أمام المرآة المذهَّبة الحوافّ، تقف إسراء لتراقب طول الثوب الذي اشترته، وإن كان يصل كعبيها أم لا يصل، وإن كان يحدد جسدها أم لا يحدده. تُحضر الهاتف وتقوم بأخذ صورة لها لترسلها إلى خطيبها. هذه المرة لا بد له أن يوافق، فلا بد للزي الذي اشترته أن يتواءم مع مطالبه وإلحاحاته التي تبدو لها أحياناً تعجيزية.
إسراء فتاة في العشرينات من عمرها من مدينة حمص، درست في معهد للفنون وتخرجت بعلامات محدودة. أسرتها تعتبر من الطبقة الثرية. وهي غير ملتزمة بالدين تماماً. تقدم لخطبتها أحد الشبان المُوسرين المقيمين في السعودية. تمت الخطبة بشكل تقليدي عن طريق الأهل، حيث جاءت الأم برفقة ابنتيها و«عاينت» جمال الفتاة ووضع أسرتها، وعندما أعجبها جمال إسراء، قامت أسرة العريس بالسؤال عن الفتاة وأهلها، ثم تقدمت بطلب يدها. حينها قام أهل العروس بدورهم بالسؤال عن العريس وأسرته وحالته المادية، وعن سمعته في السعودية، ثم تمت الموافقة من أهل إسراء. تعرفت إسراء عليه عن طريق الصورة أولاً، ثم عن طريق سكايب بعد موافقة الأهل الرسمية ثانياً.
أقيمت الخطبة بعد شهرين في صالة فخمة بحضور أهل العريسين، ثم بحضور العريس أخيراً عبر سكايب. تم الطلب من الحاضرات لحظتها وضع الحجاب لأنّ المصوّرة ستصور العروس وهي ترقص في الصالة، وسيتم إرسال الفيديو للعريس. العريس يحق له أن يراها ببدلة الخطبة وهي ترقص، طالما أن الزواج تم تثبيته بشكل نظامي عند الشيخ وفي المحكمة.
إسراء لم ترَ الشاب وجهاً لوجه ولو لمرة واحدة في حياتها، لكنها اقتنعت به وقبلت به لأن أسرته معروفة وثرية و«أهله أوادم». الشاب غير متعلم، لكنّه يعمل في مجال الاستيراد والتصدير. بالنسبة لإسراء وللأهل، لا مشكلة في كونه غير متعلم لأنه «ما من إنسان كامل»، ومواصفاته الحالية مُرْضية ومناسبة. هو لا يستطيع النزول إلى سوريا لأنه مطلوب للخدمة الإلزامية، ولم يدفع بدل العسكرية بعد، حيث يتوجب عليه دفع ثمانية آلاف دولار «بدل» العسكرية الإلزامية كي يستطيع الدخول إلى سوريا، وهو ما يزال يجمع المبلغ وسيدفعه في غضون سنة أو سنتين كما أكد الأهل.
* * * * *
في السنوات القليلة الماضية، بدأ انتشار الزواج عن بُعد في سوريا، وهو الزواج الذي يتم من دون تقابل مباشر بين الزوجين، ويتم التعارف بينهما إما عن طريق الانترنت، أو عن طريق الخطبة التقليدية التي تتم عبر الأهل. تُعتمد هذه الطريقة في الزواج عندما يكون العريس مغترباً في إحدى دول الاغتراب العربية أو الغربية ولا يستطيع النزول إلى سوريا، سواء لكونه لاجئاً أو هارباً أو غادر بطريقة غير نظامية، أو مطلوباً لدى النظام، أو ببساطة كونه لم يدفع البدل.
تختلف أسباب الشاب الذي يلجأ إلى هذه الطريقة في الزواج مع توافر الخيارات أمامه في مكان إقامته.
يقول أحمد، وهو شاب لاجئ في تركيا وأموره مستقرة في العمل، إنّ أحد أسبابه في الزواج من فتاة في سوريا وليس من تركيا أنّه يريد فتاة ما زالت تحمل صفات أهل البلد الذي تركه منذ سنوات.
