رفع يده اليمنى بعزم، فتح إصبعي إشارة النصر، حركهما على هيئة مقص، ورفع بيده اليسرى ورقة الخمسة آلاف ليرة ووضعها بين الإصبعين، ثم أخذ يحرك إصبعيه كما لو أنه يَقصُّها وهو يقول: «هادا نصر بيت الأسد»، وسط وجوم الحضور في الدكّان الصغير في أحد مناطق محافظة طرطوس.
كان مصرف سوريا المركزي قد طرح أوراقاً نقدية جديدة من فئة خمسة آلاف ليرة سورية للتداول في الأسواق، وبحسب بيان نشره المصرف على صفحته في فيسبوك يوم الأحد 24 كانون الثاني (يناير) الماضي، فإنه كان قد طبع هذه الأوراق منذ سنتين، وذلك «لتلبية توقعات احتياجات التداول الفعلية من الأوراق النقدية».
جاء ذلك بعد انتظار وأمل كبير ممن يقطنون مناطق سيطرة النظام، من أنصاره ومناوئيه على حدّ سواء، بانفراج اقتصادي يُعينهم على تحمل الهبوط المرعب والحاد في قيمة النقد السوري، بعد سنوات من عجز النظام عن تقديم حلول أو زيادة رواتب لموظفيه وعسكره، الأمر الذي وضع ويضع بشكل يومي مزيداً من السوريين على القطار المؤدي إلى أسفل خط الفقر، ويهدد الجميع بالوصول إلى حافة المجاعة.
أما مصدر هذا الأمل فقد كان مزاعم الانتصار من قبل النظام، التي يُفترض أن يدعمها بحزمة من القرارات المساعدة على العيش، كما أن البعض كانوا يأملون بانفراجات على الأقل قبل الانتخابات الرئاسية القادمة، بهدف تحسين صورة بشار الأسد، خارجياً إن لم يكن داخلياً. جاء وصول الورقة النقدية الجديدة إلى الأيدي لينهي كل أمل على هذا الصعيد.
تزداد الشتائم على بشار الأسد يومياً هنا، كمّاً ونوعاً وعلانية، وهو الأمر الذي تتغاضى عنه الأجهزة الأمنية طالما بقي في إطار «فشّ الخلق». كذلك تزداد مشاهد الأشخاص الذين يكلمون أنفسهم أثناء خروجهم من المحال التجارية، أو داخل الأسواق، كما تزداد أعداد المحال الصغيرة التي تفرغ رفوفها يوماً بعد يوم، بسبب تضخم العملة الذي رفع سعر أغلب السلع أضعافاً دون أن تزداد هوامش الربح. وبالمقابل، تبدو المحال التجارية الكبيرة أقل تضرّراً نتيجة تمسُّكها باقتصاد التضخم، الذي يحميها عن طريق تخزين كميات من البضائع التي لا تأبه لسقوط الليرة مقابل الدولار، وخاصة تلك المحال التي فتحت في السنين القليلة الماضية، ودخلَ أصحابها إلى السوق بقواعده وأوضاعه الراهنة، وذلك لأن «البضاعة عندي عالدولار، ونحنا عملتنا الدولار من أول يوم عمل في الأسواق» يقول أحد التجار، وذلك بعد استفسار عن كيفية تَحمُّله فروق الأسعار، ويضيف: «يلي معو مصاري لا يخليهن معو، يقلبهن بضاعة». كان التاجر يتحدث مع مشهد موازٍ لعجوز أمام المحلّ ذاته، يبدو عليه الضيق الشديد وهو يقوم بعدّ ما تحمله جيبه من الأوراق قبل الدخول والتبضع بما تيسر.
لكن كثرة الشتائم، وارتفاع أصوات الناس بها، لا يعني أنه بات هناك موقف واحد أو واضح ضد بشار الأسد في أوساط الموالين، بقدر ما إنه يُدخِل جمهور النظام هنا في انفصام مواقفي لا يمكن لمسه إلا حين اشتداد الخناق الاقتصادي عليهم؛ هيبة بشار الأسد قد كُسرت وهي تنكسر أكثر فأكثر يوماً بعد يوم، لكن الموقف الجماعي المعلن منه لا يزال يدخل في إطار أن الحصار قد أطبق عليه الخناق، حتى أنه لا يستطيع فعل شيء.
يقوم النظام في الأثناء بتوظيف كل المسرحين المستفيدين من مراسيم التسريح الأخيرة، ويخشى كثيرون هنا تحوّل الشباب إلى الوظائف الحكومية، التي لا يصمد الراتب فيها أكثر من يومين، والتي لا تتعدى اليوم ما يعادل 20 دولاراً، بينما تحتاج عائلة متوسطة العدد إلى نحو 350 دولاراً شهرياً لتؤمن يومياتها فقط. وبينما يرى كثيرون في ذلك مكرمة جزيلة العطاء، ويعتقد كثيرٌ من المسرحين أنها تأمين لمستقبلهم وتعويض عن سنوات عمرهم في الخدمة، يرى آخرون كثيرون ممن تحدثت إليهم أن توظيف شرائح الشباب الخارجين من سنين طويلة تتعدى الخمس سنوات وما فوق في خدمة جيش النظام، وحرمان المجتمع من قوة يدهم العاملة في المهن التي تعد أعلى دخلاً في هذه الوضع الاقتصادي، سيعمل على تثبيت فقرهم وتحويلهم إلى بطالة مقنّعة في المؤسسات الحكومية، التي لا يستطيعون سوى الانخراط في فسادها كي يضمنوا معيشتهم في ظل رواتب حكومية تتضائل قيمتها يوماً بعد يوم حتى تكاد تقترب من الصفر.
على الرغم من تداول خبر طباعة ورقة الخمسة آلاف منذ عام تقريباً، إلا أن صدورها في هذا الوقت شكّل صدمة كبيرة لم تستطع الوجوه إخفاءها، في وقت كان كثيرون ينتظرون فيه انفراجاً ولو على شكل زيادة في الرواتب، تُنعش الأسواق وتحسّن القدرة الشرائية للموظفين الحكوميين قليلاً.
يأتي مشهد الورقة الجديدة في الأسواق أشبه بتقرير أخباري يرصد استطلاع رأي عنها، دونما اتفاق، فكل من وصلت إلى يده كان يحاول التخلص منها، مع كمد في الوجه، وغيظ مفرط. يعلم الجميع هنا ما الذي تعنيه هذه الورقة، يعلمون أنها تعني ألّا يفكروا بعودة الأحوال والبلاد إلى ما كانت عليه، كما يحاول مروّجو النظام أن يبشّروا الناس.
يروي أحد الأشخاص كيف عاد قريبه بعد تلقي راتبه الشهري بالورقة الجديدة، وكان عبارة عن عشرة أوراق، يروي كيف عاد صامتاً ثم جلس وأجهش في البكاء. ويروي آخر كيف تلّقاها صاحب الدكّان حين دفعها له بوجوم وصدمة مرعبة: «حسيت الزلمة رح ينجلط قدامي».
يرفعها أحد أصحاب المحال الصغيرة، بعد أن أعطاه زبونٌ ورقة منها، يرفعها بصخب ساخر ويقول: «حضّروا حالكن… هي الورقة رح تصير بـ One Dollar».