أثار قرار محكمة كوبلنز القاضي بإدانة إياد الغريب، الرقيب الأول المنشق عن مخابرات نظام الأسد، جدلاً واسعاً خلال الأيام الماضية، تضمَّنَ استعادة محطات من الجدل الذي كان قد طال المحاكمة ككل، أو بعض تفاصيلها، في وقت سابق من العام الماضي. ويتراوح الجدل الواسع، الذي كانت وسائل التواصل الاجتماعي ميدانه الرئيسي، بين موقفين متناقضين؛ أولهما يُظهِر حماسة بالغة لما يعتبره انطلاقاً لقطار العدالة في القضية السورية وبداية لمحاسبة النظام السوري على جرائمه، والثاني يعتبر أنّ المحكمة وما يتصل بها من أنشطة إعلامية فاقدةٌ للمصداقية بالكامل، أو لجزء من هذه المصداقية على الأقل، لاعتبارات عديدة منها ما يتصل بكيفية إدارة عملية التقاضي، ومنا ما يتعلّقُ بحقيقة أنها طالت عنصرين منشقين عن النظام السوري.

وكان الحكم الذي أدّى إلى تَجدُّدِ الجدل قد أُعلِنَ في الرابع والعشرين من شهر شباط (فبراير) الماضي، عندما أصدرت المحكمة الإقليمية العليا في مدينة كوبلنز غربي ألمانيا، قراراً يدين المتهم إياد غريب بـ «التواطؤ في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية تتمثل في التعذيب والسلب الجسيم للحريات في ثلاثين واقعة»، لتحكم عليه بالسجن لمدة أربعة سنوات وستة أشهر. وقد أثبت قرار المحكمة الألمانية في حيثياته ارتكاب جرائم ضد الإنسانية بشكل ممنهج في الفرع 251 التابع لإدارة المخابرات العامة (أمن الدولة)، وهو الفرع المعروف محلياً باسم فرع الخطيب، على اسم الشارع الذي يقع فيه الفرع في العاصمة السورية دمشق.

ينطلق الغاضبون على هذا الحكم من نقاط عديدة، بعضها متعلّق بالأداء الإعلامي المرافق للمحكمة واستراتيجية التقاضي، وبعضها متعلّق بالسياسة، وبعضها قانوني. سنحاول في هذا المقال تناول هذه الجوانب كلّها تباعاً.

في الأداء الإعلامي واستراتيجية التقاضي

تواجه إدارة هذا الملفّ من قبل المنظمات السورية العاملة في هذا الشأن انتقادات، وبعضها محقٌ بالفعل، من بينها أنه ليس ثمة أي استراتيجية واضحة للتواصل مع الجمهور السوري؛ هل ما يجري في كوبلنز هو محاكمة جنائية لمجرمين يواجهون الادعاء الشخصي لضحاياهم؟ أم أنّ المحكمة جزءٌ من جهد أوسع ضمن عملية التقاضي الاستراتيجي لدعم ومناصرة قضية المعتقلين السوريين في أوروبا والعالم؟ يتحدث محمد العبد الله في هذا المقال عن هذه المسألة الإشكالية بالتفصيل.

كذلك كان الأداءُ الإعلاميُ المُرافق لقضية كوبلنز، وخاصة تصريحات من قبل أعضاء في جهات سورية عملت على الملف، باباً لانتقادات واسعة محقة، خاصة لجهة الترويج لمحاكمة كوبلنز على أنها محاكمة للنظام السوري، وعلى أنها بداية النهاية للأسدية ولعصر الإفلات من العقاب في سوريا، وهو ما بدا بحق بالنسبة لكثيرين تضليلاً للرأي العام، حتى أن الادعاء العام الألماني أشار صراحة في إحدى مرافعاته إلى أن إياد الغريب «لا يمثل أمام المحكمة نيابة عن النظام السوري».

ترقى هذه الحماسة الكبيرة، التي تجاوزت إمكانيات المحكمة وظروفها، إلى أن تكون تلاعباً غير مقصود بمشاعر الضحايا وذويهم، لن ينتج عنه سوى مزيد من الإحباط في أوساطهم ومزيد من تراجع الأمل بتحقيق أي عدالة. عندما تتعهد للناس بأكثر بكثير مما يمكن تحقيقه، فإنك تفقد مصداقيتك وتؤذي قضيتك، هذا درسٌ أساسيٌ ينبغي أن يكون خصوم النظام السوري قد تعلموه خلال عشر سنوات مريرة.

