مثل كل البلد، وكل أركان حياته العامة، لم تَعِش المعارضة السورية في العقود الأخيرة حياة مستقرة، ولا تمتعت بظروف تسمح بالحد الأدنى من الحياة المؤسساتية والفكرية السليمة. وابتداءً من 2011، كان على المعارضة أن تتعامل مع مفارقة مواجهة واجبات أكبر في ظروف أصعب. إن أخذ هذا الأمر بعين الاعتبار تمهيد واجب لأي تحليل للحياة السياسية للمعارضة، وإن كان من الضروري ألا يمنع التساؤل حول ما إذا كانت هذه الظروف القصوى قد تحولت إلى مسوِّغ للجمود، ومبرِّر لإعفاء النفس من التفكير.

يبحث هذا النص، عبر مراجعة لأهم محطات التاريخ القريب للمعارضة السياسية السورية، عن تحديد نقاط أساسية في إشكاليات التمثيل السياسي لدى المعارضة السورية. ولأجل ذلك، سيعتمد في تحليله على الإطار المفاهيمي الذي وضعته الأكاديمية وعالِمة السياسة الأميركية حنّه بيتكن في كتابها الشهير مفهوم التمثيل،The Concept of Representation, Hanna F. Pitkin; University of California Press (1967). الذي يُعتبر من أوسع الإحاطات المفاهيمية بمسألة جوهرية في النقاش الفكري السياسي المعاصر، أي التمثيل السياسي.Dovi, Suzanne, “Political Representation”, The Stanford Encyclopedia of Philosophy, (Fall 2018 Edition). في هذا الإطار، تقترح بيتكين أربع رؤىً مختلفة، تُمثِّلُ كل واحدة منها زاوية متمايزة يمكن من خلالها النظر إلى مسألة التمثيل السياسي. وهذه الرؤى الأربع هي: التمثيل الشكلاني، أي الإجراءات المؤسسية التي تؤسس لعملية التمثيل (الشرعنة والمحاسبة)؛ والتمثيل الرمزي، أي الأدوات والطرق التي يمارس فيها الفاعل السياسي عملية التمثيل؛ والتمثيل الوصفي، أي مدى تماثل المُمثِّل السياسي مع من يمثّلهم في الشكل والانتماءات وأسلوب الحياة وغيرها؛ والتمثيل الفاعلي (substantive)، أي الأفعال التي يقوم بها الممثل السياسي لتمثيل مصالح ورؤى أولئك الذين يمثّلهم سياسياً. ورغم أن هذا الإطار السياسي نظريّ وعام، إلا أن رؤاه الأربع مفيدة للاستخدام كنقاط علّام عند التفكير في سلوك البُنى السياسية المعارِضة خلال السنوات الأخيرة. وعند تمرير تعريف البُنى السياسية المُعارِضة على نقاط العلاّم التي تمثّلها رؤى بيتكين، سنجد مشاكل بنيوية أساسية في مفهوم التمثيل لدى المعارضة السورية، من التباس معنى كل هيئة من الهيئات المُعارِضة أمام نفسها وأمام الذين يُفترَض أنها تمثلهم.

سينظر النص في سيرة وواقع كل من هيئة التنسيق الوطني، والمجلس الوطني، والائتلاف الوطني، والهيئة العليا للمفاوضات، دون أن يشمل عمل هيئات وكتل معارِضة أقل حجماً وحضوراً في المحافل السياسية، وأيضاً دون أن يشمل تجربتَي المجلس الوطني الكردي ومجلس سوريا الديمقراطية، اللذين ينتميان لدينامية مختلفة لها إطارها وخصوصيتها، رغم التقائهما وتَفارُقهما عن الهيئات المذكورة في محطات عديدة من السنوات الأخيرة (علاقة المجلس الوطني الكردي بتجربتَي المجلس الوطني والائتلاف؛ وحزب الاتحاد الديمقراطي بوصفه جزءاً من تأسيس هيئة التنسيق).

