الأسرار الشخصية هي معرفة ذاتية بأمر أو علاقة أو شعور ما، من الأفضل عدم البوح بها، أو حصر مشاركتها في إطار ضيق وآمن، كي تظل شأناً خاصاً ولا تفقد قدرتها على رسم حدود الخصوصية. نشأنا على هذا الدرس منذ صِغَرنا والتزمنا به، فاحتفظنا بدفتر المذكرات في مكان خَفيّ، وخبّأنا قصص المراهقة والشباب عن أعين أي مُراقب خارجي. أما الآن، بعد الانتشار الكثيف لوسائل التواصل الإجتماعي، وصلنا أخيراً إلى مجتمعات سِمتُها الأساسية أنها مجتمعاتُ مُراقَبة. وليست هذه الرقابة فقط من جانب الشركات التكنولوجية أو مؤسسات تتمتع بسلطة الوصول إلى المعلومات الشخصية، بل وصلنا إلى مرحلة يراقب فيها الجميعُ الجميعَ. قد يكون هذا هو التطور الخطي المتوقع للمستقبل الديستوبي الذي تنبَّأَ به العديد من الأدباء والكتّاب، ومهّدت له كاميرات تلفزيون الواقع. وطالما أن الجميع يراقب الجميع، فلم يعد هناك إذاً أي حاجة للتلصص. أو، بكلمات أدق، لم يعد التلصص سبباً للحرج.
تتسع إمكانات وقدرة الشركات المهيمنة على قطاع التكنولوجيا في الوصول إلى بيانات المستخدمين وتحليلها وتوسيع احتمالات توظيفها، ولن يعرف هذا التوسع حدوداً تكبح من سلطانه، أقلّه في المدى المنظور. قد تتمكن غوغل أو آبل من التسلل إلى زوايا وتفاصيل لم تكن تتوقع يوماً إمكانية الوصول إليها، أو تُطوّر طرق تحليلها وربطها بشبكة أكبر من البيانات. لنتخيل، مثلاً، لو أن غوغل تمكنت من تحليل ألبوم صور السْكرينْشُت (لقطات الشاشة)، وتحديداً اللقطات المأخوذة من محادثة كتابية على تطبيق الواتسآب، أو من تعليق لأحدهم على صفحات التواصل الاجتماعي. من خلال ذلك، يمكن لغوغل، مثلاً، أن يعرف أن X لديه مشكلة خاصة مع Y، لأن Y تكلَّم بالسوء عن X، وبعدها يتخذ غوغل إجراءً ما بحيث يصادف X أخبار وصورY وكافة تحركاته بتكرار أكبر، ما يسهل على X تتبع ومراقبة Y. هذا المثال تبسيطي، لا يشرح بدقة مسألة اختراق الخصوصية الرقمية والآلية التي سيتم فيها تحليل صور لقطات الشاشة، لكن كل شيء يبدو ممكناً الآن.
نظرياً، يمكن لهذا أن يتحقق خلال السنوات القريبة القادمة، بل قد لا يكون إلا خطوة متوقعة من شركات مهيمِنة على قطاع التكنولوجيا وتحليل البيانات. لكننا لا نستطيع أن نعرف بالضبط ما هو مستقبل ميزة السْكرينْشُت، التي بدأت حياتها في التسعينات عندما صارت متاحة على الكمبيوتر، وعرفت انتشارها الواسع عندما أُضيفت على أجهزة آبل في عام 2007 ومن ثم أندرويد. وقد استخدم تطبيق سناپتشات تنبيهات السْكْرينْشُت، عندما سمح بإرسال إشعار للشخص الذي تُلتَقط صورة أو سْكْرينْشُت لليوميات والقصص التي يشاركها.
ألبوم السْكرينْشُت: بورتريه من غير وجه
بالنسبة للبعض، وأنا ربما أولهم، ألبوم السْكْرينْشُت (لقطات الشاشة) هو صندوق مدجَّج بالألغام، لا يُسمَح لأي يد أن تطاله أو تُقلِّبَ في محتوياته. فهذا الألبوم قد يحتوي معلومات شديدة التفاهة، وأخرى شديدة الخصوصية.
