طرحت الثورة السورية علينا إشكاليات مختلفة في كل مرحلة من مراحلها، منها ما اشتدت إشكاليته مؤخراً مع مرور أشهر قليلة على هدوء جبهات القتال، والاستقرار نسبي لخطوطها. المُحرَّر، كتسمية درج استعمالها لوصف ما يقع من الأرض السورية خارج سيطرة النظام، تشهد مؤخراً مراجعة، لا تخفي مخاوفها، لمعناها وأحقية استخدامها.

ما إن بدأ النظام يمارس وحشيته ضد المتظاهرين في كل ساحات التظاهر، وما رافق ذلك من حملات اعتقال كبيرة طالت متظاهرين وغير متظاهرين  في المدن والبلدات والقرى، التي استباحها بجيشه بعد ذلك بكل ما أعانتهُ عليه ترسانته العسكرية، حتى أكسبَ النظام نفسه صفة المحتل للأرض السورية بشكل معلن، بعد أن كان طيلة حكمه محتلاً صامتاً ما دام السوريون صامتين.

رَدُّ الفعل على هذه الوحشية تمثَّلَ في انشقاقات من صفوف جيش النظام، وقيادة المنشقين لأولى تشكيلات الفصائل المسلحة. وتحت اسم الجيش السوري الحر، أصبحت كل منطقة تستولي عليها فصائله المتناثرة على كل التراب السوري مُحرَّرة، ثم انسحبت التسمية على كل ما يخرج عن سيطرة النظام حتى على يد فصائل لاتعترف بالثورة ولا رايتها، بل وأحياناً تكون على عداء مع المجموعات المسلحة الأولى المتمثلة في فصائل الجيش السوري الحر. فالمُحرَّر في لغة السلاح هو كل أرض سورية انتُزِعَت بالسلاح من النظام وميليشياته، أما في ضمائر أفراد الشعب الثائر فهو كل أرض لا ترى فيها عدوك وجهاً لوجه. يتفق التعريفان في المبدأ، وعلى هذا المبدأ، أي انتزاع الأرض من النظام مباشرة، وتختص حالياً مناطق من إدلب وأرياف حلب واللاذقية وحماة باسم المُحرَّر، فيما لا تشهد مناطق الجزيرة السورية المحكومة من قبل قوات سوريا الديمقراطية إشكالية المُحرَّر هذه، لأن شكل الحكم المُعلَن يتخذ صفة الإدارة الذاتية، والأخيرة في تعريفها لنفسها تقبل بحكم النظام، لكنها تريد لنفسها وضعاً خاصاً فيه لا تسميه المُحرَّر.

عادةً ما يتم تمثيل المُحرَّر على خرائط السيطرة العسكرية باللون الأخضر، وهو اللون المميز لراية تحظى بقبول سوري واسع كبديل ثوري لراية النظام. تلألأت البقع الخضراء المُحرَّرة في الليل السوري كيراعات مضيئة تشتعل هنا وتنطفئ هناك. واليوم، للأرض السورية على خريطة السيطرة العسكرية ألوانها المميزة لكل طرف يحكمها، لكن من السماء كل سوريا حمراء، كُلُّها مُحتلَّة.

ما أودُّ طرحه هنا هو فكرة غير مكتملة في ذهني، أقصد أنني غير قادر على الدفاع عنها دون تفنيدها كتابةََ. أقول هذا لأنني أومنُ أن الشعور بالمسؤولية والأمانة لا يبرزان كأداوت مُصحِّحة لأفكارنا ما دامت هائمة في عقولنا، وما أن تسقط على الورق/الشاشات حتى تُمارَس عليها اختبارات الحقيقة والمعنى والجدارة، أي أنني هنا أكتب لأُحيطَ بما لا يمكن استيعابه إلا بالكتابة، وبمقاربة عبارة تشيع في الوسط الصحفي: «التحرير فن الحذف»، أستطيع القول إني هنا لأحذف أفكاري من حيث أردتُ ترتيبها.

السجال الدائري الأخير الذي طالما تكرَّر حدوثه عن «المُحرَّر» – يعزُّ عليَّ أن أضعك يا مُحرَّر بين علامتي  اقتباس- وأحقية المناطق الواقعة خارج سيطرة نظام الأسد بهذه التسمية، هو في الحقيقة ما دفعني لكتابة تلك السطور السابقة التمهيدية كقاعدة نقف عليها قبل أن ننطلق إلى المهم، وأُجازفُ هنا باستخدام كلمة «المهم»، فكما لاحظ أحد الأصدقاء، تُقدِّمُ هذه الكلمة عند استخدامها اعترافاً بأن كل ما سبقها كلام فارغ لا يستحق الإنصات له، فما الضامن إذن أن يستحق ذلك ما بعدها.

