تناولتُ في مقال سابق ما حدث للجالية اليابانية في كندا أثناء أحداث الحرب العالمية الثانية، إذ صدر أمر رسمي بتهجير أبناء الجالية من مقاطعة بريتيش كولومبيا غربي البلاد، بعد اعتبارهم «حلفاء للأعداء» وسوقهم إلى معسكرات اعتقال وتعليق حقوقهم المدنية.
كانت هذه الأحداث الدائرة في كندا انعكاساً لصدى أحداث الحرب العالمية الثانية، التي كانت فيها الصين حليفاً للمعسكر الغربي والاتحاد السوفييتي، وقد تم اعتبار المهاجرين الصينيين في كندا حينها «حلفاء»، وأُمروا بارتداء أزرار خاصة تُبيّن أنهم صينيون حتى لا يتم الخلط بينهم وبين اليابانيين في الشوارع. إلا أن اعتبار الصينيين من الحلفاء لم يمنع وقوع انتهاكات كبيرة بحقهم في كندا، وسنضيء في هذا المقال على وضع الجالية الصينية تاريخياً عبر ترجمة مقاطع من رواية الكاتب الكندي-الصيني ويسون تشاي فاونيا اليشم (The Jade peony)، والعنوان يشير إلى حجر اليشم المقدس المصنوع على شكل زهرة الفاونيا.
الروح الساكنة في حجر اليشم
تتحدث الرواية عن عائلة صينية مقيمة في فانكوفر، وتسرد الأحداث بعيون الأطفال في هذه العائلة، مسلّطةً الضوء على قضايا هوياتية وجيليّة تخللت تركيبة المجتمع الصيني تزامناً مع الحرب العالمية الثانية. يروي ثلاثة أطفال في الرواية تفاصيل الحياة اليومية لهذه العائلة التي تضم ثلاثة أجيال. تمثّل الجدة، التي تدعى في الصينية «بوه بوه»، الجيل الأول. عاشت الجدة حياة قاسية كخادمة في سن الطفولة في الصين، وتؤمن بالخرافات والأرواح الساكنة في أحجار اليشم، محاولةً على الدوام خداع الآلهة والحظ المشؤوم.
«كانت بوه بوه تقول دائماً إنها ستموت قريباً، ظانّة أن الآلهة، لدى سماعها هذا الكلام، لن تحقق لها هذه الأمنية. هكذا كانت تخدع الآلهة لكي تدعها تعيش يوماً آخر».
ترعى الجدة الصبي سيكي لونغ، المصاب بمرض رئوي ولا يستطيع الذهاب إلى المدرسة بسببه. أمّ سيكي وأبوه وأشقاؤه مشغولون عنه بأشياء أخرى، وخلال قربه من الجدة سيتشرّب كافة أساطيرها حول الأرواح الجائلة حول البيوت في انتظار الانقضاض، والدموع التي «تحصّن الإنسان من اللعنة». لم تعرف هذه الجدة سوى القسوة في حياتها، ولهذا ستأمر سيكي بتدمير الأعداء اليابانيين عن بكرة أبيهم وهي تقفز من فوق الجنود في لعبة الحرب، وستدفع حفيدتها الصغيرة بعيداً حين تأتي لعناقها، وستحرص على قول اسم المولود الجديد همساً «خشية أن تسمعه الآلهة وتصرع الصبي من الغيرة».
الصبي سيكي هو الأصغر في العائلة، المكونة من الأب والأم وثلاثة أطفال آخرين (كيام، وجونغ، وليانغ). يتعاظم الصراع الداخلي لدى سيكي أكثر من إخوته، الذين يدرسون في المدارس الكندية ولا يحبون التقاليد الصينية. ذلك أن سيكي، دائم الجلوس في حضن جدته، يخزّن كلامها في ذاكرته. يعاين الصبي أحجار اليشم التي تُحدّثه عنها وعن قداستها، مؤكّدةً أن روحها ستسكن الحجر الأحمر حين تموت، وستبرق هذه الروح تحت أشعة الشمس وفي مهبّ نسائم الصيف. الجدة هي إحدى القادمين إلى كندا في موجات الهجرة التي بدأت مطالع القرن العشرين هرباً من الموت والفاقة في الصين، وتمثل الجيل الذي تشكّلت هويته في ظروف الحرب والمجاعة ويجد إشكالاً في الفكاك من براثن الهوية الأم، وإشكالاً أعظم في الاندماج بسواها.