فضلاً عن الأداء الإعلامي الإشكالي وغياب استراتيجية واضحة ومعلنة للتقاضي، تم توجيه انتقادات أخرى للمنظمات المدنية السورية العاملة على الملف بالشراكة  المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان، وهي الانتقادات التي فصّلها بشكل موسّع الحقوقي حسام قطلبي في مقال له عن شهادة فراس فياض في المحكمة. في الواقع، ربما يكون استخدام شهادات أشخاص محل شبهات في مسائل أخرى قراراً خاطئاً على الصعيد الإعلامي، كونه قد يفتح الباب للتشكيك في مصداقية المحاكمة، لكن هذا صحيحٌ نظرياً فقط، وإعلامياً فقط، غير أن أي فعل قد يكون ارتكبه فياض خارج سياق محاكمة كوبلنز لا يعني حرمانه من حقه في الشهادة بخصوص ما قد يكون تعرّضَ له من انتهاكات في فرع الخطيب أو غيره. ويبقى أن هذا النقاش كان يمكن له أن يكون صحياً ومفيداً، خاصة أننا سنشهد خلال السنوات القادمة ملفات قضائية ودعاوى كثيرة، لو أنه لم يشهد اتهامات متبادلة وكلاماً عنيفاً، من أمثلته الردود الغاضبة من قبل المحامي أنور البني، التي وصلت حدّ توجيه التهديدات لمن ينتقدون مسار المحاكمة.

ارتُكِبت خطايا إذن في سياق النقاشات المحيطة بمحاكمة كوبلنز، لكن هذا لا يعني بأي حال تجريد المحاكمة من قيمتها، ولا يعني التشكيك في صدقيتها ونوايا القائمين عليها. لقد أقيمت على هامش المحاكمة أنشطة مناصرة لقضية المعتقلين، كان أهالي المعتقلين وذويهم أحد الفاعلين الرئيسيين فيها، وقد أوصلت تلك الأنشطة قضية الاعتقال والاختفاء القسري في سوريا إلى واجهة النقاشات في الإعلام الغربي. تساهم تلك الأنشطة في دعم الأصوات السياسية الأوروبية المناهضة لاستعادة العلاقة مع النظام، وتجعل لخطوة كهذه ثمناً سياسياً قد لا تكون الأحزاب الأوروبية راغبة في دفعه اليوم أو خلال الفترة القادمة.

لكنَّ الأهم هو أن هناك محكمة ذات صدقية، أثبتت عبر عملية قضائية لا مجال للشك في نزاهتها، أن النظام السوري يرتكب جرائم ممنهجة ضد الإنسانية، حتى أن الحكم الصادر بحق الغريب كان يتضمن عبارات من قبيل أن «حافظ الأسد كان قد أسّسَ لحالة من انعدام الثقة المتبادلة والتجسس بين أفراد الشعب». كيف لوثائق قضائية، تتضمن توصيفات وشروحاً تاريخية على هذا القدر من التفصيل، أن تكون خدمة للنظام السوري؟ هذا القرار وثيقة قانونية يمكن البناء عليها في كثير من أنشطة المناصرة والدعم التي يمكن العمل عليها من أجل ملف المعتقلين في سوريا ومن أجل سوريا، وهو سابقة قضائية سيتم البناء عليها في أي محاكمة قادمة.

لن تكون إحدى تبعات محكمة كوبلنز جلب بشار الأسد أو علي مملوك إلى قفص الاتهام، لكنّها قد أنجزت في إطار المناصرة والدعم خطوات هامة للغاية، وهذا ليس إنجازاً صغيراً، خاصةً في ظل الترويج لانتصارات النظام العسكرية باعتبارها حلّاً للمسألة السورية. لن يقود هذا إلى سقوط النظام طبعاً، لكن رفضه بذريعة أنه لا يقود إلى تحقيق العدالة الشاملة ليس إلا ضرباً من العدمية والرغبة في تعطيل كل شيء بانتظار معجزة تؤدي إلى إسقاط النظام ومحاسبة رموزه وأركانه.