أكبر عدد من المتنوّعين فيما بينهم

أسوةً بغيرها من الدول العربية،يقدّم الأكاديمي والناشط المصري عمرو عبد الرحمن ملامح من التجربة المصرية في هذا المجال ضمن مراجعته لتاريخ أحزاب اليسار المصري في الجمهورية (آب 2019)، وتأثُّراً بالتحولات السياسية العالمية بعد انهيار جدار برلين، من تآكل الأطر الأيديولوجية السائدة خلال القرن العشرين ودخول نموذج التنظيم السياسي السائد حتى حينه في أزمة، وتصاعد الإقبال على شخصية «الناشط السياسي المستقل»، أو «المثقف»، كبديل عن الكادر الحزبي، سادت ضمن المعارضة السورية في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين قناعة بضرورة إنتاج نموذج الجبهة العريضة، المظلة الائتلافية التي تجمع أكبر عدد من المعارضين المختلفين فيما بينهم أيديولوجياً حول توافُقات حدود دنيا، قوامها الموقف الرافض لإغلاق المجال العام على يد أجهزة أمن نظام الأسد، والدعوة لإطلاق الحريات العامة، وكفّ يد المخابرات، والسماح بالتنظيم السياسي، وكفالة حرية التعبير والحريات الصحفية، مع إهمال الاختلافات البينية أو إدغامها أو «تأجيلها» حتى إحراز ظروف سياسية أفضل. وسط هذه الأجواء، جاء إنشاء إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي في تشرين الأول (أكتوبر) 2005 كَأوسع ائتلاف للمعارضة السورية حتى حينه، وأبلغ تعبير عن النموذج (أو الباراديغم) الذي ساد ضمن أجواء المعارضة السورية عموماً. ورغم أن إعلان دمشق عاش خلافات داخلية عاصفة، وانسحابات وتجميد عضويات عديدة خلال سنوات ما قبل 2011، إلا أنه بقي أوسع مظلة سياسية معارِضة في سوريا، والنموذج الذي نشأ في إطاره، أي النموذج الائتلافي الوطني-الديمقراطي، بقي هو السائد.

ورغم الخلافات ومكامن الخلل الواضحة في النموذج الائتلافي السوري، فإن منطق البحث عن ائتلاف يجمع أكبر عدد من المختلفين حول هدف مشترك وواضح لقي دفعة كبيرة مع اندلاع الثورة السورية عام 2011، وبدأت محاولات الاجتماع وتنسيق الجهود نحو إنشاء مظلة جديدة أوسع وأكثر فعالية عبر مؤتمرات ولقاءات واجتماعات داخل سوريا أهمها مؤتمر سميراميس، الذي عُقد في دمشق في 27 حزيران (يونيو) 2011. وخارجها. أهمها مؤتمر أنطاليا في تركيا، المنعقد بين نهاية أيار (مايو) وبداية حزيران (يونيو) 2011، وكان محطة أساسية في تأسيس المجلس الوطني السوري بعدها.

تأسست هيئة التنسيق الوطني نهاية حزيران (يونيو) 2011 كمظلة ائتلافية تجمع أحزاباً يسارية وقومية عربية وكرديّة، بالإضافة لناشطين مستقلين ومثقفين معارضين. وقدّمت الهيئة نفسها في بيانها التأسيسي على أنها «أوسع إطار سياسي في سوريا»، لتخوض بعدها مع المجلس الوطني، الذي تأسّس بعدها بأشهر قليلة – في 2 تشرين الأول (أكتوبر) 2011 – صراعاً سياسياً مريراً حول أحقية «تمثيل» المعارضة السورية. قدّم برهان غليون شهادته عن تشكيل المجلس الوطني، وصراع المجلس مع هيئة التنسيق من موقعه كأول رئيس للمجلس الوطني السوري في كتابه الأخير عطب الذات: وقائع ثورة لم تكتمل 2011-2012 (الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2019). وقد تم خوض هذا الصراع وسط أجواء ضغوطات متعددة المستويات من أجل «توحيد» المعارضة السورية تحت عنوان واحد كمدخل أساسي لأي دور دولي داعم للمعارضة السورية، أو حتى لتشكيل وساطة أممية قادرة على تحقيق نتائج ملموسة. تحتاج إشكالية «توحيد» المعارضة، من حيث طبيعة ونوع وكمية الصراعات التي خيضت ضمنها، وكمية الضغوطات والتدخلات والوصايات الدولية التي فُرضت على السياسة السورية المعارِضة باسمها، لوقفة وبحث منفصلين.