هذا الارتباك سيعبر إلى سيكي وسيشكّل فهمه للعالم، وسيجد هذا الطفل الصغير صعوبة في اللعب مع الأطفال اليابانيين، ظاناً أنه خائن ويستحق بصقة في الوجه حين يمرّ بحيهم دون دراية أهله، وأن الحلوى التي يقدّمها له الطفل الياباني تحتوي على سم قاتل.
دبابات في غرفة الصبي
في خلفية هذه الظروف كانت الحرب وأخبارها تتوافد إلى كندا. كانت القوات اليابانية تواصل التقدم في الحرب التي شنتها ضد الصين، وتسيطر على المدينة تلو الأخرى موقعة عشرات آلاف القتلى. وبعد الهجوم الياباني على ميناء بيرل الأمريكي في المحيط الهادي انخرطت الولايات المتحدة وكندا رسمياً في الحرب العالمية الثانية ضد اليابان.
«كان أبي قلقاً بشأن الصين، وبشأن الحرب الأهلية بين الشيوعيين والقوميين. كان قلقاً بشأن المدرسة واليابانيين. كان قلقاً على أخي كيام الذي يريد المشاركة في الحرب إلى جانب كندا، التي لم تكن ترغب بالصينيين. كان قلقاً على أمي الغاضبة على الدوام، وجونغ الذي يعمل بدل أن يدرس، وليانغ التي ترتدي سترة فضفاضة كالمهرج، وكان قلقاً عليّ أيضاً. يبدو أنه لم يكن ثمة شيء لم يقلق أبي عليه. كان يكتب عن كل ما يُقلقه في الصحيفة، ثم يقلق بشأن رأي الأخرين بما كتبه».
أدت التطورات المتسارعة لأحداث الحرب العالمية الثانية إلى انضمام الصين إلى معسكر الحلفاء، وتُرجم ذلك في كندا إلى إجراءات صارمة بحق أبناء الجالية اليابانية، الذين تزايد الاحتقان ضدهم في كندا، وفي بريتيش كولومبيا على وجه الخصوص. تُسلّط هذه الرواية الضوء على المشاعر الحادة والمركّبة التي سادت في بيت العائلة الصينية حيال اليابانيين في كندا، وحيال ظروف إقامة الصينيين في هذا البلد الذي يُمنَع دخولهم إليه عملاً بقانون الهجرة الصيني المفروض عام 1923 (المعروف أيضاً باسم قانون الإقصاء الصيني). كان الصينيون مرغوبين كعمّال، لا كمشاريع مواطنيين مسقتبليين في كندا «البيضاء إلى الأبد»، وفق ما نص عليه قانون الهجرة الصادر عام 1910.
«في أحد المساءات، قادني فضولي المتزايد إلى سؤال أبي: ’هل كل اليابانيين أعداء لنا، حتى المقيمون منهم في كندا؟‘.
عدّلت أمي جلستها، وتوقفت سنارات الحياكة في يدها عن الحركة، فيما عدّل أبي الجريدة مُظهراً سلطته.
’أجل‘، قال بحزم كبير، ناظراً بصرامة إلى جهة أمي: ’كل اليابانيين أعداء محتملون.. حتى لو لم تلحظ أمك ذلك‘.
ردت أمي بالقول: ’حسناً يا سيكي، بعض اليابانيين ولدوا هنا‘.
نفض أبي الجريدة بحركة فجائية. نظر أخي كيام إليّ بقلق، محاولاً إسكاتي. ثم، في محاولة لتخفيف التوتر قال أبي: ’الذين ولدوا هنا هم أنصاف أعداء فقط‘».