في الاعتبارات السياسية

فتحت الانتقادات التي تعرضت لها طريقة إدارة الملف الإعلامي المرتبط بالمحكمة البابَ للطعن بالمحكمة ذاتها، وصولاً إلى اعتبارها محكمة مسيسة، وإلى ظهور أصوات اعتبرت أنها خدمة للنظام، مشككة في نوايا القائمين عليها، ومعتبرة أن ما تقوم به المنظمات السورية الداعمة لملفات التقاضي في أوروبا يهدف إلى الطعن في الثورة السورية، أو يهدف إلى الحصول على تمويلات من جهات أوروبية معادية للثورة، بالإضافة إلى تلميحات بتواطؤ القضاء في الدول الأوروبية مع هذا التوجهات.

لكن القضاء الفرنسي أوقف قبل أيام قليلة ملاحقة ضابط منشق سوري من مدينة الرستن في ريف حمص، هو سامي الكردي، لعدم كفاية الأدلة. أما المحكمة القادمة في ألمانيا نفسها، فالأرجح أنها ستبدأ قريباً، والمدعى عليه فيها هو الطبيب علاء موسى، من أنصار النظام السوري، وهو مُتَّهم بارتكاب أعمال تعذيب وحشية في أحد مستشفيات حمص. إذن لا توجد مؤامرة ضد المنشقين عن النظام إلا في رؤوس من يتخيلونها، إما غرقاً في مظلومية عدمية، أو محاولةً للاستفادة من الجدل بهدف الطعن في مشروعية قضايا أخرى، مثل قضية إسلام علوش في فرنسا. أما لماذا لم يُحاكم كثير من مجرمي النظام السوري وشبيحته حتى الآن، فإن الجواب بسيط جداً؛ لأنهم ليسوا في أوروبا حتى يتم اعتقالهم وسوقهم إلى المحكمة، أو لأنه لم يتم تكوين ملفات قضائية متماسكة ضدهم، ذلك أنه لا يمكن محاكمة أي شخص ما لم يتم إنشاء ملف متكامل يتضمّن أدلة تدين هذا الشخص بالذات لارتكابه جرائم بعينها، كما لا يمكن محاكمة أي شخص لمجرد أنه كان يحمل السلاح في صفوف قوات النظام أو غيرها، ولا يمكن طبعاً محاكمة شخص بسبب موقفه السياسي أياً كان. يُفترض أن يكون هذا من البديهيات.

على أي حال، يقول المعارضون للحكم على إياد الغريب إنه منشق عن النظام السوري، وهو انشقّ باكراً، ولم يشغل في أي وقت موقعاً يجعله صاحب قرار وسلطة فعلية في منظومة النظام الأمنية، وهذا يبعث برسالة مخيفة إلى كل المنشقين أو الراغبين في الانشقاق، قد تجعلهم يندمون على انشقاقهم أو يتراجعون عن رغبتهم في الانشقاق. ولكن لماذا لا يكون العكس؟ لماذا لا يتم النظر إلى هذه المحاكمة، التي تم تخفيف العقوبة فيها لأسباب كثيرة من بينها فعل الانشقاق، على أنها تشجيعٌ على الانشقاق بهدف تجنّب عقوبات ومآلات وخيمة أسوأ بعد سقوط النظام. لم يُحاكَم إياد ولا أنور لأنهما انشقّا عن النظام على ما يحاول كثيرون الإيحاء، بل لأنهما ارتكبا جرائم قبل انشقاقهما. وإذا كان سقوط النظام حتمياً، فإن إظهار الفارق بين المحاكمة القانونية وبين المعاقبة خارج سياق القانون ينبغي أن يكون أمراً مفيداً جداً على صعيد التشجيع على انشقاق. بالمقابل، إذا كُنّا يائسين من سقوط النظام في المدى المنظور، فما هي الفائدة السياسية من التشجيع على الانشقاق أو عدم التشجيع عليه؟