أما مجد، وهو شاب لاجئ في ألمانيا منذ ست سنوات، فيقول أنه يريد الزواج من فتاة في سوريا لأنه لم يجد فتاة تناسبه في مكان إقامته، فبعض الأهالي في بلاد المهجر يضعون شروطاً تعجيزية لتزويج ابنتهم وهو لا يريد أن يدخل في هذا «المزاد». يقول إنه لو خطب فتاة من الداخل، فإن شروط الزواج وتكاليفه ستكون أخف بكثير عليه، لأن أهل العروس المقيمين في الداخل السوري لا يتطلبون كما يتطلب كثير من الأهالي الذين أصبحوا مقيمين أو لاجئين في دول أجنبية.
محمد، الذي يعمل مهندساً في الإمارات، يقول إنه ببساطة شعر بالحب: يرغب في الزواج من فتاة تعرّف عليها عبر الإنترنت وأحبها، وهي تعيش في سوريا، وهو عازم على الزواج بها عن قريب.
وكما للشبان المغتربين في دول عربية أو أجنبية أسبابهم للزواج من فتاة داخل سوريا، كذلك للفتيات السوريات أسبابهن، ابتداًء من قلة الرجال بالبلد وازدياد نسبة العنوسة – التي تجاوزت 65 في المئة وفقاً للقاضي الشرعي الأول في دمشق محمود المعراوي في عام 2017 – وانتهاءً برغبتهن في السفر بعيداً عن البلاد لبدء حياة جديدة مع شخص ما في الخارج.
* * * * *
كانت منال فتاة ذات جمال ملحوظ. عشرينية من حمص، تحمل شهادة جامعية في الصيدلة ومن عائلة معروفة في المدينة، تنتمي للطبقة المتوسطة وغير ملتزمة دينياً.
كانت انتقائية في اختيار من سيخطبها من بين المتقدمين الكثر إليها، لكن وقع اختيارها أخيراً منذ ثلاث شهورعلى شاب لاجئ في تركيا ولا يستطيع النزول لسوريا كونه مطلوباً للمخابرات. لم يُكمل العريس شهادته الجامعية، لكنه ثريّ و«أهله معروفين وأوادم».
«معروفين» أولاً، «أوادم» ثانياً، حالة مادية جيدة أو شهادة علمية عالية ثالثاً، هي الخلطة الذهبية التي يفضّلها الكثير من أهالي حمص هنا، وبهذا الترتيب.
فيما يخص المغتربين، غالباً ما سيجد أهل العروس هنا في المدينة أو حتى في بلد اللجوء أقارب أو معارف يمكن أن يسألوهم كل ما تحتاج عائلة العروس لمعرفته عن العريس. هذا بالنسبة للأهل ضمان كافٍ لمن يريد أن يرسل ابنته لتتزوج من شاب مغترب لم تره من قبل.
أما الأسرة فعادة ما تحمل كلمة «معروفة» معنيين: الأول أن اسم الأسرة مسموع به من قبل ومتداوَل لدى أهل المدينة، والثاني أنها «ذائعة الصيت» ومشهورة. أصبح كثير من الأهالي في السنوات الأخيرة يشددون على كون العائلة معروفة بمعناها الأول، أي ذات اسم متداوَل ومسموع به من قبل وبالتالي ذات جذور قوية في المدينة. يعود ذلك إلى وجود الكثير من الغريبين عن المدينة الذين جاءوا إما نزوحاً أو استحضرهم النظام – مثل أسر العساكر التي أقام كثير من أبنائها في البيوت التي تركها أهلها وتهجّروا.
كانت منال تعتبر نفسها من المحظوظات، لأنها تمكنت من معرفة الكثير عن خطيبها قبل السفر إليه. قالت إنها أخبرت خطيبها منذ البداية بأنها تعمل في شركة، وبأنها تضع صورها أحياناً على الفيسبوك. في البداية أجاب بأن هذا أمر طبيعي لديه، وهو يحب المرأة المتعلمة والعاملة، لكن بعد تثبيت الكتاب وبعد مُضي أقل من شهر على خطبتهما، بدأ العريس بالتشديد عليها من ناحية عملها، والاستهزاء بكون إخوتها الشبان يسمحون لها بارتداء ما يحلو لها، ثم انتهى به الأمر باتهامها بأشياء أخلاقية لم ترتكبها والتشكيك بها بشكل متواصل.
حاولت منال على مدى شهرين أن تُذعن له، حيث قامت بحذف صورها، وتوقّفت عن وضع المكياج على وجهها، ثم وافقت على شراء «مانطو» لترتديه فوق ثيابها، ووافقت أن تُزيل زملاءها الذكور في العمل من حسابها على فيسبوك، لكن كل تلك الإجراءات لم تكن كافية لإقناع العريس «الشكاك». كان يشكو لها دائماً من أن الكل يعرفها أكثر منه، ويردّد أنه لا بدّ أن لديها أسراراً لا ترغب في قولها. «لم يجعلني أحد في حياتي أشك بنفسي كما فعل هو بي»، تقول منال.