الطفل الذي يستمع إلى أحداث الحرب التي تدور في المنزل، مُراقباً العيون الفزعة التي تتداول الأنباء، والأقدام التي تجول في البهو من الحيرة إزاء المستقبل، سيذهب إلى غرفته ليلعب لعبة الحرب بجنود ودبابات من البلاستيك محاولاً سحق الأعداء عن آخرهم. هو مشهد رهيب يوضّح ما يمكن أن يفعله الضخ الإعلامي الكثيف وعديم المسؤولية ضد مجموعة بشرية تعيسة الحظ، تواجدت في المكان الخاطئ وتوجب عليها أن تكون بين من يدفعون الثمن الباهظ الذي يحتاجه الإنسان ليتعلم من تاريخه لاحقاً.
«في خلفية أحاديث الكبار حول الحرب، كانت دباباتي وطائراتي تهدر وتقتل كل اليابانيين في المكان. لقد تشرّبت كراهية الحي الصيني لليابانيين، أولئك الوحوش بأسنانهم الدامية، ورقابهم الممسوحة، ونظارات توجو [رئيس أركان الجيش الياباني] السميكة. أردت قتلهم جميعاً.
كان الأطفال اليابانيون في المدرسة يتجمعون سوياً، ويشكلون نصف عدد الطلاب تقريباً. تضامنوا مع بعضهم، وصاروا لا يتحدثون إلا قليلاً، متربّصين لاعتداء أحد ما عليهم. كانت الآنسة دويل ومدرّسات أخريات يقفن على بوابات المدرسة خشية أن يهاجمهم أحد. بعض المدرسين الآخرين رأوا ضرورة في السير مع طلاب يابانيين إلى المنزل. وتزايد عدد الأهالي اليابانيين الذين يُوصلون أبناءهم إلى المدرسة صباحاً وينتظرونهم بقلق بعد انتهاء الدوام».
أصوات متلاشية في صخب الآلة
بدأت موجات الهجرة الصينية إلى كندا في أواسط القرن التاسع عشر، بسبب الحرب والفوضى والفقر الشديد، إضافة إلى رغبة كندا في توظيفهم في جبل الذهب ثم في بناء الخط الحديدي الباسيفيكي الذي وصل شرق كندا بغربها وشكّل شريان الحياة الاقتصادية في البلاد. في عام 1885، كان على كل صيني يريد دخول كندا دفع مبلغ 50 دولار، تحت اسم «ضريبة الرأس»، وقد ارتفع هذا المبلغ إلى 100 دولار عام 1900، ثم إلى 500 دولار في 1903. كان هدف هذه الضريبة هو الحد من تدفق العائلات الصينية إلى كندا. وكانت نسبة العمال الصينيين، جراء ذلك، هي الأعظم في صفوف الجالية. كان هؤلاء العمّال يعملون ضمن ظروف في غاية القسوة، ويفجّرون جبال الروكي بالديناميت في درجة حرارة تصل إلى 40 تحت الصفر، ويعيشون في ظروف مزرية في سبيل إرسال الأموال إلى عائلاتهم. وفي عام 1923، أي بعد اكتمال بناء الخط الحديدي، صدر قانون يمنع دخول أي صيني إلى البلاد مهما كان المبلغ الذي يمكنه دفعه، بحجة تضاعف عدد أبناء الجالية الصينية ثلاث مرات منذ بدء موجات الهجرة، والخشية من تأثيرهم على ديموغرافية البلاد «المتجانسة». بلغ إجمالي قيمة ضريبة الرأس التي حصلت عليها الحكومة الكندية من الصينيين نحو 23 مليون دولار (ما قيمته مليار دولار بعملة هذه الأيام)، وكان هذا المبلغ يساوي تكلفة بناء السكة الحديدية. أي أن العمال الصينيين دفعوا قيمة السكة التي بنَوها، وجاء القانون ليمنع دخول الصينيين إلى كندا بعد انتفاء الحاجة إليهم، لتكون بذلك السكة التي لمّت شمل كندا، هي ذاتها التي فرقت شمل من بَنَوها.
