في الخامس عشر والسادس عشر من آذار (مارس) 2011 انطلقت مظاهرتان: الأولى في سوق الحميدية ومنطقة الحريقة الملاصقة له، والثانية في ساحة المرجة وسط العاصمة دمشق. كان ما جرى في هذين اليومين هو الإيذان الفعلي بأنّ انتفاضةً ستنطلق في البلد، مع أنّ تلك التجمعات لم تكن الأولى منذ الربيع العربي، إذ كان قد سبقها احتشاد احتجاجي في الحريقة في السابع عشر من شباط، واعتصامات أمام السفارتين المصرية والليبية لدعم الثورات هناك. كما كان طلاب أكراد قد أقاموا في الثاني عشر من آذار، ذكرى انتفاضة عام 2004 الكردية، وقفة صامتة أمام كلية الحقوق في جامعة دمشق.
يُسجِّل هذا المقال تفاصيل ما جرى في يومي 15 و16 آذار، بشهادات مشاركين في تلك المظاهرات، وبالاعتماد على مراجعة وسائط متعددة وأخبار نُشرت في تلك الفترة، للوصول إلى التفاصيل الأكثر دقّة لحدثين يُشار إليهما باعتبارهما أول أنشطة الثورة السورية.
تمّ تسجيل شهادات كاملة عن المظاهرات مع كل من أوس المبارك ومروة الغميان عن مظاهرة 15 آذار، وأسامة نصّار عن مظاهرة 16 آذار، كما جرى سؤال عدد من المشاركين الآخرين في المظاهرتَين عن تفاصيل قد تكون غابت عن الشهادات الكاملة.
15
لم نستطع الوصول إلى المنظمين الأساسيين لمظاهرة الخامس عشر من آذار عام 2011 في سوق الحميدية بمدينة دمشق، لكنّ المشاركين اتفقوا على أنّ المنظمين كانوا مزيجاً من شباب مسيَّسين وناشطين من مدينة دمشق. وكانت قد سبقت ذلك عدة دعوات للتظاهر عبر صفحات قد أُنشئت على موقع فيسبوك، من بينها على سبيل المثال الدعوة ليوم الغضب السوري بعد صلاة الجمعة في الرابع من شهر شباط (فبراير).
لم تنجح أي من تلك الدعوات في إشعال أولى مظاهرات الثورة السورية، ولذلك لم تكن توقعات الجميع كبيرة تجاه الدعوة التي أطلقتها صفحات على فيسبوك للتظاهر يوم الثلاثاء 15 آذار (مارس) 2011 في سوق الحميدية، حتى بالنسبة للذين كانوا قد قرروا الذهاب والمشاركة في المظاهرة حال خروجها.
كان من المقرَّر أن يتم التجمع، عند الظهيرة، أمام باب الجامع الأموي المقابل لسوق الحميدية، لكنّ تجمّع الأمن في المكان أدّى إلى تأخّر لحظة البدء، ما دفع أحد الشبان المشاركين في المظاهرة إلى افتعال مشكلة مع أحد عناصر الأمن في سوق الحميدية كي تكون حجة لتَجمُّع الناس. قام الشاب باعتراض عنصر الأمن الذي كان يحمل كاميرا ليصوِّر الناس قريباً من باب الجامع، وسأله عن هويته. العنصر أجاب بكل صراحة بأنّه تابع للأمن. عندها بدأ الإشكال، وتجمّع الناس في بداية سوق الحميدية، وبدأت الهتافات «سورية حرة حرة» و«الشعب السوري ما بينذل»، وعند تجمّع عدد جيد من المتظاهرين قريباً من القوس الروماني مقابل الباب، بدأوا بالمسير في سوق الحميدية التاريخي، ثم باتجاه ساحة منطقة الحريقة التجارية عبر أحد الشوارع المتفرعة عن الحميدية، مُطْلِقين هتافات تحث الناس على المشاركة في المظاهرة مثل «وينك يا سوري وينك». في تلك اللحظة رفعَ أحد المتظاهرين كاميرا هاتفه المحمول، وصَوَّرَ الفيديو الأشهر من تلك المظاهرة ليوثّق انطلاقة أولى مظاهرات الثورة السورية.
,
تتفق شهادات المشاركين بأنّ عدد المتظاهرين في تلك اللحظة كان قد وصل إلى ما بين 150 و200 متظاهرة ومتظاهر، دخلوا مجتمعين إلى أحد شوارع الحريقة، متجهين نحو ساحتها التي تتوسط الحي التجاري الأبرز في العاصمة السورية.
في تلك الأثناء، قام عدد من عناصر الأمن باللباس المدني بتطويق المظاهرة، واندفع عدد من الأشخاص باللباس المدني للهتاف تأييداً لبشار الأسد، محاوِلين التغطية على أصوات المتظاهرين الذين رفعوا أصواتهم لتسجيل أول مظاهرة ضد بشار الأسد في مدينة دمشق. في تلك اللحظة بدأ عناصر الأمن بجرّ متظاهرات ومتظاهرين إلى خارج التجمع لاعتقالهم، وبالفعل جرى اعتقال عدد غير محدد تماماً بالقرب من ساحة حي الحريقة، وتفرقت المظاهرة الكبيرة بعد الاعتداء بالضرب على عدد من المتظاهرات والمتظاهرين. استمرّت تلك المظاهرة لأقل من ربع ساعة، لكنها كانت كافية لتسجيل اختراق كبير في الستار الحديدي الذي صنعه النظام حول سوريا، فقد وصلت أخبارها إلى وسائل الإعلام في المنطقة والعالم، وتم بثّ الخبر الذي اعتُبر حدثاً هامّاً للغاية وسط الغليان في المنطقة.
