قبل كل شيء، أشكر سعاد لعبيز وسدريك مولينو على هذه الفرصة للكلام.
في ربيع 2015 تسنّت لي الفرصة لأن أتكلم هنا في تولوز عن الأمل، وأن أتأمل في قوته وهشاشته. كان سمير عرابي ورواء بشيتو مع «لجنة التضامن تولوز سوريا» شركاء في تنظيم الدعوة وفي الترجمة. بعد ما يقترب من ست سنوات، يُسعدني أن أتكلم في تولوز مجدداً عن الأمل واليأس، وهي أحوال للنفس تناوبتُ بينها، مثل سوريين كثيرين، خلال عشر سنوات. سأقول شيئين متناقضين من منطلقين متقابلين: فبقدر ما ننظر في المعطيات الحالية وتطوراتها المحتملة، فإنها تُسلّمنا لليأس لا لغيره بفعل فظاعتها خلال عشر سنوات كاملة؛ أما إذا فضلنا الانطلاق من أولوية الأمل من أجل الحياة والفعل، فيجب أن نُعوّل على المتخيَّل الممكن التحقُّق، لا على الواقع المحقَّق، وعلى الطاقات الإبداعية لا على المستقر من عوائدنا وعقائدنا.
واقع اليأس
أبدأ من السجل الواقعي. بعد عشر سنوات من الثورة السورية، الوقائع الأساسية معروفة: نصف مليون قتيل على الأقل (نكرر هذا الرقم منذ أربع سنوات ونيف خشية من المبالغة)؛ ستة ملايين ونصف لاجئ خارج البلد؛ ما قد يصل إلى نصف ترليون دولار من الخسائر المادية، أي ما يقارب عشرة أضعاف الناتج الوطني الإجمالي قبل الثورة؛ نحو 90% من السكان في الداخل تحت خط الفقر بحسب الأمم المتحدة، و12,4 مليون، أي ما يقترب من 60% من السكان غير آمنين غذائياً، ما يعادل مجاعة متسعة النطاق؛ وقوع البلد تحت أربعة احتلالات أجنبية جديدة: إيران، أميركا، وروسيا وتركيا، تضاف إلى الاحتلال الإسرائيلي الأقدم، وتصنيع كل منها لسوريّيها الخاصين، وانقسام البلد عملياً إلى أربع سوريات؛ والأهم من كل ذلك هو بقاء نظام إبادي، وإن بحماية أجنبية، ما يعني حرمان عموم السوريين من وعود، ليس بحد أدنى من العدالة والكرامة في وطنهم، بل بمجرد أن يكون الأسوأ صار وراءَنا. بقاء الحكم الأسدي ورعايته من قبل دول نافذة يعني أن كل ما وقع إلى اليوم هو ثمن للا شيء، أن آلام السوريين ومعاناتهم لا تعني شيئاً في النظام الحالي للدولة والسياسة، وأن ما هو أسوأ مما وقع سلفاً ما يزال ممكناً.
ما حدث خلال عشر سنوات طويلة في سوريا يرتفع إلى مستوى إبادة الأمل (speicide)، المفهوم الذي أرى أنه يدل على واقع حقيقي، يتمثل جوهرياً في إغلاق أي نوافذ للتغيير والعيش في حاضر مؤبَّد، وامتناع الوعد بأن الغد سيكون أقل سوءاً، وبأن من خسروا الخسائر الأكبر سيُنصَفون أو على الأقل يُعترف بخساراتهم وآلامهم. وبموازاة قتل الأمل، يجري إنتاج اليأس وتعميمه، فيتحول السوريون إلى كائنات تحت-سياسية، تتكيف سلباً مع أوضاع لا تطاق. طوال أربعين سنة قبل الثورة، كان اليأس في سورية نظاماً سياسياً، نظام أوضاع مزمنة لا تتغير، قائمة على الامتياز والتمييز، تَسُدّ الأفق أمام السوريين جميعاً، بمن فيهم الموالين. رمز اليأس هو دوام حكم الأسرة الأسدية منذ 51 عاماً. عملياً، هذا يعني سجناً مؤبداً لشعب لا تتجاوز نسبة من هم فوق 60 عاماً من سكانه 4%.