«توفي السيد ليم قبل أن أولد. كان رجلاً خشناً ضعيف السمع ويتحدث بصوت عالٍ جداً، مثل كثير من العمال الصينيين الذين عملوا بجانب آلات عديمة الرحمة. على منحدرات شاهقة تشكلت بفعل المياه الدافقة، كانت أصواتهم تتلاشى في صخب الآلات الحديدية وهي تقاوم صرير المناشر. كانوا، في سرائرهم، يغنون أغاني صينية قديمة ويفكرون في جبال أخرى. رجال كهؤلاء هم من بنوا سور الصين العظيم وجرّوا السفن عبر نهر اليانغتسي المحاط بقمم تطاول الغيم دون أن يستسلموا».
الدموع تصبح فيلماً عن الماضي
استمرّت ضريبة الرأس لمدة 38 عاماً (1885- 1923)، وتلاها فرض حظر على دخول الصينيين إلى كندا. أدت هذه الضريبة إلى وجود امرأة صينية واحدة مقابل كل 28 رجل صيني في كندا. هؤلاء الرجال، غير القادرين على رؤية أهاليهم في الصين، كانوا يعيشون ظروفاً مضاعفة الصعوبة، لأنهم كانوا يعيشون في عزلة عن المجتمع الكندي ضمن كانتونات خاصة بهم، فلم تعطهم كندا في تلك الفترة أياً من الحقوق المدنية التي يحصل عليها المهاجرون مع الوقت. كان الحي الصيني هو عالمهم المعزول عن العالم، ولم يكن يحق لهم الدخول إلى المرافق الحكومية أو المشاركة في الحياة العامة أو التملّك. وقد أدى هذا التهميش المتزايد لهم، المترافق مع ظروف العمل الصعبة والمردود الشحيح وأنباء الحرب الفظيعة القادمة من البلاد، إلى أوضاع نفسية سيئة في صفوفهم، إذ تزايدت نسبة الأمراض والانتحار بين أبناء الجالية. كان كل هذا يحدث في وقت تُسهّل فيه كندا إجراءات الهجرة للمواطنين الأوروبيين وتقدم لهم عروضاً سخية تتضمن تقديم أراضي مجانية. كل هذه المعطيات جعلت ضريبة الرأس ضمن الإجراءات العنصرية القاتمة في التاريخ الكندي.
ألغت الحكومة الكندية العمل بقانون الهجرة الصيني عام 1947، وبدأ أبناء الجالية الصينية بعد ذلك سعيهم لنيل الاعتذار والتعويض من جانب الحكومة الكندية. تكثفت هذه الجهود بعد الاعتذار الذي قدمته الحكومة الكندية للانتهاكات بحق الجالية اليابانية لأول مرة في العام 1988. وفي عام 2000 رفع النائب الكندي من أصول صينية شاك جانغ مانغ، وهو أحد دافعي ضريبة الرأس، دعوى قضائية جماعية مطالباً بتعويض الصينيين عن ضريبة الرأس، لكن الدعوى تم إسقاطها. ثم في عام 2004، قدم مشروع قانون يعترف بالمظالم الواقعة بحق الجالية الصينية في كندا، إلا أنه لم يتم إقراره بسبب حلّ الحكومة القائمة حينها.
في عام 2006، قدم رئيس الوزراء المنتخب حديثاً حينها عن حزب المحافظين، ستيفن هاربر، اعتذاراً رسمياً للجالية الصينية عن ضريبة الرأس، متعهداً بتقديم «مدفوعات رمزية» لدافعي ضريبة الرأس وذويهم وإنشاء صندوق لتمويل المشاريع المجتمعية الهادفة إلى التوعية بما جرى. ثم في عام 2008، تم الشروع في برنامج، بعد استشارة الجاليات الصينية والإيطالية والأوكرانية والهندية، يهدف إلى تسليط الضوء على المظالم الناتجة عن القيود على الهجرة في زمن الحرب، وصدر عن هذا البرنامج نحو 33 عملاً فنياً يتناول تلك الأحداث.