كذلك، يقول كثيرون إن انشقاق الغريب، ومساعدته لمتظاهرين ومناضلين ضد النظام السوري كما قالت شهادات كثيرة، تجعل من أي حكم بسجنه حكماً ظالماً مجافياً للعدالة. في الواقع، إن هؤلاء الذين يتهمون المحكمة بأنها مسيسة لأنها تحاكم منشقين، هم الذين يطالبون بتسييسها عندما يطلبون من القضاء الألماني أن يأخذ الموقف السياسي لإياد الغريب بعين الاعتبار. وفضلاً عن ذلك، ليس معقولاً أن يكون الانشقاق سبباً للمطالبة بإهدار حقّ الضحايا، أو من يمثلهم، في ملاحقة مرتكبي الانتهاكات. من حق الضحايا بالطبع اتخاذ الإجراءات التي يرونها مناسبة في إطار القانون لملاحقة المنتهكين ومرتكبي الجرائم بحقهم، وهذا أمرٌ لا يملك انتقاده أي وجاهة سياسية أو حقوقية، خاصة عندما يصدر في سياق نضال من أجل العدالة مثل النضال السوري ضد الأسدية.

بصرف النظر عن إياد الغريب وأنور رسلان بالذات، يجب أن يكون مُتَّفَقاً عليه أن للضحايا وحدهم حق الصفح عن مرتكبي الانتهاكات بحقهم، وأن هذا الصفح لا ينفي الصفة الجرمية عن الفعل، كما يجب أن يكون واضحاً أن الانشقاق لا يعفي من يرتكبون جرائم ضد الإنسانية من مسؤوليتهم القانونية. وهكذا فإن واقعة انشقاق الغريب لا يجب أن تكون ذات شأن في مسألة إدانته من عدمها، وليس صائباً القول إن الضحايا لم يحضروا في المحكمة، لأن ممثل الضحايا هو الادعاء العام الألماني بحكم القانون.

ثمة ثلاثون ضحية على الأقل لأفعال إياد الغريب، غير أن ميدان نقاش مدى استحقاق الغريب للعقوبة هو القانون لا السياسة، وهو ما سنناقشه بالتفصيل في السطور التالية.

في القانون ومقتضياته

في الشق القانوني، يستند المعارضون للحكم على إياد الغريب إلى نقطتين، الأولى هي أنه لا أدلة تدينه سوى ما أدلى به بنفسه عندما قال إنه ساهم في اعتقال ثلاثين شخصاً في سياق شهادة أدلى بها. والنقطة الثانية هي أنه كان واقعاً تحت الإكراه، بحيث أنه لم يكن يستطيع عصيان الأوامر، ما يمنحه عذراً يعفيه من كل عقاب.

في النقطة الأولى؛ صحيحٌ أن الغريب كان قد أدلى بنفسه بالمعلومات التي أدانته في سياق الإدلاء بشهادة، لكن هذا الجانب خضع لنقاش مستفيض في سياق المحاكمة، التي يمكن الاطلاع على تفاصيلها عبر منابر عديدة باللغة العربية، منها ملخصات ينشرها المركز السوري للعدالة والمساءلة، وأخرى ينشرها المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان، والتغطية المستمرة للصحفية لونا وطفة عبر موقع ليفانت.

وقد خلص القضاء الألماني إلى أنه صحيحٌ أن إياد الغريب، عندما أدلى بهذه المعلومات، كان شاهداً وليس مشتبهاً به، لكن المسؤول في مكتب الشرطة الفيدرالية الألمانية قال في شهادته في جلسة الاستماع التي جرت في 27 أيار (مايو) 2020، إنه تم إبلاغ الغريب بكافة حقوقه عند استجوابه كشاهد، بما في ذلك إبلاغه أنه لم يكن مضطراً للإدلاء بأي معلومات تدينه. هذا كان كافياً من وجهة نظر القضاء الألماني لإجازة الاستناد إلى معلومات أدلى بها بنفسه لتحويله من شاهد إلى مشتبه به. بعد ذلك، تم إبلاغ إياد أنه بات مشتبهاً به ولم يعد مجرد شاهد، ثم استجوابه مجدداً بعد تلاوة حقوقه كمشتبه به، ولولا كل تلك الإجراءات لما أمكنت إدانته لاحقاً استناداً إلى معلومات أدلى بهابعد النشر، تم إدخال تعديل على هذا المقطع، وإضافة التوضيح المتعلق بأنه تم إبلاغ إياد الغريب بأنه بات مشتبهاً به أثناء استجوابه، وذلك بعد ملاحظة مشكورة من الزميلة الصحفية لونا وطفة، إذ كانت الصياغة الأولى للمقطع ملتبسة وتعوزها الدقة..