يصعب على من هم من جيلي ألا يُدرِجوا الجولة المريرة الحالية من صراعنا في سياق أطول، يشمل بخاصة جولة سابقة من الصراع، اتسمت بمنزع إبادي، استمر طَورُها الحاد لزمن أقصر، وقضى فيها عشرات الألوف، واعتُقل وعُذِّب مثلهم. أقعدت تلك الجولة من الصراع أكثرية السوريين عن السياسة طوال ثلاثة عقود. كان مزيج من نزع السياسة وزرع العنف ومن التمييز الطائفي قد ولّد أزمة ثقة وطنية دائمة، ورَدَّ السوريين إلى مجموعات بشرية لا تجمعها مطالبات عامة ولا شعور جامع ولا إرادة عيش مشترك. ما وقع خلال السنوات العشر المنقضية أكبر مما وقع مطلع الثمانينات الماضية بعشرين مرة، إن من حيث عدد الضحايا أو الخسائر، أو من حيث انهيار الإطار الوطني للصراع منذ وقت مبكر من العقد، أو من حيث قوة المنزع الإبادي. فإذا كان جيل كامل أو ثلاثون عاماً انقضت بعد حماه 1982 قبل أن تنبعث روح الاحتجاج والأمل بين السوريين في ربيع 2011، فلا يَبعُد أن ينقضي جيلان أو ثلاث قبل أن تنبعث روح مماثِلة بعد هذه الجولة الإبادية. هذا قياس تبسيطي بطبيعة الحال. فعدد المجاهيل هذه المرة أكبر، ومنها الاحتلالات الخمس المذكورة، ومنها احتمال تمادي تقسيم البلد وتحوُّله من انقسام واقعي إلى انقسام قانوني، ومنها كذلك تمادي شرط اللجوء وعيش نحو 30% من السوريين خارج بلدهم منذ ست سنوات أو سبعة، ومنها ما يبدو من أن الأمور لا تزال سائلة جداً ويتعذر توقع اتجاهاتها. لكن يبدو أن كل ما قد نفكر فيه كعوامل تُعقّد تقدير المستقبل تدفع نحو تقديرات أقل تفاؤلاً من حيث فرص التعافي الوطني، وليس نحو العكس.
فإذا صح هذا التقدير، فإن القرن الحالي – الحادي والعشرين – يبدو في حكم الضائع سياسياً سلفاً. وظَاهِرٌ على كل حال أن السوريين، بمن فيهم النظام بقدر ما، قد خرجوا من السياسة، أي من تقرير مصيرهم ومن التأثير على العمليات التي تحدّد مستقبلهم. هناك سوريون في الداخل والخارج، لكن لم تعد ثمة سوريا كإطار للسياسة – كوطن – أو كوحدة مصير.
من أجل مثال وسابقة تاريخية يُستأنس بها، ليس هناك أقرب من فلسطين. تفاوتت سياسات الفلسطينيين بعد قيام إسرائيل تفاوتا كبيراً، لكن الحتميات الدولية قلّلت الفروق بين خياراتهم من حيث النجاعة إلى أدنى حد، وحكمت عليها جميعاً بأن تكون بلا محصول. وهذا لأنه، في عين أعدائهم الأقوياء، وجود الفلسطينيين بحد ذاته – وليس سياساتهم – هو المشكلة. وليس هناك حل سياسي لمشكلة وجودية وفوق-سياسية بهذا القدر. نحن في وضع مُقارِب إلى حد بعيد، لكن دون صهيونية ودون هولوكوست. لا تُثمر سياساتنا المختلفة لأنه يبدو أن المشكلة هي في وجودنا كثائرين ومعترضين على الحكم الأسدي. الأخطاء الوفيرة من قبل المعترضين تحجب واقع أن وجودهم هو المشكلة، وأنه خلال خمسين عاماً، بل ثمانية وخمسين، لم يُقبَل يوماً حتى أكثرُهم اعتدالاً. استفتاءات التسعة وتسعين بالمئة كانت تقول أنه ليس في مواجهة الأسد غير اللاأحد، وهذا قبل أن يُترجَم ذلك إلى شعار معلوم. تغيَّر شكل الإبادة بعد الثورة، أما مضمونها فقديم قِدَمَ الحكم الأسدي.
سياسة الأمل
هل يعني ذلك لا-جدوى السياسة؟ يعني لا-جدوى سياسة معينة، هي التي نراها وحدَها تُمارَس من قبل لاعبين ومتلاعبين صغار متنوعين، يجمع بينهم أنهم تابعون للاعبين ومتلاعبين أكبر. لكن إن كانت مشكلة أعدائنا هي في وجودنا، فإن هذا يعني وجوب أن تكون سياستنا وجودية: إنتاج وجودنا الفاعل، المنشئ للمعاني والقيم والحقوق، وللتنظيم. وجودنا كمصير ممكن، وكحاملين لاسم ولقضية: قضية سوريا.