تأسيس المجلس الوطني السوري، والسنتان ونصف التاليتان (أي حتى انعقاد مؤتمر جنيف2 أوائل عام 2014)، أدى إلى قناعة – عزّزتها ضغوط دولية – بضرورة تأسيس جسم «تمثيلي» للمعارضة السورية، ليس فقط كمُعبِّر ائتلافي عن الحساسيات السياسية المناهضة لسلطة بشار الأسد، ولكن أيضاً كهيئة سياسية مستعدة لملء الفراغ الذي يمكن أن ينتج عن انهيار النظام، أو عن عملية عسكرية دولية تطيح بسلطته؛ جسم يمثّل السوريين بما يكفي لمنازعة النظام على «تمثيل» سوريا ككل في المحافل الدولية (مثل الجامعة العربية، التي منحت كرسي الجمهورية العربية السورية للمعارضة السورية خلال قمّة الدوحة 2013). بالتالي، دخلت المعارضة السورية في مرحلة جديدة، تتداخل فيها مفاهيم التمثيل السياسي لحساسيات وأيديولوجيات ورؤى سياسية تمثّلها أحزاب (أو مستقلون) مع أنماط توزيع التمثيل ومحاصصته التي يجب أن يَضمنها أي نظام سياسي، من تمثيل الجماعات الأهلية والمناطق الجغرافية وغيرها من التمايزات الاجتماعية-السياسية. وقد بدا هذا الأمر أكثر وضوحاً مع تأسيس الائتلاف الوطني في 11 تشرين الثاني 2012، الذي دخلت على خط تشكيله خلافات بينيّة ضمن المعارضة، تساعد هذه الورقة لوحدة الدراسات السياسية في المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات، الصادرة في نهاية تشرين الثاني 2012، على استعادة أجواء نقاشات وصراعات تلك المرحلة. فاقمتها ضغوطات دولية كثيرة سعت لتجاوز المجلس الوطني نحو تشكيل قُدِّمَ على أنه أكثر تمثيلية واتساعاً من المجلس الوطني (الذي صار جزءاً من بين أجزاء عديدة للائتلاف).

نهاية العام 2015، تأسست الهيئة العليا للمفاوضات كجسم سياسي مُصمَّم لخوض الجولات التفاوضية المتلاحقة مع النظام، والتي تكرّست وتتابعت إثر التفاهمات الروسية-الأميركية التي أعقبت المجزرة الكيماوية في الغوطة الشرقية في آب 2013، راجع صادق عبد الرحمن،

المسار السياسي السوري الذي دشنه «اتفاق الكيماوي» في الجمهورية (آب، 2019). وأدَّت لإلغاء ضربة عسكرية عقابية مفترضة للنظام جراء ارتكابه مجزرة، مقابل تسليم الأخير ترسانته الكيماوية. أدّت هذه التفاهمات إلى نهاية العمل بفكرة إنشاء جسم «تمثيلي» يمكن أن يحل محل النظام في تمثيل سوريا ككل، والتوجّه نحو تشكيل جسم مُفاوِض يتمثّل فيه الجميع، وفق محاصصات بحتة غير مشغولة بتقديم نفسها بأي شكل، نتجت عن توافقات ومساومات غير علنية ولا ناتجة عن نقاشات سياسية واضحة المعالم لسوريين. في هذا الجسم، بات الائتلاف الوطني كتلة من ضمن كتل أخرى عديدة، تتمثّل فيها الفصائل المسلحة وكتل أخرى من المعارضة السورية لم تكن جزءاً من الائتلاف الوطني؛ وهي محاصصات تمت إعادة توزيعها في تشرين الثاني (نوفمبر) 2017 لإدخال عناصر وكتل جديدة.

