أثناء تعدادك للتجاعيد الصغيرة على وجهك، يأتي من يقول لك إنّ عشر سنين قد مضت. تشعر أنّك لا تكاد تميّز كل ما حدث بين صحوك ونومك، بين صحوك وموتك، تُطالعُ الرزنامة، وتحسب على أصابعك: سنتان، خمسة، سبعة، تسعة، عشرة… في الأولى كنتَ في ذاك المكان، في الثالثة كنتَ في غيره، في الخامسة في غيرهما أيضاً، وفي العاشرة أنت لم تعد تحصي الأمكنة، حيث أنك نسيت نفسك، ونسيك الزمن. وأنت ببساطة تريد لذلك أن يكون.

ولكن أين أنت؟

تتذكر ما كان منذ عشر سنوات، هم يُجبرونك على تذكُّره، رغم أنك تود أن تنسى، لا لشيء إلا لأنك لم تَعُد تحتمل الألم، لأنك لم تَعُد تحتمل تكرار الخسارات والدم والدمار والطين، لأنك اخترت ألا تقول أي شيء، أو تُضيف أي شيء، لأنك تعرف تماماً كل ما قيل، لأنك حفظتَه، سئِمتَه، لأنك تريد أن تنظر إلى الأمام وتنسى ما في الخلف. لكنّ الخلف ثقيل، ثقيل جداً، يسحبك دائما إلى الوراء، يشدُّك من ثيابك وشعرك، يتوسّل إليك ألا تتركه، وأن تجعله أمامك، وحين تُصغي له، يقول لك: آآآآآآآآه… فتملأ التنهيدة صدرك. تستسلم له، و تشفق على نفسك حين يحصل ذلك.

ولكن أين أنت الآن؟

أنا الآن في حمص، أمشي بين الشوارع، المهدَّمة منها وغير المهدَّمة، أَرقبُ الوجوه والأسواق والبضائع، أقول في نفسي: هذا الوجه القاسي الذي مرّ بي الآن يصلح أن يكون وجهاً لقاتل تحت الأرض، وذاك الوجه الطيب المسالم يصلح أن يكون وجهاً لشهيد مظلوم قُتِلَ برصاصة غادرة. ترتيب وجوه العابرين هوايتي في الطريق؛ هذا قاتل وذاك ضحية، هذا شهيد وذاك سفاح. أتوقف عند بعض الوجوه وأقول في نفسي: هذا القاتل ربما يُوقظه ضميره في الليل، وهذا الشهيد ربما كان له قصة لا يود أن يعرف بها أحد. أتوقف عن تصنيف الوجوه وأَنهرُ نفسي بأنّ هذا لا يجوز، لكني أقوم بمحاكماتي الصغيرة تلك كعجز أخير أحاول أن أُعالجه. العجز المتراكم يدفع المرء للقيام بأكثر الأمور بؤساً وخلوّاً من المعنى.

على الهاتف، يقول صوت حزين بأنّ العشر سنوات أخيرة قد مرّت مثل حلم طويل ما زلنا ننتظر نهايته، أُوافقه وأتأمَّلُ السماء حيث المطر يبدو كقضبان حديد، والشمس تبدو كحُزن أصفر. أُصيخُ السمع للناس فتبدو كلماتهم استعارات عاجزة عن هزيمة تستحي أن تقول عن نفسها أنها كذلك.

أفكّر في أنّ لعبة الجميع المُفضَّلة هنا هي أن يُسمُّوا الأمور بغير مسمياتها، فنحن نعيش «الحرب» منذ عشر سنين، و«الأزمة» الخانقة الآن سببها «الحكومة»، و«الحيتان» هم سبب فقر الناس، و«القيادة الحكيمة» تُصدر قرارات لا تُراعي ظروف الناس، و«الجهات المختصة» تُمسِك شابّاً وتقتله «بغير قصد».