في النهاية، ضاقت منال ذرعاً بالشاب وفسخت خطبتها به، وأعادت لأسرته كل الهدايا وخاتم الخطبة. تقول منال أنها كانت تجربة مريرة، لكنها على الأقل محظوظة لأنها استطاعت أن تعرف عنه كل ذلك من خلال حديثهما على الإنترنت فقط.
* * * * *
قد تكون هدى، وهي فتاة ثلاثينية جامعية، حالة نادرة. تنتمي هدى لعائلة متوسطة الدخل، وهي متخرجة من كلية العلوم وتعمل في إحدى معامل الأدوية. ترتدي ثياباً محتشمة، وهي غير متمسكة بالدين تماماً، لكنها كما تقول واجهت معضلة أخلاقية حين خُطبت عن بُعد. هذه المعضلة كانت تمسّ تدينها، وأوجبت عليها أن تختار. كان الاختيار في حالتها أصعب ما مرّ عليها في حياتها، كما تقول، حيث تقدم لخطبتها شاب يعيش في فرنسا. شعرت هدى بعدم الارتياح في البداية، فالشاب اعتبر نفسه «حلم» كل فتاة سورية تعيش في الداخل، وتحدث عن نفسه كمنقذ وكفرصة ذهبية لا يمكن تفويتها، فهو يمتلك المكونات الأساسية التي تجعله مرغوباً في نظر كثير من الفتيات والعائلات: شهادة جامعية وحالة مادية جيدة واسم عائلة معروف. ينتمي الشاب لأسرة فقيرة، وشق طريقه بصعوبة بعد لجوئه للسفر إلى لبنان، ثم قبوله للدراسة في فرنسا.
شكل الأمر ضغطاً على هدى، فهي في الثلاثينات وفرصها القليلة في الزواج ستقل أكثر مع تقدم عمرها، إضافة إلى أنهما متقاربان في العمر، وهو يعتبر تنازلاً من أهل العريس الذين يفضل كثيرون منهم عروساً صغيرة في العشرينيات.
تذكر هدى أن الخطبة كانت بالطريقة التقليدية، لكن ما لفت نظرها هو الافتراق الحاصل بين أسرة خطيبها المتدينة وبين خطيبها نفسه. ففي فرنسا فاجأها بأن طلب منها خلع الحجاب، لأنّ معيشتهما معاً ستكون أسهل من دونه، والمكان الذي يعيش فيه لا يحتمل أن يكون برفقة امرأة محجبة، علماً أنه كما قال يحترم كل المعتقدات الدينية ويؤيد ممارستها للشعائر الدينية كما تشاء. البلاد التي يعيش بها تقدس الحرية الشخصية، أضاف، لكن مؤخراً أصبحت واضعات الحجاب وكل من يرافقها موضع شبهات، وهو لا يريد أن يكون بهذا الموقع. أخبرها بهدوء وتصميم أنّ هذه النقطة لا جدال فيها. وحين سألته لماذا لم تتزوج إذن من فتاة ممن حولك، قال أنه أراد زوجة يختارها له أهله؛ زوجة تطمئن لها أسرته ويطمئن هو لها.
كان للطلب وقع صاعق عليها، لأنها أرادت لهذا الزواج أن يتم. أما بالنسبة لأسرتها فكان الأمر متروكاً لها، رغم معارضة الأب الخفية لذلك. في النهاية اختارت ألا توافق، وألا تكمل الخطبة، لأنّ حسّها أرشدها لذلك الاتجاه، فقد «صلت استخارة» ولم ترتح، وهي ببساطة خافت، وشكّت، وراودها عدم ارتياح، ولم يستطع الطرف المقابل إقناعها حقاً بشكل يشجعها على التخلي عن «زي» ترتديه منذ أكثر من 15 عاماً.
* * * * *
وفاء، الفتاة العشرينية، كانت في سنتها الأولى في الهندسة حينما تعرفت على خطيبها. تنتمي وفاء لأسرة متواضعة من حمص، وقد خُطبت منذ ثلاث سنوات لشاب لاجئ في تركيا. كانت تتحدث مع خطيبها قبل إعلان خطبتهما رسمياً، أي إنّ علاقة عبر الإنترنت جمعتمها لشهور ثم تُوِّجت بالخطبة.