عدا ذلك، يتمثّل الائتلاف الوطني والفصائل العسكرية أيضاً ضمن وفود مسار أستانة، الذي نشأ برعاية روسية-إيرانية-تركية مطلع العام 2017. ومن اللافت أن الجهات الدولية التي كانت تضغط على المعارضة السورية لكي «تتوحّد» وتكون «تمثيلية»، هي ذاتها التي رسّخت تعدد المسارات السياسية بين جنيف وأستانة.

هكذا، نرى أن سيرورة الأجسام الرئيسية للمعارضة السورية خلال العقد الأخير، قُبيل 2011 وما بعده، قد انتقلت من فكرة جمع أكبر عدد من المختلفين حول فكرة معارضة النظام، إلى إنشاء جسم يُنافس النظام على تمثيل سوريا ككل في المحافل الدولية وقادر على «شغل الفراغ السياسي» في حال سقوط النظام أو إسقاطه؛ وصولاً إلى الوضع الحالي، حيث تظهر الهيئة العليا للمفاوضات كجسم لا أسس واضحة للانضمام له، ينبثق عنه فريق تفاوض دون أُسُس علنية ثابتة في طريقة اختيار أعضائه.

ماذا تمثِّل، ومن يتمثَّل فيها؟

كما سبق الذكر، لا يمكن تحليل عمل أجسام المعارضة السورية، خصوصاً خلال سنوات ما بعد 2011، دون أخذ الظروف القصوى التي عاشتها بعين الاعتبار. يخصّ هذا الأمر كل جوانب عملها السياسي، ومن بينها كيفية التعاطي مع مسألة التمثيل السياسي: عاشت سوريا ظروفاً بالغة القسوة، ومع تحوُّلات ومنعطفات شديدة خلال السنوات السابقة، وتغيّرات على صعيد الساحة السياسية الإقليمية والدولية لم يكن من السهل الاستجابة لمتطلباتها على مستوى إنشاء أجسام قادرة على تمثيل توجّهات أو قوى أو تيارات في مختلف المحافل الطارئة. إضافة لذلك، لم تسمح الظروف بحياة سياسية داخلية سليمة داخل الأجسام المعارِضة نفسها، أكان على مستوى تطوير نُظُمها الداخلية وتمتين آليات الاختيار والتجديد والمحاسبة، والعمل على إرساء طقوس وممارسات دوريّة تؤسس لحياة سياسية سليمة بالحدّ الأدنى. فغالبية الأحزاب والتيارات السياسية مشت بمنطق الضرورة الذي فرضته الأوضاع السورية، ولم تقم بتجديد مكاتبها التنفيذية، ولم تتمكن من عقد مؤتمرات ولا اجتماعات واسعة لتجديد وثائقها وقراراتها، وهذا ينسحب أيضاً على المظلات الكبرى للمعارضة خلال سنوات ما بعد 2011، التي كانت اجتماعاتها الدورية مكرّسة لتجديد عضويات مكاتبها التنفيذية ومجالسها الرئاسية، ولكن دون البحث في تجديد تعريفات الذات والنُظُم الداخلية وآليات الانتساب والمحاسبة، حتى حين أصبحت هذه البُنى أجزاء من بُنى أحدث.

من الضروري التذكير بالظروف السابق ذكرها في المقطع السابق، بقدر ما هو ضروري أن نشير إلى أن ثمة استكانة إلى خطاب «الظروف» التبريري حصلت في مختلف مراحل عمل أجسام المعارضة السورية الرئيسية؛ خطاب تعزّز مع ميل إلى التكتيك السياسوي مقابل إهمال العمل المؤسساتي والتفكير الاستراتيجي والاهتمام بالأسس النظرية والمفاهيمية. دون أخذ هذه الاستكانة بعين الاعتبار، لا يمكن تفسير العَوَز الكبير في آليات العمل السياسي التي قدّمتها هذه الأجسام، ومنها مشاكل جمّة طرأت على صعيد التمثيل على مستويين: الأول يخص طريقة تقديم هذه الأجسام لنفسها كممثلة لتوجهات أو قوى أو أيديولوجيات في سياق المسألة السورية، والثاني الطريقة التي (يُفترض أن) تجد تيارات وجِهات سياسية نفسها، مع قطاعات مختلفة من السوريين، ممثَّلة ضمن هذه الأجسام.