إذن، شهادة إياد هي الدليل الوحيد على أنه قد اعتقل ثلاثين شخصاً تم اقتيادهم إلى فرع الخطيب، ولولا هذه الشهادة لما أمكنت إدانته، لكن ثمة مغالطة منطقية في القول إنه قد اعتُبِرَ مذنباً بسبب هذه الشهادة فقط، بل إنه قد اعتبر مذنباً لأن مجمل الشهادات التي تم الاستماع إليها في سياق المحاكمة تثبت، على نحو لا يدع مجالاً للشك، أنه قد اشترك في عمليات الاعتقال تلك وهو عالمٌ علم اليقين بالتعذيب الوحشي الذي سيتعرض له من اعتقلهم، ولأن مجمل سيرة الغريب تثبت أنه كان في مقدوره أن لا يضع نفسه في موقع يجعله يرتكب جريمة كهذه.

لا معنى للقول بإن إياد الغريب كان بريئاً، لأنه شارك فعلاً في ارتكاب جرائم، ليصبح الذين يطالبون بتبرئته لأنه هو من أدان نفسه كما لو أنهم يطالبون بالعفو عن كل من يعترف بجريمته. ليس هذا مطلباً منطقياً بحال، أما المطلب المنطقي فهو تخفيف العقوبة، وهو ما حصل عليه إياد الغريب فعلاً، إذ كان يمكن أن تصل العقوبة عن الجريمة التي ارتكبها، وهي التواطؤ لارتكاب جريمة التعذيب وسلب الحرية، إلى أحد عشر عاماً بحسب ما ورد في إحد محاضر جلسات المحاكمة، وربما خمسة عشر عاماً بحسب تقديرات هيومان رايتس ووتش. تنبغي الإشارة هنا إلى أن هذا النوع من الجرائم يترك صلاحيات تقديرية واسعة النطاق للقضاة في تقدير العقوبة، وإنه ليس ثمرة اجتهاد ثابت ومستقرّ ومتفَّقٌ عليه بهذا الشأن، سواء في سياق المحاكمات الدولية أو المحاكمات أمام محاكم الوطنية.

يبقى أن ثمة مسألة إجرائية إشكالية فعلاً، تتعلق بالظروف التي يجوز فيها استخدام معلومات أدلى بها شخص كشاهد لتحويله إلى مشتبه به، وهي مسألة فيها اجتهادات قضائية كثيرة، وتختلف من قضية إلى قضية ومن بلد إلى بلد، لكن اجتهاد القضاء الألماني هنا كان أنه يجوز ذلك طالما أنه تم إبلاغه بحقوقه شاهداً ثم مشتبهاً به. يستطيع محامو إياد أن يشككوا في سلامة الإجراءات، وربما تُثار هذه المسألة في جلسات الاستئناف المستقبلية كما أثيرت في السابق، لكننا لا نستطيع أن نستند إلى هذا التشكيك للقول ببراءة الغريب، ولا للطعن في نزاهة المحكمة.

يقودنا هذا إلى النقطة التالية، وهي القول بأن إياد الغريب كان مُجبَراً على أفعاله، وأن مخالفته للأوامر كان يمكن أن تقوده إلى حتفه. في الواقع هذه نقطة أساسية في كل المحاكمات المتعلقة بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، ودائماً يتذرع مرتكبو الجرائم من هذا النوع بأنهم كانوا ينفذون أوامر لا يستطيعون مخالفتها. لكن الادعاء العام الألماني كان واضحاً في هذا الشأن، عندما دفعَ بأنه لا يجوز للأشخاص، الذين وضعوا أنفسهم في مناصب يكون لنظام ظالم فيها سلطة وأمرٌ عليهم، أن يستفيدوا من هذا العذر. وهو الدفع الذي أخذت به المحكمة، عندما اعتبرت أن الغريب كان في وسعه اختيار أن لا يكون في هذا الموقف.

