في مظاهرات الذكرى العاشرة للثورة السورية التي انطلقت في مناطق عديدة من البلد، يمكن أن تلفت الانتباه مشاهد عديدة، وإن اختلفت في مكانتها ومعناها من شخص إلى آخر. أهمها كان حضور علم الثورة وحده تقريباً، وغياب ما اعتدنا رؤيته من أعلام أخرى كثيرة كانت تُرافق المظاهرات في السنتين الأخيرتين. وكذلك تجدُّد الثورة التي لم تَخْبُ في درعا، رغم القبضة الأمنية، في استذكار للأشهر الأولى من العام 2011، وما رافق هذه المظاهرات من تجديد للفرح والأمل في نفوس السوريين في كل مكان. لكن ما لفت نظري شخصياً، كان رفْع صورة عبد العزيز الخيّر من قبل سيدة في إدلب، ووجود علم الثورة – وحده – في دوار المحراب في المدينة.

أعادني المشهدان إلى أول سنتين من عِقد الثورة تقريباً، حين كان التعبير والنقاش مباحاً في مختلف الأماكن والمساحات الجديدة التي أنتجتها الثورة، والذي ربما رافقه خلاف واحتكاكات أحياناً، لكنه لم يصل وقتها إلى تكميم الأفواه أو اعتقال أصحابها، خلافاً لما ستشهده السنوات التالية. بالنسبة لي، كان مشهد صورة عبد العزيز الخيّر يفرض التفكير مجدداً في سوريتنا كـ«وطن» للجميع، دون التوقف عند خلفيات الأشخاص ومناطقهم وآرائهم. والمشهد كلّه كان يُعيد مجدَّداً طرح السؤال الذي يؤرق كثيراً من السوريين حول أمنياتهم وطموحاتهم الملتصقة بثورتهم، فيركَنون إلى إجابة واحدة واضحة تختصر ما مروا به وما يريدونه ربما، أو لعلّهم يلجأون إليها في غياب مفردات أكثر دقة، إذ يكون الجواب غالباً مقتصراً على مفردتَي «الحرية والكرامة».

لكن مع مرور العقد الأول من الثورة السورية وما تكبده أصحابها من أكلاف تفوق قدرتهم، لا يمكن الاكتفاء بهذَين المفهومين أثناء محاولة الاستدلال على نجاح الثورة أو عدم نجاحها، وفيما إن كنا على الطريق الصحيح أم أننا فشلنا وهُزِمنا ضمن واقع من التفكك والخسارات المتلاحقة، التي زرعت في نفوس كثير من المؤيدين للثورة إحساساً باليأس أو عدم الجدوى، يُرافقه شعور آخر بالرغبة بالخلاص، والأهم من ذلك غياب مؤسسات أو شخصيات يلتفّ حولها الناس، وتُعطيهم صورة عمّا يمكن أن يكون في قادمهم: شكل الحكم، النظام السياسي والانتقال إليه، ضمان الحقوق، المحاسبة والعدالة، قانون الدولة، والتي يمكن جمعها معاً ضمن عبارة واحدة: «ما هو شكل الوطن وكيف يمكن أن يكون؟ مع خطوات عملية لإمكانية التطبيق».

أذكر هنا نقاشات عديدة صبغت المراحل الأولى من عمر الثورة السورية، وكيف تعدّى النقاش أحياناً مطالب «الحرية والكرامة» إلى الحديث عن شكل الحكم في سوريا، عن سوريا ديمقراطية، عن ضمانة الحقوق والمساءلة، ومطالبة البعض بسوريا مدنية، أو علمانية، أو إسلامية سنيّة، دون أن يتطور هذا الخلاف فوراً إلى «تخوين ومطالبات بالقتل»، وإن وجدت مطالبات أو توجهات كهذه، فإنها كانت دون القدرة على التنفيذ الفعلي، لعدم وجود آذان صاغية وللاتفاق العام على الدفاع عن الحرية التي تحقّقت على يد عدد كبير من الرجال والنساء الثوريين الذين كانوا يقودون الدفة. ونتيجة ذلك، كثيراً ما خرجت مظاهرات وأُقيمت اعتصامات للدفاع عن شخص تم اعتقاله من قبل فصيل عسكري، ورُفعت لافتات مندِّدة بهذا الفصيل أو ذاك أو هذه الجهة أو تلك، وتدخَّل أشخاص لا يملكون قوة عسكرية، لكن سلاحهم كان الكلمات والشارع، وغالباً ما كانوا ينجحون في فرض قوانين غير مكتوبة أنتجتْها الثورة.