في حقيبة أوراقها التي أعدّتها تجهيزاً للسفر، وضعت وفاء كل أوراقها الثبوتية والجامعية والأوراق المهمة الأخرى لها بعد أن ترجمتها للغتين الإنكليزية والتركية. كان ذلك منذ سنتين. كانت متحمسة جداً لفكرة السفر إلى خطيبها في تركيا. لم تكن قد رأته وجهاً لوجه، إلا أنها كانت تتوق لتكوين الأسرة التي حلمت بها معه.
ابتسمت وفاء عند سؤالها عن كيفية سفرها إلى هناك، فقد سافرت إليه بطريقة غير نظامية، لكن تم التخطيط لها عبر الشهور السابقة لزواجها. استطاعت وفاء رغم وجودها في حمص تأمين قبول في جامعة تركية آنذاك، وذلك بتكليف أشخاص موجودين في الشمال السوري بترجمة أوراقها وتقديمهم بدلاً عنها للجامعة، حيث تقدم تركيا تسهيلات للطلاب السوريين للقبول في جامعاتها. وبفضل معدلها العالي في البكالوريا، أمنت وفاء بسهولة قبولاً لها في برنامج بكالوريوس تربية في جامعة كارابوك في تركيا. وبعد ذلك، وفي فترة ما قبل إغلاق الطريق بين مدينة حمص ومدن الشمال الواقعة تحت السيطرة التركية، غادرت وفاء إلى الشمال وقدمت من هناك طلباً للعبور من خلال معبر باب الهوى، وانتظرت الموافقة من الطرف التركي للعبور. في تلك الأثناء، كان خطيبها يجهّز أمورهما للزواج.
ذكرت وفاء ضاحكة أنها سعت للقبول الجامعي فقط كي تستطيع السفر إلى خطيبها، فهي لم تفكر أبداً بالدراسة في جامعة تركية. كل ما كانت تفكر به هو الدخول إلى تركيا ولمّ شملها مع زوجها وتكوين أسرة معه. وفاء الآن تعيش في تركيا حياة تصفها بأنها جيدة مع زوجها.
* * * * *
يضع أحمد نظاراته وهو ينظر عبر شاشة سكايب ويحكي قصته.
قال إنه لاجئ في ألمانيا منذ ثماني سنوات، ورغم أنه لم يحصل على الجنسية بعد، إلا أنه قرر منذ سنوات أن يتزوج فتاة في الداخل السوري. أما أسبابه، كما يقول، فتأتي من رغبته بمنح فرصة لفتاة تعيش في الداخل السوري لخوض تجربة الحرية التي يعيشها، حيث أتاحت له فرصة السفر المرور بتجارب كثيرة وتعلم الكثير من الأمور، كما أنّ شعوره كمواطن حقيقي وحُرّ خلال السنوات الماضية أضاف له الكثير، كما يقول. لذا ورغبة منه للتعبير عن امتنانه، أصبح مصمماً على خطبة فتاة من الداخل.
وجد أحمد بالفعل شابة سورية من مدينته، تعرف عليها على الإنترنت ووجد معها نوعاً من الحب الصادق، ولو كان حبا نائياً حسب وصفه. ورغم أن هذا الحب لم يُتوَّج بلقاء زوجته المستقبلية وجهاً لوجه، لكنه يحاول تحقيق ذلك عبر لقاءات متعددة عن طريق سكايب، ويرى أن هذه اللقاءات تفي بالغرض إلى حدّ ما لبناء علاقة سليمة مع من ستصبح زوجته في المستقبل.
* * * * *
تبدو قصص كل من منال وهدى ووفاء وأحمد وإسراء مختلفة عن بعضها، لكن ما يجمعها انبثاقها من واقع استثنائي هو واقع الحرب. ولكن بالرغم من حالة الاستثناء هذه، تتجلى في هذه القصص استمرارية بعض العادات التي تكرّس النظر للمرأة ككائن مسيطَر عليه طول الطريق، ولا سيما من خلال مؤسسة الزواج. ولكن تتجلى أيضاً لحظات من المشيئة النسوية عندما يكون خيار الزواج شخصياً، سواء كان بهدف الخلاص، أو بهدف تجريب حياة جديدة ممكنة.