ينطبق هذا على إياد الغريب تماماً، فهو لم يكن مجبراً على الانضمام للمخابرات السورية، بل هو عنصر فيها منذ العام 1996، وليس هناك أدنى احتمال في أن يكون الغريب غير عارف بأنه سيكون مُجبَرَاً على إلحاق الأذى بأشخاص أبرياء وهو يعمل في المخابرات السورية. لا أحد في سوريا يجهل ما هي المخابرات، ومنذ ما قبل الثورة، وهذا كان من بين الأشياء التي استندت إليها المحكمة في حكمها.

إذن على المستوى القانوني، إن المطالبة بعدم الادعاء على إياد الغريب تكاد تكون مطالبة للادّعاء العام الألماني بمخالفة ضميره المهني، عندما يعلم بارتكاب جرائم على هذا القدر من الوحشية ثم لا يتحرّك بشأنها. كما أن مطالبة القضاء الألماني بتبرئة الغريب تساوي مطالبته بمخالفة القانون، أو بمخالفة ما هو مستقرّ في الممارسة القانونية بشأن الجرائم ضد الإنسانية، التي لا يستفيد فيها مرتكب الجرم من حالة الإكراه إلا في ظروف محددة يطول شرحها، من بينها أن لا يكون المتهم هو الذي وضع نفسه في موضع يكون مجبراً فيه على ارتكاب الجرائم، وهو ما لا ينطبق على الغريب بحال من الأحوال.

لكن يبقى أن المطالبة بتخفيف الحكم مطالبة وجيهة، وهو ما قامت به المحكمة، وقبلها الادعاء العام نفسه، الذي كان في مقدوره أن يطلب حكماً بالسجن لسنوات أكثر بكثير، إلا أنه ولاعتبارات عديدة، أبرزها انشقاق الغريب المبكّر ومساهمته الحاسمة في محاكمة أنور رسلان، خفَّضَ مطالبته إلى السجن خمسة سنوات ونصف. ثم للاعتبارات نفسها، خفّضت المحكمة الحكم إلى أربعة سنوات ونصف، ويحتمل أن يعود الاستئناف على الغريب بمزيد من تخفيف الحكم.

عن الغريب والعدالة في سوريا

بصرف النظر عن التفصيلات القانونية والإجرائية، يقول كثيرون من أقارب الغريب وأصدقائه والمتعاطفين معه إنه كان يعيش أوضاعاً اقتصادية صعبة أجبرته على الانضمام إلى المخابرات في عمر مبكر كفرصة عمل، وإن الانضمام إلى المخابرات قبل العام 2011 لم يكن جريمة في حد ذاته. وفي بعض التعليقات، ذهب كثيرون للقول إن كل السوريين أو جلّهم كانوا بشكل أو بآخر أعواناً للنظام، وإن عشرات الآلاف منهم كانوا يعملون في المخابرات لكسب العيش، وفي سياق عملهم كانوا يسهمون في جمع معلومات واعتقالات أو كتابة تقارير أمنية، فهل نحاكمهم جميعاً؟

جوابنا على السؤال الأخير هو نعم، يجب محاكمة من اشتركوا في أفعال جرمية جميعاً لو أمكن ذلك، لكن هذا لن يكون ممكناً بحال من الأحوال، ولهذا بالتحديد تتضمن بعض صيغ العدالة الانتقالية عفواً عن صغار المساهمين في الجرائم ضد الإنسانية، في سياق مصالحة وصفح عن الجرائم، في مقابل الاعتراف وإعلان الندم، دون أن ينفي هذا الصفحُ طبعاً الصفة الجرمية للأفعال. وعلى أي حال، ليس معقولاً أن لا تتم محاكمة مجرم ما لأنه لا يمكن محاكمة جميع من ارتكبوا مثل فعلته، كما أنه ليس معقولاً المطالبة بتأجيل محاكمة المجرم الصغير المقبوض عليه لأن المجرمين الكبار لا يزالون طلقاء. المطالبة بعدالة مطلقة كهذه ترقى إلى أن تكون مطالبة بما لا يستطيعه البشر، وبما لا يمكن أن يكفله نظام قضائي في الدنيا، لا في الجرائم ضد الإنسانية ولا في غيرها.