لكن الحرية ليست هدفاً نهائياً بحد ذاته لأي حراك أو ثورة، ولا يمكن أن تكون، ذلك أن الحرية حق طبيعي لجميع البشر، وهو ما ينسحب أيضاً على مفهوم الكرامة، ويشكل المفهومان معاً جوهر حياة الإنسان وحقوقه الأساسية في المساواة والقدرة على التعبير. ولهذا فإن السعي لامتلاك الحرية والكرامة ليس نضالاً يجب علينا الاستمرار به والتأكيد عليه في كل مناسبة، بل إن الهدف النهائي هو أن تُغنينا عن التفكير به بديهيةُ وجودِه أصلاً. لكن الظروف التي عشناها تحت حكم النظام قبل الثورة جعلت من هذا البديهي هدفاً، وحوّلت الحصول عليه إلى أمنية بفعل القبضة الأمنية وعهود الظلم والقهر والسجون. غير أن اللحظة الأولى التي خرج فيها سوريون مناهضون للنظام بأصواتهم إلى الساحات حقّقت هذا الغرض، بمعنى أنها أعادت للبديهي وجوده في حياتنا اليومية، وكسرت حاجزاً كان يبدو أنه لا يمكن العودة إليه والدوران في فلكه من جديد، هو حاجز الخوف الذي تم تحطيمه باللافتات المرفوعة، الكتابة على الجدران، تحطيم تماثيل الأبد، الكتابة عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي فرضت شكلاً جديداً أَلِفه السوريون من التوثيق والتعبير، والوعي السياسي المضاد لـ«المنطلقات النظرية» التي عشّشت في رؤوسنا خلال سنوات دراستنا وعملنا وحياتنا العامة.

لقد كلّفَ إسقاط حاجز الخوف كثيراً من البسالة والدم والدمار، وتُظهر الأرقام والإحصائيات هذه الأكلاف الباهظة. وقد كانت المسؤولية مضاعَفة على الثائرين، الذين قدّموا أنفسهم كمدافعِين عن الحقَّين الطبيعيَّين في الحرية والكرامة، فقد وقعت عليهم مسؤولية إيجاد خيط يربط بين ما تم تحقيقه على الصعيد النفسي وبين ما يجب أن يكون على أرض الواقع في الأيام القادمة. هكذا برزت أشكال من الإدارات، كالمجالس المحلية ومجالس الأحياء والمديريات والتجمعات، كنواة لشكل جديد من المأسسة التي كان مطلوباً منها البدء في حلّ المشكلات اليومية العالقة. لكن ذلك لم يُفلح في الكثير من الأحيان لأسباب كثيرة، أهمها الزمن الطويل للثورة السورية والتدخلات الخارجية التي أبقت على النظام قائماً وحمت أركانه، واليأس الذي صاحب عدداً من الناشطين الفاعلين، اللجوء والنزوح، وتراجع دور الجيش الحر لصالح فصائل أخرى بأجندات مغايرة.

في هذه الظروف القاسية، تم التركيز على هذَين المفهومين العريضين، الحرية والكرامة، باعتبار أن تحقيقهما يمهّد لما يمكن أن يأتي بعدهما في مراحل لاحقة، وتم تأجيل نقاش مفاهيم أخرى لا تقل أهمية، فيما كان الانقسام بين التيارات والتوجهات السياسية يتعزز، وتتعزز التبعية لدول خارجية مارستْ سلطتها وأجندتها كسيدة على قرار السوريين. هنا راح السوريون جميعاً يستسلمون لافتراض عدم قدرتهم على إيجاد الحل بأنفسهم، ويركَنون إلى القرارات والسياسات الدولية والإقليمية.

كذلك كان الوصول إلى الحرية والكرامة في أول الثورة مرهوناً بسقوط رأس النظام، المحمي جيداً من دول لا تريد له أن يسقط، والذي التفّت حوله قطاعات لا بأس بها من السوريين. وكان الرأي الأكثر شيوعاً وقتها أنه بسقوطه ستتفرق السبحة المحيطة به، لكن الدائرة اتسعت فيما بعد إلى وجوب اجتثاث النظام ككل، كخطوة أولى لتحقيق ما عولت عليه الثورة في بناء الديمقراطية، ومن ثم «الوطن». ومع الدعم، غير المتناهي، للنظام ككل، ولرأسه بشكل خاص، تأجلت جميع هذه الخطوات، وبدأت تفقد وهجها. ثم مع خسارة حلب وما تلاها من خسارات و«مصالحات» في مناطق سورية عديدة، وما رافقهما من تدمير للبنى التحتية وزيادة في أعداد الشهداء واللاجئين والنازحين الذين يعيشون ظروفاً قاسية، بدأ كثيرون داخل البلد وخارجه بالابتعاد شيئاً فشيئاً عن ما يحدث في كواليس السياسة، وفقدوا إيمانهم بأي جسم سياسي أو منصة أو حتى رابطة أو اتحاد، وفقدوا الإحساس بجدوى الملاحقات القضائية والتقارير الأممية وإثبات انتهاكات حقوق الإنسان.