أولاً: تعريفات الذات

في بيانها التأسيسي، قدّمت هيئة التنسيق الوطني نفسها كعاملة على «إشراك بقية القوى السورية المستعدة لتوقيع الوثيقة في عضويتها لمواجهة الأوضاع الراهنة المعقدة في البلاد في مرحلة الانتقال من النظام الديكتاتوري الحالي إلى النظام الديمقراطي المنشود». ورغم اعتبار نفسها «تمثّل أوسع إطار سياسي في سورية» في البيان نفسه، إلا أن الهيئة لم تطرح نفسها في أيّ وقت كمنافس موضوعي للنظام على تمثيل كلّ السوريين، ولم تزاحمه على تمثيل سوريا في المحافل الدولية مثل الأمم المتحدة أو الجامعة العربية، بل إن جزءاً جوهرياً من معركتها السياسية كان قائماً على نفي هذه الصفة عن المجلس الوطني أولاً، ثم عن الائتلاف، اللذين أنكرت تمثيلهما للمعارضة السورية أمام المحافل الدولية، واعترضت على أي صفة رسمية نالاها من قِبَل أي محفل دولي، قبل أن تلتقيهما في الهيئة العليا للمفاوضات.

من جهته، أعلن المجلس الوطني، في البند الثالث من بيانه التأسيسي، أنه قادر على «تشكيل حكومة مؤقتة على النحو المبيَّن في برنامجه السياسي»، وأنه بـ«تنوع الكتل السياسية الممثلة فيه (أي المجلس) يضمن وحدة الشعب ووحدة الهدف السياسي في إقامة دولة ديمقراطية حرة». ولم يعدِّل المجلس الوطني من قائمة أهدافه وتقديمه لنفسه حتى بعد أن أصبح جزءاً من الائتلاف الوطني، الذي أشار بدوره في بيانه التأسيسي إلى أن من أهدافه «تشكيل حكومة انتقالية بعد الحصول على الاعتراف الدولي». شكّلَ الائتلاف «حكومة مؤقتة» في آذار (مارس) 2013 ما زالت قائمة، وإن بإمكانات متواضعة ودون اعتراف سياسي دولي، عدا تعاونات محدودة معها كمنسّق لتوزيع الدعم التنموي والإنساني المقدّم من قِبل دول مانحة عبر تركيا. وأيضاً، بدوره، لم يُعدّل الائتلاف الوطني من تعريفه لذاته ولا لأهدافه في أدبياته العلنية بعد أن صار طرفاً، من ضمن أطراف أخرى عديدة، في الهيئة العليا للمفاوضات. وعند هذه الأخيرة التقت، على ما يبدو، أعلى درجات الاستنزاف مع أقصى مستويات التكتيك السياسوي، عَبْرَ التصالح منذ اللحظة الأولى مع كونها أداة تكتيك سياسي ليس عليها أن تُوجِّه أي تعريف واضح عن نفسها وتمثيلها للرأي العام، ولا أن تقدِّم أي شكل من الوثائق البرامجية والأهداف، عدا ما يصدر من تصريحات أعضائها وتحليلاتهم على وسائل الإعلام، أو ما تنشره مُعرِّفات الهيئة على وسائل التواصل الاجتماعي.