داخل ألبوم صور السْكْرينْشُت، قد تجدون صورة كريم البشرة الذي أحلم بشرائه، أو عنوان المقهى الذي أرغب بزيارته، أو صورة لأسعار الرحلات إلى اليونان الشهر القادم، أو معلومات التواصل الخاصة بأحد المُنجّمين، أو الجملة الأخيرة التي أرسلها أحد الأصدقاء قبل انتحاره. ذلك عدا عن صور المحادثات من هنا وهنا، لأشخاص قالوا يوماً ما جملة أو كلمة، وظنوا أنها مرت مرور الكرام أو صارت في طي النسيان. وبالنسبة لمحبي الاحتفاظ بلقطات السْكْرينْشُت، فإن جولة بانورامية سريعة على ألبوم لقطات الشاشة تكفي لرسم صورة مقرّبة من رغباتنا ونوايانا وأحلامنا ومخاوفنا. فعندما نأخذ صورة لشاشات اللابتوب أو الموبايل، تظهر معلومات وتفاصيل أكبر بكثير مما نظن، كالوقت والتاريخ وكمية الشحن في البطارية، وربما موقعنا الحالي، وأحياناً أرقام هواتف أشخاص آخرين أو معلومات التواصل الخاصة. ربما تجدون إنفوغراف يوضح أعراض الاكتئاب المزمن، أو لقطة للمحادثة الأخيرة مع أحدهم قبل إلغاء صداقته أو حظره على وسائل التواصل الاجتماعي. صور لقطات الشاشة هي بورتريه، شخصي وداخلي، عنّا وعن شكل علاقاتنا الإنسانية: بورتريه من غير وجه. عند الضغط على زر السْكْرينْشُت، نحن لا نلتقط صورةً لما نرى ونقرأ فحسب، بل نترجم ونوثق شعوراً ما في تلك اللحظة أيضاً.
طبيعة السْكْرينْشُت
صورة لقطة الشاشة هي صورة ديجيتال، لكنها لم تؤخذ بواسطة عدسة الكاميرا، ولذلك فهي ليست صورة فوتوغرافية، ولا حقوق ملكية فعلياً لها، لأن الكودات البرمجية التقطتها وليس الإنسان. لكن هذه اللقطة تتمتع بقدرة فائقة على التسجيل والتوثيق، تفوق قدرة الصورة الفوتوغرافية بمرات عديدة.
قداسة صورة لقطة الشاشة تكمن في دناءتها. ومصدر هذه الدناءة هو أولاً المغافلة في التقاط الصورة، دون إذن أو تبليغ أو موافقة. على سبيل المثال، صور لقطات الشاشة من محاضرة لبروفيسورعبر الانترنت، ففي اللحظة التي يتعطل فيها الانترنت وتجمد صورة البروفسيور في وضعية مضحكة، يضغط أحد الطلاب سريعاً على «طباعة الشاشة» للاحتفاظ بهذه الصورة، وتحويلها ربما فيما بعد إلى ستيكرز أو صورة مضحكة. أما المصدر الثاني الذي تُستمد منه صورة لقطات الشاشة دناءتها فهو سهولة اقتطاعها من سياق أوسع، واختيار جملة مقتطعة من محادثة كاملة، لتكون وثيقة يُحتَفَظ بها في ألبوم الصور، وتصبح هذه الوثيقة مع مرور الزمن اختصاراً غير دقيق لما حدث أو قيل.
بالمقابل، تتمتع صورة لقطة الشاشة بجملة من المزايا، منها مصداقيتها العالية في حالات ومواقف كثيرة، مثل تأكيد استلام طرد ما أو تأكيد إرسال إيميل محدد، أو الاستماع لأغنية ما وعدد مرات الاستماع. كما أن لقطة الشاشة لا تعرف حدوداً، فأي معلومة وأي رقم وأي صورة، وبغض النظر عن التطبيق المستخدم، قابلة لأن تصبح صورة أرشيفية. وبالرغم من دنائتها ومن الرعب الذي تثيره في نفوس المستخدمين، إلا أن السْكْرينْشُت صارت السلوك الأكثر اعتيادية وطبيعية عند استخدامنا للهاتف أو اللابتوب، حيث نلتقط صور الشاشة عشرات المرات في اليوم الواحد، دون أي شعور بالذنب أو الخجل، متلذذين بقدرتنا على التخفي والتتبع سراً.
صورة عن النميمة
لا نكشف سراً إذا ما قلنا إن لقطات الشاشة هي الدليل الأكثر شيوعاً واستخداماً في عمليات النميمة والقيل والقال، خاصة حين يستدعي الأمر نقل الحديث لثالث، أو لشخص آخر خارج المجموعة. وهذه خطوة كبيرة باتجاه جعل النميمة والوتوتة بين الأشخاص فعلاً مثبتاً بصورة للكلام النصي. لم تعد النميمة في زمن السْكْرينْشُت مجرد قصص شفهية، ولم يعد ممكناً أن تُفهم على أنها فضفضة لا تحمل أي نوايا سيئة، لأنها صارت كلاماً موثقاً ومسجلاً ولم تعد دردشة بنت لحظتها وقابلة للنسيان، بل صارت تحمل طابع الديمومة. إرسال الصورة عن المحادثة إلى شخص ثالث أو شخص من خارج المجموعة لم يعد مجرد سلوك قيل وقال ونقل كلام من هنا إلى هناك، بل أنه فعل وشاية مع سابق الإصرار والتصميم، وضربة قاسية لأي مساحة افتراضية يسودها نوع من الثقة المتبادلة. أما الخطأ الأكثر فداحةً وشيوعاً، والذي يقلب السحر على الساحر، يحدث كما في المثال التالي: التقاط X لصورة من محادثته مع Y عندما كان Y منشغلاً بالنميمة والتذمر من Z. وبدلاً من أن يرسل X لقطة الشاشة لـ Z، أعاد إرسالها لـ Y.