للوجود على الأرض السورية درجات في السوء، وفي السوء فقط، ولو أعارني دانتي خريطة جحيمه، فسأضعُ معتقلات النظام في الدائرة الأسوأ والدرك الأسفل من جحيم سوريا، ثم سأختار لكل مكان دائرته المناسبة، بما في ذلك المناطق التي لا يحكمها الأسد.

لكن بعيداً عن هذه الصورة الدرامية، توجد فعلياً أصناف مختلفة ومعقدة للوجود البشري على الجغرافيا السورية، حتى تقسيمات السيطرة العسكرية الواضحة نسبياً تنقسم داخلياً إلى أصنافها هي الأخرى. مناطق سيطرة النظام فيها الموالي المهم بالنسبة للنظام والموالي المُهمَل، والمعارض الصريح والمعارض المستتر، وما هو خاضع للمصالحات وما هو خاضع لتفاهمات قديمة وماهو تحت سيطرة إيرانية مباشرة. أما المناطق المحررة، ففيها ما يخضع لسيطرة فصائل ثورية وأخرى لجماعات إسلامية، ومنها ما يخضع لجيش أسسته تركيا تطلق عليه اسم الوطني، ومنها ما هو مُحتل كعفرين مثلاً. وهناك مناطق الإدارة الذاتية، فيها ما يتبع للنظام بشكل مباشر وما يتبع للعشائر، وما تسيطر عليه قوات كردية محلية وأخرى غير محلية عابرة للحدود.

ومن تمييز الفوارق بين مُختلَف هذه المناطق، ينطلق تمييز مهم جداً لمعنى المُحرَّر. فعندما يخرج معتقل من سجون النظام، نفرح لحريته ونبارك له رغم علمنا التام أنه خرج من معتقل إلى معتقل أكبر، لكن الفرق بين المُعتقلَين لا يمكن ولا يجب إنكاره، بل ينبغي إدراكه، واستيعاب أن هذا الفرق يختلف حسب الجو العام: موالٍ أم معارض، يخضع لتسوية ما مع النظام أم أن للنظام قبضته المباشرة عليه. أي أنه ينبغي علينا أولاً أن نعترف بوجود فوارق بين الدواخل السورية، وبأن هذه الفوارق إن بدت ضئيلة جداً في واقع الحالة الاقتصادية، فهي أكبر بكثير وبما لا يقارن في واقع امتلاك مساحات للتعبير عن الرأي. هذه السطور، وسطور أخرى، كُتبت تنتقد تركيا والجيش الوطني من مناطق سيطرتهما. طبعاً هذه ليست دعاية لمن سبق ذكرهما، وإنما مجرد ذكر لهامش نمتلكه ونُداريه بحذر.

من يسكن في المناطق الخارجة عن سيطرة نظام الأسد -كرّرتُ هذا الاسم كثيراً لأنه لا حدود ثابتة ولا تسميات مُتفَّقاً عليها- ويسمي هذه المناطق مُحرّرة، يفعل هذا مدفوعاً بشعور داخلي بهذا الفرق بعد مُعاينة جيدة للواقعين، وما دام هذا الشعور داخلياً، فإنه لا حكمة أبداً في مناقشته في إطار سياسي عام غالباً ما تفقد فيه الأحاسيس الشخصية قيمتها كمُعرِّف سياسي.

إذن ما دُمنا في الشخصي فلا مشكلة، المشكلة عند من يريدون تحميل هذه الكلمة بحمولات أكبر من طاقتها، ويريدون استخدامها لتغطية ممارسات لاعلاقة لها بأي  شكل من أشكال التحرر، أو في صناعة دعاية ينحصر تأثيرها في إضاعة وقت من يعملون عليها مع الأخذ بحُسن النوايا طبعاً.

الصورة التي انتشرت مثلاً تقارن بين جامعتين الأولى جديدة وتتألق بنظافتها من مناطق المُحرّر، والثانية من مناطق النظام قذرة ومهترئة، مثالٌ على الاستعمال المغلوط لمعنى المُحرَّر، إذ تستطيع ببساطة أن تعرف كم أن هذه الصورة اختزالية، وكم أن واقع التعليم في المُحرّر مزرٍ، وكم تتقدم جامعات النظام عليها رغم سوئها.