الاستعارات الضعيفة هي طريقة الجميع للمكابرة على الحقيقة الغائبة، لكن كل ذلك له ثمنه، إذ يشعر المرء هنا أنه مسخ تماماً، وأنّ عقله ممسوخ مثله، وأنّ وجوده بحدّ ذاته ممسوخ. عليكَ أن تهدم كل شيء في صدرك لتبني وجودك الآمن هنا، عليكَ أن تكذب بكل ما يستطيع الكذب من الامتداد حتى تَقي نفسك، الخوف والإحباط هما مِداد يومك، وحين تُطالعك حقيقة ما، أو كذبة أكبر من احتمالك، فليس أمامك سوى الهروب، والاختباء، حتى يعود انتظام نَفَسِك، بعد أن ابتلعتَه حدَّ الاختناق.

وأنا الآن في حمص، أتوجّه بالكلام إليك، وأقول لك إنني ما زلت أمشي في الطرقات، وأُصغي لأصوات الغائبين. صوتُهم يُعذِّبُ المرء هنا، هم يتحدثون بالكثير غالباً رغم غيابهم. يقولون أحياناً مثلاً ننتظركم، يقولون مثلاً سنبقى حاضرين في صحوكم ونومكم، يقولون أيضاً نُراهِن على غضبكم وحزنكم، وأخيراً يقولون: سنبقى صامتين بانتظار كلمتكم.

يقول أحد الأصدقاء وهو يميل رأسه على كتفه: «أيامنا تمرّ لهواً بلهو»؛ نُطأطئ الرأس جميعنا بالموافقة.

يقول آخر: «عمرنا يضيع هباء في هذا البلد الحزين»؛ نطأطئ الرأس جميعنا بالموافقة.

يقول أحدهم: «ليت الذي كان ما كان»؛ ترتبك حركة الرؤوس وتبقى عيوننا في الأرض، بينما تنبتر الحروف. الكلام عن «الذي كان» يصبح لغزاً أحياناً، أو ماضياً سحيقاً يبدو من الأفضل تجاوزُه، أو ذكريات منتقاة لأحداث خرجنا منها سالمين بفعلِ شبهِ معجزة. أما أكثر من ذلك، يتلكؤ اللسان بالحديث، بينما تشتعل الذاكرة المتيقّظة بما كان.

يرفع ذاك الرجل إصبعه في وجهنا، وعِرقٌ ينبض في منتصف جبهته، ويقول لنا: «هي ليست انتخابات، بل تجديد بيعة، تجديد بيعة!»، نردد من ورائه خانعين، لكن حينما نعود إلى بيوتنا نردِّد ما سمعناه من ذاك الرجل وراء أبوابنا المغلقة ونحن نلعن ما قيل ومن قال.

تَزَامُنُ الأمرَين معاً ليس مما يسهل التعامل معه. تلك السيدة التي استُشهد زوجها، والتي نذرت يوماً أنها ستطبخ في الشارع وتوزع الطعام مجاناً في الطرقات إن سقط النظام، تكاد لا تصدّق أننا وصلنا هنا وصرنا نتحدث عن الانتخابات. ومثلُها كثيرون…

ليس من الضروري أن تأتي الذكرى العاشرة لنتحاور معها في صدورنا، لأنها تتجدد ولو بغير إرادتنا في صبيحة كل يوم نستيقظ فيه على حزن جديد. ليس من الضروري أن تكون ثوريّاً، بما تحمله الكلمة من فعل ومن تجاوزٍ للمعنى، لتؤكد أنك ترفض كل ما حدث ويحدث رغم عجزك الصارخ أمامه.

قد ينوء القلب أحياناً بما يتطلبه الموقف من تَجذُّرِ الفعل الذي عليك القيام به ولا تستطيعه، لكن القلب لا يستطيع سوى أن يدقّ حاملاً كل تلك الآهات والمشقات والخسائر، التي لا يمكن أن تُنسى أبداً مهما طال الزمن.

نحن هنا، ما زلنا نبحث عن نكتة ما لنبتسم وسط كل ما يجري، لكننا بالكاد نجد. لذا نُهرع إلى صفحات فيسبوك ونكرِّر ابتسامات ممجوجة في استعارة أخرى لضحكات فقدناها منذ سنين.

نحن ما زلنا هنا، في حمص. ما زالت الصلابة موجودة فينا. نمشي وننام ونأكل ونخاف ونحلم. المهم أننا ما زلنا نحلم. ويبقى الشيء الوحيد الذي نحن متأكدون منه أنّه لا يمكن لأحد استئصال ما في صدورنا ولا نزعه، مهما بدا خلافَ ذلك.