بالمحصلة، نرى غياباً تاماً للوضوح لدى مختلف بُنى المعارضة السورية الحالية بخصوص ماذا تمثّل هي كمؤسسات سياسية: هل تمثّل مجموعة من السوريين المعارضين المتفقين على أهداف معيّنة، ويوحّدون جهودهم من خلال هذا الكيان السياسي؟ هل تمثّل كلّ أو غالبية المعارضين السوريين الساحقة؟ هل تمثّل – أو تقدر على تمثيل – كلّ السوريين بما يُشرعِن لها طرح نفسها كجهة قادرة على تشكيل حكومات وحدة وطنية انتقالية؟ أم هل هي فريق تفاوض ناتج عن معادلات موازين القوى الإقليمية والدولية. ولا يؤثر غياب الوضوح هذا على دور المؤسسات السياسية المعارِضة فقط، بل أيضاً على حياتها الداخلية، وماذا تعني العضوية فيها، وماذا تمثّل، وكيف يُعبَّر عن هذا التمثيل.

ثانياً: كيف يتمثّل السوريون في أجسام المعارضة؟ 

عبر وضعها كنقاط لطرح الأسئلة التحليلية بشأن التعريفات والبُنى التنظيمية والوقائع، تفيد الرؤى الأربع للتمثيل السياسي، التي قدّمتها حنّة بيتكِن في كتابها مفهوم التمثيل المذكور أعلاه، في المرور عبر كيفية تعامل بُنى المعارضة السورية الرئيسية مع مسألة التمثيل السياسي: كيف تقدّم هذه البُنى السياسية – ضمن الالتباس المُشار إليه أعلاه حول تعريفها لنفسها – معنى العضوية فيها؟

على مستوى التمثيل الشكلاني، أي محاولة التفكير في المعنى «الرسمي» لأن تكون عضواً في هذه الكتلة المعارضة أو تلك، نرى أن الالتباس هنا هو وليد التباس معنى الكتلة السياسية كمؤسسة، وتعريفها لنفسها ودورها. فمثلاً، عضوٌ ما في المجلس الوطني السوري هو جزء من بُنية تقدِّم نفسها كجهة قادرة على أن تكون بمثابة مجلس حكم انتقالي؛ لكنها في نفس الوقت جزء من مظلة – هي الائتلاف الوطني – تطرح نفسها كنوع من برلمان مؤقت، يُقِرّ تشكيلات حكومية ولديه مكاتب تمثيلية وبعثات دبلوماسية، ويحوي توزيعات وحصصاً لتمثيلات محلية على مستوى المجالس المحلية ومجالس المحافظات؛ لكن هذا الائتلاف هو أيضاً جزء من الهيئة العليا للمفاوضات، حيث تتواجد هناك على المستوى نفسه تكتّلات حزبية وتجمعات مستقلين (مثل منصتَي القاهرة وموسكو) وممثلو فصائل عسكرية، يُفترَض أن بعضهم أصلاً جزء من الائتلاف.

على الصعيد الشكلاني، أيضاً، ثمة ضبابية تامة في آليات الاختيار والتجديد والمحاسبة. صحيح أن ظروف الواقع السوري القاهرة تفرض الاعتماد على آليات التفاوض والتوافق والمشاركة المحاصصاتية ضمن أطر تحمل أهدافاً مشتركة، لكن يظهر واضحاً في حالة كل البُنى المعارضة أن الرأسمال الرمزي والعلاقات الإقليمية والحضور الإعلامي هي عوامل تثقيل غير رسمية ولا علنية للاختيار والتجديد. ولا آليات محاسبة واضحة في أيّ من البنى المذكورة.

وبما يخص التمثيل الرمزي، أي معنى تمثيل ممثّل ما للمجموعة التي (يفترض أنه) يمثّلها، فنجد أن كل واحدة من البُنى السياسية المُلاحَظة، على اختلافات تعريفاتها الملتبسة لنفسها، تفخر بتنوّع كبير في الكُتَل والأحزاب والشخصيات والإثنيات والطوائف والمناطق المتمثلة فيها، فهيئة التنسيق أعلنت في بيان تأسيسها أنها ناتجة عن «تسع قوى قومية عربية ويسارية وماركسية، وأحد عشر حزباً كردياً، وشخصيات من الاتجاه الإسلامي الديمقراطي، ومن قطاع المرأة، وعدد من الشخصيات الوطنية العامة في سورية، كما وقَّعَت عليها شخصيات سورية في أوروبا». ويبدو واضحاً في هذه الصياغة أن الإقبال على الإتيان بمصفوفة توحي بتنوّع كبير يطغى على الانشغال بصياغة منطق ومعنى لهذا التعداد التنوّعي، الذي يوحي، مثلاً، وكأن «قطاع المرأة» تيار سياسي كأي واحد من القوى الماركسية أو القومية العربية أو الكردية. هل يجب أن نفهم إذاً، حسب الصياغة، أن كل ما عدا «قطاع المرأة» مكون من رجال حصراً، وأن المرأة لا يمكن أن تكون إلا «قطاع مرأة»؟