قد يكون من الضروري قبل الانشغال بالأمن الرقمي، وما الذي ستفعله شركات التكنولوجيا ومحركات البحث بألبوم صور لقطات الشاشة الخاص بنا، أن نفكر أولاً بما سنفعله نحن أنفسنا بهذه اللقطات، وأن نتوافق على مجموعة أدبيات تتعلق بتداول وإرسال لقطات الشاشة.عند إلقاء القبض على تعليق ما لأحد الأشخاص، أو جملة من محادثة خاصة، أو ابتزاز أحدهم بصورة لكلامه وحديثه، فهذا سلوك على مستوى الأفراد لا يقل خطراً عن تهديد الأمن الرقمي واختراق خصوصية مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي من قبل الشركات التكنولوجية الكبرى.
ويجب الاعتراف بأنه من الصعب مقاومة دناءة السْكْرينْشُت، فالتأمّل في اللقطة وقراءتها أكثر من مرة، كونها الدليل القاطع على أننا كنا موضوعاً للنميمة، تولد متعة ولذة سببها الوصول إلى دليل ووثيقة مثبتة. لكن هذه المتعة تتحول إلى استهجان وغضب إذا ما وقعنا في الفخ وتمّت مُغافلتنا، حينها سنجد أنفسنا متورطين ومتهمين أمام الأشخاص المعنيين. غريب هذا التناقض؛ فبالرغم من أن المراقبة صارت سلوكاً طبيعياً وتلقائياً عند استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، لكن لا أحد يحب أن يكون مُراقباً أو أن تثبت مراقبته بأدلة.
على سبيل المثال، في ألمانيا حيث يعيش عدد كبير من السوريين، لا يوجد حتى اللحظة قانون واضح ينظم مشاركة لقطات الشاشة، لأن الأمر يتوقف على المعلومات النصية داخل إطار لقطة الشاشة. لكن في حال تطرقت لقطة الشاشة لمسائل خاصة أو كانت تشارك معلومات تواصل أو تكشف عن هوية الأفراد، فعندها تعتبر لقطات الشاشة هذه اختراقاً للخصوصية. خاصة عندما يتم إرسال مقطع من محادثة شخصية، فهذا، وبحسب قانون حماية البيانات في ألمانيا، يُعتبر خرقاً للخصوصية ومشاركة بيانات خاصة دون إعطاء تصريح بالموافقة.
ومع ازدياد وجود حالات لقصص ابتزاز وضغط باستخدام لقطات الشاشة في مختلف الأوساط، تبرز الحاجة لوجود قانون أكثر وضوحاً وتفصيلاً بخصوص تداول أو نشر لقطات الشاشة، سواء في إطار العلاقات المهنية وانعكاسها على قوانين العمل أو العلاقات الشخصية. وفي حالات عديدة برزت السْكْرينْشُت على أنها سلاح ذو حدين، على سبيل المثال، في حالة نشر لقطات لمحادثة أو رسالة وصلت من متحرش أو متنمر على حسابات التواصل الاجتماعي. في هذه الحالة، يمكن الاعتماد على صور لقطات الشاشة كونها دليلاً مثبتاً على التحرش، لكن في حال نشرت على صفحات التواصل الاجتماعي في سبيل فضح المتحرش أو المسيء، قد يُعتبر النشر في هذه الحالة بمثابة تشهير واختراق لخصوصية الطرف الآخر، ولو كان متحرشاً أو متنمراً أو… إلخ.
بشكل عام، ثمة عامل أساسي يؤثر في دناءة السْكْرينْشُت، وهو محتوى لقطة الشاشة واستخداماته وتأويلاته السامّة، التي تجعل القلق يرافق مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي وتطبيقات المحادثة النصية إذا ما قرروا البوح، أو مشاركة أخبار وقصص خاصة مع أصدقاء أو زملاء. حالة القلق وعدم اليقين هذه تفرض حالة من الحذر الدائم والخوف من سوء استخدام الآخرين للمحادثات الخاصة وصعوبة اختراق الخصوصية، مما يترك أثره بوضوح على علاقاتنا الإنسانية التي تزداد هشاشة ورخويةً في ظل انعدام الثقة حتى في مستويات الحوار والكلام الأكثر بديهية.