لكن قبل ذلك، وما هو أهم من ذلك: ليس صحيحاً أنّ البطالة والفقر مبررات يجب أخذها في الاعتبار عند محاكمة من انضمّ للمخابرات باعتبارها فرصة عمل، في هذا الافتراض احتقارٌ لمئات آلاف السوريين الذين لم يجبرهم فقرهم على الانضمام إلى المخابرات، واحتقارٌ للثورة السورية نفسها، التي قامت بالذات ضد أفرع المخابرات وحكمها الجهنمي. كذلك، ليس صحيحاً أن الانضمام للمخابرات السورية لم يكن جريمة قبل العام 2011، هذا الكلام تضليلٌ محض، لأن أفرع المخابرات السورية أوكارٌ للجريمة المنظمة، ولا يوجد شخصٌ في سوريا لا يعرف ذلك. في الواقع، القيمة الأبرز لحيثيات محاكمة كوبلنز أنها أثبتت أن فرع الخطيب ليس إلا مقراً لممارسة الجريمة المنظمة، ومنذ ما قبل العام 2011.

في سياق كل هذا النقاش، ثمة من يريد أن يقول إن أفعال الغريب في المساهمة في اعتقال الناس أفعالٌ «عادية»، كان يقوم بها في سياق أداء وظيفته. هذا إما أن يكون تضليلاً أو أنه سوء فهم؛ ليس عادياً أن يعمل المرء في جهاز يعتقل الناس ويسوقهم إلى جحيم التعذيب والتغييب واحتجاز الحرية، والموت أيضاً. الاشتراك في هذه الأفعال جريمة لها ضحايا، وضحاياها هم نحن وأهلنا وأحبابنا وأصدقاؤنا، وأعدادهم بمئات الآلاف، وربما الملايين إذا شملنا كل من أُهينَ أو عُذِّبَ أو سلبت حريته في أحد الأفرع الأمنية طوال حكم الأسدية.

لا نعرف في الحقيقة شيئاً عن إياد كشخص، والأرجح أنه كان يريد لنفسه حياة أخرى غير هذه، لكن ظروف البلد لم تسعفه. ربما يكون إياد ضحية للنظام بشكل أو بآخر، لكنه في نهاية المطاف قد اشترك طوال نحو خمسة عشر عاماً في أعمال المخابرات السورية القذرة الإجرامية التي نعرفها جميعاً، وكان في مقدوره ألّا يفعل، وهو اليوم يدفع ثمن ذلك. ليتخيل أي واحد منا نفسه من أولئك الثلاثين الذي ساقهم إياد إلى فرع الخطيب، ويتخيل نفسه تحت أبشع أنواع التعذيب؛ هل كان ليصفح عن إياد؟ ربما، لكن ليس من حقنا أن نتحدث باسم الضحايا الآخرين ولا أن نصفح بالنيابة عنهم. كذلك ليس من حقنا أن نطلب من القضاء الألماني أن يأخذ عواطفنا ومواقفنا السياسية بعين الاعتبار، لأن في هذا تقويضاً لأساس عمل القضاء، ولأساس فكرة السعي إلى عالم أكثر عدالة.

لقد انشقّ إياد في النهاية عن الشبكة الإجرامية التي كان يعمل فيها، واختار لسبب أو لآخر أن لا يواصل الاشتراك في ارتكاب الجرائم، ثم إنه ساهم في الكفاح ضد الأسدية على ما تقول شهادات كثيرة، وقدَّم شهادته الحاسمة ضد أنور رسلان، كما أن محاكمته ساهمت في تكوين ملف قضائي يشرح بالتفصيل الآلية الجهنمية لعمل أحد أفرع المخابرات السورية. لكن كل هذا لا يجعله بريئاً، بل يجعله مستحقاً لتخفيف العقوبة، وهو ما نأمل أن يحصل على مزيد منه في المحاكمة التي لم تنتهِ بعد.