من جهته، يشير المجلس الوطني في بيان أهدافه إلى أنه «بتنوع الكتل السياسية الممثلة فيه يضمن وحدة الشعب ووحدة الهدف السياسي في إقامة دولة ديمقراطية حرة». من جهته، تساعد نظرة إلى تركيبة الهيئة العامة للائتلاف على ملاحظة كيف أن هاجس التنوّع قد طغى على المنطق العملي للتنوّع من حيث ضرورة أن يكون التنوّع مفيداً للعمل السياسي، أو ذا منطق معيّن يساعد على التكامل. ففي الهيئة العامة للائتلافالحياة، تركيبة الهيئة العامة للائتلاف الوطني، ديسمبر 2012. تمثّلت – على المستوى نفسه – كُتَل إثنية وقومية، ومجالس تمثيل محلي، و«عشائر»، ومجلس رجال دين، وأحزاب سياسية، و«شخصيات مستقلة»، و«رجال أعمال»، والمجلس الوطني السوري (الذي يفترض أنه يحوي أساساً ممثلين عن أغلب ما سبق). لو فكرت بنفسي وموقع تمثيلي في الائتلاف، فسأحتارُ في معرفة أين أُمثَّلُ أنا في مصفوفة التنوّع الملوّن هذه طالما أنها كلها على قدم المساواة؟ هل يمثلني المجلس المحلي للرقة (وهل هو جسم إداري أم كيان سياسي أصلاً؟)، أم «كتلة العشائر» (إذ يبدو أن هناك نسخة من مبدأ فوق-دستوري سوري ما، تقول إن كل ما هو شرق طريق حلب-دمشق ليس إلا «عشائر») أم ممثلو الحزب الذي أنتمى له (أو ربما يمنع انتمائي العائلي لعشيرة ما من أن يكون لي أيديولوجيا وانتماء حزبي، ما لم أتبرأ رسمياً من منبتي الأهلي وأنقل تمثيلي من «عشائر» إلى خانة أخرى)؟ أما الهيئة العليا للمفاوضات فهي نتاج محاصصة كل ما سبق مع كُتَل و«منصات» من خارج الائتلاف الوطني، ومع فصائل عسكرية، على أسس يبدو فيها دور القوى الإقليمية الراعية لكل جهة أقوى من أي عامل آخر لدرجة عدم الانشغال ولو بتقديم مصفوفة تنوعات مهنئة للذات كما التي سبق عرضها.

تُرجعنا نظرة إلى خريطة الكُتَل والتمثيلات الحاضرة، في كل بُنية سياسية من بُنى المعارضة، إلى قوّة حضور المنطق الائتلافي الاستيعابي كنموذج وحيد في عمل المعارضة السياسية السورية حتى الآن: كلما كان عدد المختلفين فيما بينهم أكبر، وكلما كانت مسافات ومستويات الاختلاف وتنوّعاتها أكثر، كانت رمزية التمثيل أقوى. بمعنى آخر، يبدو جمع مختلفين، أياً كانوا، وأياً كان اختلافهم، هو «التمثيل الرمزي» وفقاً للنموذج الائتلافي الاستيعابي، ولا أهمية أمام إحرازه لأي اعتبار آخر، من قبيل التبعات العملية للاختلاف، أو طريقة توظيفه على مستوى السياسات العملية، الأبعد من المشهد الرمزي، وعلى أهمية هذا الأخير.