كانت الثورة سياسة وجود، تمرُّداً على الإبادة السياسية من قِبَل ملايين، هتفوا بملء الصوت أنهم موجودون، وأن سوريا لهم كشعب سوري واحد، وليس للأسرة الأسدية. سياسة الوجود هذه لم تنجح، بفعل متضافر من العنف الإبادي والتمييزي وتواضُع إنتاجيتنا من المعاني والقيم والتنظيم والحقوق. وفي مجرى السنوات العشرة، جرى التحول عنها ضمن طيف الثورة نحو سياسات-عدم إسلامية جهادية، أو سياسات تبعية متنوعة، أي سياسة-عدم كذلك. هذا يتمثل فيما تقدم قولُه من وجود أربع سوريات تابعة، فضلاً عن سوريا الشتات أو اللاجئة. وكذلك في أشكال شيطانية من الإسلامية تلبّست الثورة، وانحصرت بين العدمية والتبعية.
فإذا كان الأمل مُنطلَقَنا، فإن سوريا المأمولة لا يمكن أن تكون سوريا البعثية والأسدية بطبيعة الحال، حتى وإن بقي النظام لسنوات وعقود، ولا يمكنها في الوقت نفسها أن تكون سوريا ماضوية، قبل-بعثية وقبل-أسدية. سوريا التي تحمي السوريين من اليأس هي كيان سياسي يتعين تخيُّلُه، إيجادُه في الأذهان أولاً. وهي، لنكن واضحين، تجاوز لسوريا الثائرة نفسها بقدر ما نزعت هذه لأن تكون سوريا استبعادية، تميل إلى أن تطوي سلبياً صفحة الحقبة الأسدية والبعثية، وتسترجع زمناً أسبق. لم يكن ذلك الزمن الأسبق عظيماً، وإن كان هناك ما يمكن استلهامه منه، وإن كان لا يقارَن بلا ريب بالحقبة الأسدية التي هي حرب أهلية مستمرة، حرب استبعاد ونفي. لا يستقيم الدفاع عن تصور استيعابي لسوريا المأمولة على أرضية تصور غير استيعابي لتاريخها، يبتر حقبة بكاملها من هذا التاريخ.
وما دمنا في نطاق تخيل سوريا بعد-أسدية، فإن هناك أشياء بسيطة وأساسية على المستوى الرمزي لا بد من التعامل معها بعد تجربة السنوات العشرة، ما يتصل بالاسم والعلم والنشيد. تاريخ «الجمهورية العربية السورية» هو تاريخ الحكم البعثي والأسدي أساساً، وهو اسم لا يَستوعب التعدد السوري. نحتاج إلى التركيز على فكرة الجمهورية بمضمون مُعادٍ للتوريث والسلالية أو السلطانية المحدثة، وعلى فكرة سورية بمضمون استيعابي. الأكثرية العربية التي نزفت معنوياً وخسرت المواطنة والحقوق، والكرامة، خلال سنوات استخدام اسمها شكلياً، لن تخسر بعدم استخدامه. سيتوقف النزف المعنوي على الأقل. الجمهورية السورية – أو ما يعادلها – اسم محتمل. ثم علم جديد يؤشر على استعداد لبداية مغايرة، ليس العلم الرسمي الحالي، ولا «علم الاستقلال» أو «علم الثورة» في رأيي، بفعل محدودية التماهي بأي منهما، لكن ربما مع الحفاظ على عناصرهما الأساسية بما يقيم استمرارية تاريخية لكيان البلد الفتي. ثم نشيد وطني أقل عسكريةً وماضويةً وإمبراطوريةً وعُظاميةً، نشيد يُحيّي كفاح السوريين ويؤكد معاني رفض الذل وإرادة الوحدة السورية ورفض الأبد. على أن يجري ذلك كلُّه بروح من التسامح والاحترام، لا بتعنّت أو تحايُل، باستيعاب لا باستبعاد أو إقصاء، وقبل كل شيء على أرضية نقاش عام مفتوح وواسع.
بعد كل ما جرى خلال عشر سنوات، لا تقوم سوريا الموافقة للأمل على حصر التغيير بالنظام، بل هي تقتضي تغييرات أساسية في الكيان. لقد نشأ بلدنا في علاقة غير طيبة بنفسه، مبعثُها التباين الواسع بين وعي الذات وبين الواقع التاريخي. وإصلاح هذه العلاقة يقتضي التقريب بين الوعي والواقع على نحو يقرب سوريا من السوريين.
من شأن ذلك أن يعطي السوريين بداية على مستوى التخيل تؤسِّس لتراكم جديد.