الشقّ الأخر للمشكلة يكمن لدى من يهاجمون الاستعمال الشخصي لهذه التسمية، تحت ذريعة الذاتية وأحقية امتلاك وطرح وجهات نظر مخالفة ومختلفة وانتقاد الآخر، لكن ذلك لا يكون وجيهاً إلا إذا كانت هذه الانتقادات قائمة على الاعتبارات والمعايير نفسها التي ينطلق منها أهالي هذه المناطق في استخدام هذه التسمية، حيث أن الاعتبارات هنا شخصية ونفسية في حين أن تلك الانتقادات قائمة على اعتبارات ومعايير سياسية.

هناك أيضاً من يخيفهم وصف مُحرَّر أو منطقة آمنة في سورياـ وهذا خوف مفهوم لأن تبني دول المهجر السورية لوصف آمن (أوروبا) أو مُحرَّر (تركيا)، قد يدفعها لإتخاذ إجراءات ظالمة بحق السوريين الموجودين على أراضيها. الجيش التركي في إدلب، إذن من وجهة نظر تركية إدلب محررة أو آمنة، وبالتالي يمكن أن يُسهِّلَ هذا على تركيا ترحيل سوريين إليها قسراً.

يُناقَش المُحرَّر أيضاً وفق توقعات مستقبلية، وأن لا مُحرَّر بل مؤقت، وكل مؤقت لا يُعوَّل عليه كمُحرَّر، إذ أن صفة المُحرَّر تحتاج لثبات زماني ومكاني معقول. ومع وجاهة هذا الطرح، خاصة أن المُحرَّر بما هو جغرافيا معرضٌ لان يصبح محتلاً بين عشية وضحاها، إلا أنه ينطوي على شيء من العنف اللغوي ضد مصطلح يعرف مطلقوه أنهم في حالة مؤقتة من الزمان والمكان، لكنه يمنحهم شيئاً من الإحساس بالكرامة.

والتوقعات المستقبلية للمُحرَّر لها منظور معاكس تماماً لمنظور المؤقت، وهو المنظور الذي لا يخفي أصحابه خوفهم من أن تكون تسمية المُحرَّر سياسية ونهائية، فهذا يعني استسلاماً لفكرة أن يبقى معظم سوريا محتلاً.

المُحرَّر بما هو رمز للانعتاق من بطش النظام المباشر ليس فقط أرضاً لم تطأها دباباته، بل إن كل مساحة، مهما ضاقت، يمكن للسوري في الداخل التحرك فيها احتجاجاً أو تعبيراً مباشراً عن الرأي، هي مساحات أقرب للمُحرَّر من المحتل؛ من ساحات التظاهر في السويداء إلى الجزيرة السورية، أين ما امتلكَ السوريُ صوته فهو في مُحرَّر.

آخر ما تحتاجه هذه المساحات الضيقة حديثة النشأة هو خنقها بحجة النقد البنّاء، لا بِناء في نقد لا يراعي السياق الداخلي للعيش في سوريا، ولا نقد سياسي ما دامت السياسة لا تملك مؤسساتها في البلد. على السوشيال ميديا، تُطرَح وجهات نظر ولا تُمارَس السياسة. هذه معارك وهمية تُفرِّقُ الناس وتبعدهم عن بعضهم في وقت هم في أشد الحاجة لما يجمعهم.

للّغة قوة رمزية يمكن أن ينسحب تأثيرها إلى الواقع، لكن المبالغة في تقديرها هو في الحقيقة ضربُ من اللجوء إلى السحر، وهو ما قد يحدث عندما يعجز الإنسان عن الفعل. لطُرُق الدجالين جاذبيتها في الشدائد؛ بالكلمات يبيعون قاصديهم وَهماً عن الفعل والوصول إلى النتيجة المرغوبة بأسرع/أقصر الطرق. لا يهمنا من يمارسون طقوس شعوذتهم في غرف مظلمة، بل من هم بيننا وفي النور، يمارسون الطقوس نفسها في تفكيرهم بشؤون اليومي والسياسي.

ليس المطلوب التسليم واعتماد موقف موحد من أي تسمية، ولا التوقف عن مناقشة الرموز وآليات صناعتها، بل إدراك حدود صرف جهد فكري وتنظيري على مسائل جانبية  شديدة الشخصية، والانشغال بتحويل الجهد الفكري لدعم مسائل عامة وأكثر قيمية كالحرية والكرامة.

 تسمية المُحرَّر شخصية داخلية، وإخراجها إلى العام والسياسي لا يعود بأي جدوى على أي من الطرفين. يجب الحفاظ عليها في الشخصي ويجب إخراجها من العام، فإذا كانت بالنسبة للبعض مجرد تسمية توصيفية تحتمل المناقشة والنقض، فإنها بالنسبة لكثيرين ممن يؤمنون بها قبل كل شيء رمزُ كرامة، وكرامات الناس يجب أن لا تُمسّ، والأهم أن لا يُتاجِر أصحابها بها.