بعد التفريق العنيف للمظاهرة واعتقال أعداد من المشاركين، قام بعض المتظاهرين الناجين من الاعتقال بتنفيذ ما جرى الاتفاق عليه سابقاً، وهو إعادة التجمع عند ساحة الجامع الأموي إذا ما تمّ تفريق المظاهرة. ذهب عدد قليل هذه المرة إلى ساحة الجامع الأموي، من بينهم مروة الغميان ونورا الرفاعي وسامي دريد الذين قاموا بالهتاف هناك، إلّا أنّ عناصر الأمن قاموا بمحاصرتهم واعتقالهم على الفور، واقتيادهم إلى فرع الأمن الداخلي 251 التابع لجهاز المخابرات العامة، المعروف باسم فرع الخطيب.
هذا التسجيل المصور الشهير أيضاً يوثق ما جرى في تلك اللحظة.
,
16
قبل نحو أسبوع من ذاك، اجتمع أهالي معتقلي رأي وناشطون حقوقيون من أجل تنظيم اعتصام أمام وزارة الداخلية للمطالبة بالإفراج عن المعتقلين في سجون النظام السوري. وقام المنظمون بإطلاق مناسبة على فيسبوك من أجل هذا الاعتصام، لنشر الخبر بين السوريين الذين كانوا قد بدأوا بامتلاك حسابات عليه بكثافة متسارعة منذ فترة قريبة، ولا سيما بعد رفع النظام السوري للحظر عن الموقع قبل حوالي شهر.
كان قد تقرّر التجمع في ساحة المرجة، ومن ثم الانطلاق إلى وزارة الداخلية القريبة منها، في الساعة الثانية عشرة ظهراً، إلّا أن أوائل الواصلين كانوا قد وجدوا استنفاراً أمنياً كبيراً في المنطقة وحضوراً لأعداد كبيرة من عناصر الأمن باللباس المدني.
اتجه الشهيد يحيى شربجي مباشرةً إلى أحد الأبنية المحيطة بساحة المرجة (بناء الحافظ) من أجل تصوير المظاهرة من هناك، لكنّه بعد دقائق أخبر صديقه أسامة نصّار، الذي كان متجهاً إلى الساحة، بأنّ أحد عناصر الأمن استولى على الكاميرا، وأخذ هويته وطلب منه الانتظار في مكانه، ليتم اعتقاله بعد دقائق من هذه المكالمة التي جرت قبل الثانية عشرة بدقائق قليلة.
انطلق المتظاهرون في مسير نحو الشارع المحاذي لوزارة الداخلية قبل حوالي عشر دقائق من الموعد المحدد، وذلك كي لا يتم اعتقالهم قبل خروج المظاهرة. وبالفعل، قام عناصر الأمن المحيطون بالساحة بالتهجّم فوراً على المتظاهرين وضرْبهم واعتقال عدد منهم، وكان من بين المعتقلين المحاميان مازن درويش وأنور البني.
كانت مجموعة من صبايا وشباب داريا، تضم أسامة نصّار وميمونة العمّار، قد وصلت بعد ذلك بدقائق قليلة، لتجد لافتات المتظاهرين وصور المعتقلين الذين طالبوا بالإفراج عنهم ممزَّقةً في أرض ساحة المرجة. على الرغم من ذلك، قاموا بالتجمع في الزاوية المقابلة لمجمّع يَلبُغا الذي كانت تقف بالقرب منه حافلات تابعة لأجهزة الأمن.
في تلك اللحظة علت أصوات من شارع مؤدّي إلى ساحة المرجة، عندما حاول عدد من المتجمعين هناك التظاهر مجدداً. توجهت مجموعة صبايا وشباب داريا إلى المكان فوراً، وفي تلك اللحظة قام عدد من العناصر باللباس المدني برفع لافتات مؤيدة لرأس النظام السوري بشار الأسد والهتاف له بصوت عال.
قام عناصر الأمن بمحاصرة المتجمعين وحاولوا اختطاف عدد منهم لاعتقالهم، وعند مطالبة المتجمعين باستعادة المختطفين قاموا باعتقال كامل المجموعة، أولاً في محل للحلاقة قريباً من المكان، ومن ثم إلى الحافلات التابعة لأجهزة الأمن. تم اقتياد المعتقلين إلى أفرع أمن مختلفة، من بينها فرع المنطقة التابع لشعبة المخابرات العسكرية.
يومان متتاليان شهدا مظاهرتين في مدينة دمشق، وكان من الصعب تَخيُّل خروج واحدة منهما قبل ذلك بأشهر قليلة، أو ربما حتى أسابيع. وعلى الرغم من تنظيم ناشطين حقوقيين ومعارضين سياسيين لأنشطة احتجاجية ووقفات تضامنية مع معتقلين سياسيين سابقاً، إلّا أنّ عدد وتنوّع المشاركات والمشاركين في هاتين المظاهرتين، ونوعية الشعارات التي رُفعت فيهما، كانت على ما يبدو حدّاً فاصلاً يعتبره كثيرون انطلاقةً للثورة في سوريا. كان أبرز ما ميَّزَ المظاهرتين، خاصةً مظاهرة الخامس عشر من آذار، الحضور الواضح لشباب وشابات لم يكونوا ينتمون لبيئة المعارضة السياسية التقليدية، ولا لأجواء المحامين والحقوقيين الناشطين في مجال حقوق الإنسان والنضال من أجل معتقلي الرأي.
نرفع في ذكرى الخامس والسادس عشر من آذار وردةً للشهداء والمعتقلين والمخطوفين الذين شاركوا في مظاهرات هذين اليومين، وللناجين منهم ولجميع السوريين أملاً ببلد أفضل وكرامة وعدالة وديمقراطية.