نحن موجودون، نفكر ونتخيل ونحاول بناء شبكاتنا والعمل مع شركاء. سياسة الوجود أو تخيُّل وجود مختلف هي سياسة للأمل، بقدر ما أنها تتوافق مع نهاية الأبد وبداية مغايرة. وهي استئناف لما تطلعت إليه الثورة: امتلاك السياسة والبلد، وإن تكن استئنافاً تجاوزياً، يُدرج الصراع ضد الأسدية وحُماتِها في سياق الصراع ضد شياطين الثورة، ضد روح التمييز والنفي التي أخذت تتوطّن فيها بقدر ما هي تعثرت في مواجهة النظام. الوفاء لروحية الثورة السورية يقتضي قطيعة مع تصور الثورة كانقلاب سني أو ما يقاربه، أي كإنتاج للتمييز ولليأس السياسي على أسس جديدة؛ لأسدية سنية. وحشية النظام والاستماتة في صراعنا أضعفت فرص التمايز عن انقلابيين في إطار الثورة يريدون لأنفسهم جولة أو جولات لا تنتهي، «أبداً»، في الحكم. سياسة الأمل تستأنف الثورة بخوض صراعات لا بد منها في أوضاعنا اليوم ضد التمييز الاجتماعي والديني، ضد التمييز ضد النساء، ومن أجل الحريات الاجتماعية والدينية. سياسة الوجود هي سُبُل تَدبُّرِ وجودٍ مُنشِئ وخلّاق معاً.
النظر بعينين
الأمل مسألة موضوعية وذاتية معاً، إن استخدمنا لغة قديمة. هناك ما يُحيل إلى واقعٍ خارجَنا، يفرض نفسه بقسوة متناهية: واقع الاعتقال والتعذيب والتغييب والقتل والتهجير واللجوء وفقدان الملكيات وتقطّع الروابط حتى ضمن الأسرة الواحدة، والانفصال عن محلات الذاكرة الأولى، والفقر والعيش في مخيمات… هذا «الواقع الموضوعي» سحق ويستمر في سحق آمال كثيرين منا. لكن بعض يأسنا ناشئ عن أننا لا نحاول بقدر ما يلزم الانفصال عن تراكيب اليأس وعلاقاته وعملياته، تراكيب اللا-حرية، عن ضعف إنتاجيتنا لمعانٍ وقيم ومتخيَّلات جديدة. أو بالضبط عن عدم تمكُّننا من تحقيق نهايات تُخفِّف أعباءنا وتُحرِّرنا مما هو ميّت أو مات خلال هذه السنوات العشر، واجتراح بدايات جديدة نكون فيها أكثر حرية وأقدر على الخلق. لدينا من التجربة اليوم، ومن القدرة على تقليب النظر، ما من شأنه أن يساعد في طيّ صفحات وبِدء سجلّات جديدة. الأمل سياسة، أي تخيُّل واختيار، وعمل على بناء الرؤى والبرامج والتنظيمات المناسبة، وليس حتمية تاريخية.
وفي مثل شروطنا الحالية، وقد خسرنا معركة التغيُّر السياسي، يمكن أن نعمل على تغيُّرنا نحن، تغيُّر تفكيرنا وحساسيتنا وتخيُّلِنا، على نحو يُغالب اليأس بكفاءة أكبر. الدرس الذي خرجنا به من تجربة جيلي، وهي تجربة هزيمة سياسية وخسارة تعريف للذات، هو أنه إن أردنا أن نحافظ على أهدافنا فلا بد من تغيير مناهجنا وأدواتنا، فإن لم نفعل كان مرجحاً أن نخسر أهدافنا ذاتها. أعتقد أن هذا الدرس صالح في مواجهة التجارب الأحدث، وإن كان مثيراً للغضب والحزن أن تتكرر الخسائر المهولة، وتُبتلَع أعمار أجيال. في الشتات على الأقل، نستطيع أن نعطي أنفسنا حرية لم تتحقق لبلدنا. ويمكن التفكير في نحو 30% من السوريين يعيشون بعيداً عن سيطرة النظام كفرصة لسوريا، كـ«منطقة محررة» فعلاً. ليست أوضاع كثير من اللاجئين جيدة، وهي أقرب إلى كارثية في لبنان وعسيرة في الأردن، وليست طيبة في أي مكان، لكن ستة ملايين ونصف متحررون من سيطرة نظام الأبد والإبادة؛ نظام اليأس الشامل، وهذه الحرية تجد لنفسها تعبيرات إبداعية سلفاً هنا وهناك، عند الجيل الأصغر، وبخاصة النساء. إبداعية حياتية ووجودية، وليس إبداعية ثقافية فقط. أعني تكوُّن ذاتيات جديدة، مستقلة، تخوض معارك تحرُّر تزداد جذريةً ولا تقبل التبعية لأحد.
إذا نظرنا بعين الواقع، فإن الشتات يمثل أحد أقسى أوجه المحنة السورية، أما إذا نظرنا بعين الأمل، فسنرى في الشتات بالذات وجه سوريا الحر. ليس هناك سبب لأن لا ننظر بالعينين معاً.