تبدأ بالشتم بابتكار عالي المستوى، تتمنى لو أنك تستطيع امتلاكه في محاولاتك للكتابة. تعودُ إلى نفسك، تهجس كما كنت تهجس في 2011:
أقيموا بني أمي صدور مطيّكم / فإنّي إلى قوم سواكم لأَميَلُ
تقاطع نفسك كالعادة: «لا تُغذِّ مظالمك أيها الأخرق».
إذن ما الذي تبقّى من البلاد؟ وما الذي تبقّى من صورتها في أذهاننا؟ دائماً ما يدفعني الفضول إلى منصة ويكيبيديا، ليس لمصداقيتها ودقتها، بل لاتخاذها تعريفاً عاماً وحكاية عامة عن الأشياء التي تَرِدُ فيها، وخصوصاً ما يتعلق بالشعوب التي ما زالت تتنازع على تاريخها ومعانيه. نتيجة آلية عملها، تميل المنصة إلى التعاريف الأكثر شيوعاً، وتعتمد بعض أشهرها مع روابط. وإذا كنا لم نتفق حتى الآن على تاريخنا، وحدوده وحدود ارتباطنا فيه، أو ما إذا كان يستحق الصراحة والبحث الجدي عن الحقائق، أم تكفيه صناديق الأَسطَرة المعبأ بها، فإن المنصة تشبهنا في تعاطيها مع المعاني والأحداث، وتعطينا كثيراً من الروايات عن الواقعة الواحدة. هكذا تُعرِّفُ المنصّة الثورة السورية:
الحرب الأهلية السورية، وتسمّى أيضاً الأزمة السورية والحرب على سوريا (حسب الحكومة)، أو الثورة السورية (حسب المعارضة)؛ هي صراع مسلح داخلي متعدد الجوانب في سوريا منذ 2011، شاركت فيه عدّة أطراف دوليّة، يُخاض بالدرجة الأولى بين الحكومة السورية بقيادة الرئيس بشار الأسد، وقوات المعارضة المسلحة، إلى جانب الجماعات الإسلامية والتنظيمات المتشددة.
نشأت الاضطرابات في سوريا، وهي جزء من موجة أوسع نطاقاً من احتجاجات الربيع العربي 2011، بسبب استياء شعبي من حكومة الأسد التي قامت بسجن مجموعة من الأطفال في مدينة درعا السورية، ورفْض طلب الأهالي بإطلاق سراحهم، مما أدى إلى خروج الأهالي بمظاهرة قوبلت بإطلاق نار من الجنود الحكوميين، وقد تصاعدت إلى نزاع مسلح بعد قيام قوات الأمن بقمع الاحتجاجات الداعية إلى إبعاد الأسد.
يفترض هذا التعريف جماهير مقسَّمة ينظر كل منها إلى الرواية من موقعه، أو يرى البلاد من موقعه، وهذا الافتراض حقيقي طالما أن هذه الجماهير المعنية موجودة، بغض النظر عن الأدوار الملعوبة من قبل الأطراف في الرواية. إذن، القاتل له وجهة نظر، تعطيه الحق في أفعاله ضمن إحدى صيغ الرواية.
وإذا ما ابتعدنا عن الحنين إلى السنوات الثلاث الأولى، حينَ الأحلامُ والعملُ عليها كان مشروعَ دولة بلا مستبدين، فالرواية الآن ليست واحدة، وهذا ينطبق على روايتنا بلا شك، فقد كان استهدافها كرواية أهم نقاط خطة الهجوم عند رافضيها ومُناوئيها. لكن الرواية، وعلى الدوام، بدأت من فم راوٍ: أين الرواي؟ ومن هي البلاد؟ البلاد هنا هي أنا: لكن ليست أنا كمفرد، هي أنا كُلِّ سوريّ، فلم يبقَ من البلاد إلا تلك البلاد التي ترسّبت هناك في زوايا الحنين؛ الحنين إلى اللُّقمة التي لم تصل إلى الفم.
كل «أنا» تُحاور نفسها بشأن ما حدث هي سوريا باقية تبحث لنفسها عن مبررات الاستمرار والعيش، كل «أنا» هي بلادنا المركبة من قصص مختلفة ومتفاوتة في نِسَبِ هذيانها ببقائها، كل «أنا» هي حماية شرسة لتلك الزاوية الباقية في القلب، المُصانة بحزن عظيم قاسٍ لا يسمح لأيّ فرح آنيّ أن يُغيِّب الصور والحكايات؛ الصور والحكايات التي أَقسمَ بلا قصد أن يحميها، وألّا يُدخِلها في عبث المُجدي والصواب السياسي، وألّا تأخذها فتنة المظلومية إلى أَسطَرة الجراح.
نحن هنا، نتكلم ونقول في كل ذكرى وكل يوم وكل غصّة، تُرافقنا البلاد في بقائنا وتدرُّجنا تحت لعنة موقعها الجغرافي، وتاريخها الناقص المسلوب، وعيونها الملأى بأحبّائنا.