بعد عشر سنوات من الثورة، يعيش السوريون جميعاً دون مؤسسات سياسية يتدخلون في اختيارها ويدافعون عن حقهم في تغييرها أو إصلاحها. في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام في إدلب وريف حلب، على سبيل المثال، هناك حكومتان مستقلتان عن بعضهما، تعمل كل منهما بعيدة عن الأخرى، وتفرض قوانينها دون وجود أنظمة داخلية تحكم هذه القرارات وتحدد معايير لمحاسبة من اتخذوها، ودون أن تنبثق أي منهما عن مجلس نيابي منتخب أو تكتلات شعبية تمثيلية. كذلك تعملان دون قرار مستقلّ، ودون أن تُستشار أي منهما في الحل السياسي أو شكل الدولة ونظامها، ودون تدخّل أي منهما في المفاوضات أو المعارك العسكرية ومسارها، ودون تمويل أو سيطرة على الخدمات العامة، ودون قدرة على تنظيم الحياة العامة أو متابعتها. تتبع كل منهما لفصيل عسكري أو قرار خارجي يُملي عليها ما يجب أن تكونه وتفعله، دون حق الاعتراض أو القدرة على حماية مواطنيها ومساندتهم في أبسط حقوقهم.

كذلك لم تشهد هذه المناطق سوى محاولات خجولة لتطبيق الانتخابات في بعض المجالس المحلية، بدلاً من التزكية والمحاصصات العائلية. وقد كانت الانتخابات شفّافة ومُرْضية عند إجرائها، لكن هذه المجالس بقيت ضعيفة في ظل سطوة سلطات الأمر الواقع من جهة، وعدم توفر الإمكانيات لحل المشكلات الحياتية للسكان من جهة ثانية. كذلك ظهرت روابط واتحادات كثيرة متفرقة، لكنها لم تستطع توحيد جهودها ولا حتى حماية المنتسبين لها.

بموازاة هذه التشكيلات السياسية الواهنة، يبرز دور هيئة تحرير الشام في إدلب كقوة أمر واقع تسيطر على مقدرات الأمور، ويقف في وجهها نشطاء تُركِت لهم مهمة الحفاظ على مكسب «الحرية والكرامة» الذي ندور في فلكه منذ بداية الثورة. فيما يبرز دور تركيا في المناطق التي تسيطر عليها فصائل تابعة لها، حيث يُدير وُلاة معيَّنون من قِبَلها كل شيء، ومقابل ذلك يفرضون تكميماً للأفواه بشأن كل ما يتعلق بهذه المناطق وشكل الحكم والإدارة فيها.

هناك أمثلة كثيرة يمكن لأي متابع للحياة العامة في الداخل السوري الوصول إليها دون جهد يُذكر. يكفي أن تسأل أي شخص ليُجيبك بما تريد معرفته. معظم المحاولات لإيجاد شيء من «الحرية» كما أُنجزت في العام 2011 تبوء بالفشل اليوم. يتم اعتقال الناشطين، أو حتى من يعبر عن رأيه في فيسبوك أحياناً، ويتم فرض التوقيع على تعهدات بعدم الإدلاء بأي تصريحات صحفية على الموظفين في المناطق الخاضعة لتركيا، ويتم فصل من يتظاهر أو يطالب سلمياً بحق من حقوقه من العمل. يتعدى الأمر ذلك إلى وجود معتقلين في السجون دون معرفة مصيرهم ودون ضمان حرية السؤال عنهم وضمان عدم تعذيبهم، وإلى محاسبة أي منتقِد لقائد فصيل عسكري هنا وهناك، وتقطيع الأوصال بين المناطق المتجاورة، ونصب الحواجز وفرض الإتاوات والتعدي على الأملاك، وإلى آخر القائمة.

وطبعاً، ليس القصد أنه يمكن إنتاج ديمقراطية متماسكة وسط كل هذا الهُدام والظروف الصعبة، لكن ما يبدو واضحاً اليوم هو أن الديمقراطية لم يكن متوافَقاً عليها وعلى معناها وشكلها بين الجميع. الوقوف عند مفهومي الحرية والكرامة، وعدم تجاوزهما إلى ما يليهما، هو ما شكَّلَ هذا الخلط بين البُعد الأخلاقي للثورة، الذي كان عماده هذين المفهومين، وبين الديمقراطية والبدء في البناء، إذ لا يمكن للبعد الأخلاقي وحده أن يكون ضامناً لشكل الوطن والمواطنة. ونتحمل هنا جميعنا، في الذكرى العاشرة لقيام الثورة السورية، المسؤولية عن التقاط الفرصة التي أتيحت لنا، أو تبديدها والعودة مجدداً إلى المطالبة بما يجب أن يكون بديهياً.