أما مستوى التمثيل الوصفي، أي مدى شَبَه المُمثَّل بالذين يُمثّلهم، ومشاركته لهم في المصالح وفي الخبرات الحياتية، ففيه من الإشكاليات الواجبة التفكير ما قد يدعو لدراسته بشكل مستقل وأكثر تعمّقاً في المستقبل. أول تلك الإشكاليات أن هناك تمثيلات لبُنى أهلية، طوائف وقوميات و«عشائر» في هيئات المعارضة السورية، ما يستدعي بناء صورة نمطية في السلوك لممثلي هذه البنى الأهلية كجزء من ممارستهم السياسية، وإقامة اعتبار لمنظورات جوهرانية ليست فقط غير واقعية، بل إنها مؤذية على الصعيد السياسي. عدا ذلك، يفتح هذا المجال النقاش حول «أصيلانية» سوريين ما مقابل سوريين آخرين، كبناء متقابلات بين سوريين يُشبهون «غالبية» مُتخيَّلة من السوريين مقابل سوريين آخرين «متغرّبين» (وهو نوع من المتقابلات يُقبِل عليه الإسلاميون عادةً بكثافة في البلدان العربية). وفي حالة السياسيات النساء، يبدو أن تقييم مدى «تمثيلية» سيدة ما هو مجال خوض أكثر إصراراً وعنفاً من مثيله بين الرجال في السياق السوري (والسياقات العربية عموماً)، ويدفع نحو اعتبار النساء كتلة واحدة متجانسة، منسجمة في مخيال شديد المُحافَظَة عنهنّ.أشارت ليلى العودات إلى هذه المسألة في معرض نقاشها حول أزمة الديمقراطية التمثيلية في مقال منشور في الجمهورية (آب 2019).

أخيراً، على صعيد التمثيل الفاعلي، أي مجمل السياسات التي يُمارِسها الممثلون السياسيون، فيجدر القول إن فاعلية المعارضة السورية، أكان على صعيد البُنى أو الأفراد، هي تحت رحمة الظروف القاسية التي يعيشها البلد، وضمن الواقع السوري الذي بات شديد التدويل، ويتضمن وجوداً عسكرياً مباشراً لأربع من خمس دول دائمة العضوية في مجلس الأمن، فيما قدرة المعارضة السياسية على التأثير في هذا الوضع ضعيفة للغاية، بغض النظر عن مدى صحّيّة حياتها السياسية الداخلية. في هذا تَفهُّم للمعارضة السورية بقدر ما هو إشارة إلى أن جزءاً كبيراً من نشاطها الحالي ليس إلا شهادة زور في أروقة مُسايَسات القوى الإقليمية والدولية، صاحبة القرار الفعلي في سوريا.

خاتمة 

من المُنصِف قول إن ظروف المعارضة السورية خلال العقود الثلاثة السابقة للثورة كانت مسوِّغاً مشروعاً للتفكير بالنموذج الائتلافي كخطة عمل، ومن المُنصِف كذلك الإقرار أن لحظة التحشيد التي عنتها الثورة السورية كانت دافعاً للذهاب بهذا النموذج إلى أقصاه، ضمن ظروف أشد قسوة. لكن، يُلوى ذراع هذا الإنصاف كثيراً إن لم يُقَل إن هناك الكثير من اللوم اللازم للمعارضة السورية، لأسباب كثيرة، من بينها خِفّة – باتت منذ سنوات كاريكاتيرية – في التعامل مع مسألة التمثيل السياسي. ويجب على هذا اللوم اللازم أن يتجاوز افتراض حسن النيّة ضمن ظروف قُصْوَوِيّة نحو إدانة الإصرار على إنتاج «تنوّعات» زائفة، مناقِضة لبعضها غالباً، وليس تحتها فعلياً إلا الإصرار على «تنوُّع مطلوب» ما. دون لحظة حشدية فعلية، ودون وعي كامل بمؤقتيتها، يصير المنطق الائتلافي حُكماً معادياً للسياسة وحابساً لها.