يملك بايدن تاريخًا سياسيًا حافلًا، قد تصعب الإحاطة به كله مرةً واحدةً، ولكن تناول بعض جوانبه قد يقدم بعض الوضوح في فهم توجهاته. بالطبع، فإن استقراء ما ستكونه سياسة بايدن الخارجية بشكل قاطع لن يكون بالأمر السهل أيضًا، خاصة عندما يتعلق الأمر بقضية شائكةٍ كسوريا. إلا أن تعقيد الشأن السوري يأتي، في إحدى طبقاته، من تعدد الفاعلين فيه. لذا، قد يكون من المفيد تفكيك مواقف بايدن وفريقه من أبرز هؤلاء الفاعلين على الصعيدين الإقليمي والعالمي.
ابن مصلحة
قبل أن يصبح شريك أوباما في حملته الناجحة عام 2008، ونائبه لثمان سنوات في البيت الأبيض بعدها، كان بايدن عضوًا في مجلس الشيوخ الأميركي بلا انقطاع لستةٍ وثلاثين عامًا، ترأَّسَ فيها لجنة الشؤون الخارجية ثلاث مرات. سياسيٌ مخضرم، يعرف سياسيي واشنطن، ويعرفونه. بل ويعرف من يختار من بينهم فريقًا يساعده في إدارة شؤون البلاد. وقد كانت خياراته على شاكلته بالفعل. سياسيون محنكون، يملكون خبرةً في المجالات التي اختارهم لها بايدن؛ أنتوني بلينكن ولويد أوستن مثلًا. لكنه اختار أيضًا جايك سوليفان لجدارة أثبتها في مباحثات سياسية عدة. وسيكون تناول هؤلاء الثلاثة أداةً تساعد بالتأكيد في فهم من سيصوغ السياسة الأميركية الخارجية في عهد بايدن.
أما بايدن نفسه، فهو لم يكن في الشأن السوري الصقريُصنَّف السياسيون الأميركيون بين صقور وحمائم حسب قسوة مواقفهم في السياسة الخارجية. الذي كانته هيلاري كلينتون ضمن إدارة أوباما، على حد وصف نيويورك تايمز في 2015. ومع أن بايدن يفهم كل الانتقادات التي وُجِّهَت لإدارة أوباما بخصوص سوريا، إلا أنه لم يكن يرى وجود الكثير من البدائل لما قامت به إدارتهما يومها، كما تقول مجلة ذا ناشونال إنترست المعنية بشؤون الولايات المتحدة الخارجية. ولكن كيف تجلّى ذلك على صعيد الفاعلين الأبرز في الشأن السوري؟
سوريا في إيران وروسيا وتركيا
في المقابلة التي أجراها مع توماس فريدمان من نيويورك تايمز منذ نحو شهرين، تحدّثَ بايدن عن التركة التي خلّفها له سلفه ترامب، وعن أولوياته في السياسة الداخلية. ولكنه لا يلبث في تلك المقابلة أن يعرّج على دور الولايات المتحدة الجديد في العالم، ليتحدث عن عودة محتمة للصفقة مع إيران. وهو ما أكدت الحكومة الإيرانية على رغبتها بحصوله أيضًا، ولو مع بعض التحفظات. يرى ماثيو برايزا، الذي عمل في الخارجية الأميركية لأكثر من ثلاثة وعشرين عامًا، أن العودة إلى تلك الصفقة لن تحصل من فورها بسبب تلك التحفظات، ولكن شيطنة أصحاب القرار في الولايات المتحدة لإيران ربما ستنتهي مع دخول بايدن للبيت الأبيض؛ ذلك ولو بعد حين. وفي هذا يتحدث بايدن في مقاله الذي كتبه بنفسه في فورن بوليسي بعنوان «لمَ على أمريكا أن تقود من جديد» عن ضرورة إعادة تفعيل تلك الصفقة التاريخية على حد قوله، والتي يذكرنا بأنه كان نائب الرئيس يوم عقدها. يستدرك بايدن قائلًا إنه غير غافل عن دور إيران التخريبي في المنطقة، في إشارة إلى وجودها في سوريا. إلا أن بايدن يعود ليُذكِّرَنَا أنه يريد إنهاء «الحروب الأبدية» كما سماها. يشابه هذا ما أراده ترامب قبله في إنهاء «الحروب غير المنتهية». يريد بايدن العنب النووي، دون أن يقاتل ناطوره الإيراني.
وحيث ينكر ترامب أنه أعطى أردوغان الضوء الأخضر ليجتاح الشمال السوري، فإن إعلانه انسحاب القوات الأميركية من الشمال السوري مهّد بالتأكيد لتدخّل تركيا عسكريًا. أمرٌ انتقده بايدن بشدة بما سمّاه «فشلًا ذريعًا» يخلّ بصورة الولايات المتحدة ومصداقياتها حول العالم، ما أكد بايدن على أهميته في مقاله في فورن بوليسي. ومع أن بايدن كان قد صوَّتَ لصالح حرب العراق، إلا أنه تعلّمَ من تلك التجربة فكان من معارضي التدخل في أفغانستان أو حتى دخول ليبيا. ترى كاترينا مانسون، مراسلة فاينانشال تايمز لشؤون السياسة الخارجية الأميركية، ذلك دليلًا على تراجع الدور العسكري للولايات المتحدة واستبداله بدورٍ قيادي دبلوماسيًا، خاصة في ظل إدارة بايدن.
وبالفعل كان هذا التغيّر قد بدأ يتأصل في توجّهات بايدن قبل زمن. فقد صرَّحَ بذلك في مناظرته مع بول راين في 2012 بقوله إن «آخر ما تحتاجه أميركا هو أن تدخل حربًا جديدةً في الشرق الأوسط» في إشارة إلى أي تدخل عسكري في سوريا. ومع أن قلب بايدن لم يخامره أي شك بمسؤولية النظام السوري عن هجوم الغوطة الكيميائي عام 2013، لا يرى وائل الزيات، الخبير السابق لشؤون الشرق الأوسط في وزارة الخارجية الأميركية لعشر سنوات، أن لدى بايدن ميلًا لزيادة عدد الجنود الأميركيين في شمال شرقي سوريا بعد قرار ترامب سحبهم من هناك. ولكنه أيضًا لا يريد سحبهم بالكامل. ربما يأخذ بايدن بنصيحة جيمس جيفري، المبعوث الخاص للإدارة الأميركية السابقة إلى سوريا، بأن يترك كل شيء على ما هو عليه.
في مقابلة مطولة له مع موقع المونيتور، يُعرّجُ جيفري على الضغوطات التي مارستها الولايات المتحدة على إيران، مذكرًا بأن دعم إيران لسوريا يكلفها الكثير، أكثر ربما مما تطيق. ولكنه لا يبشر بأن تلك الضغوط ستؤدي بالضرورة لانسحاب إيران من سوريا. ثم يتحدث جيفري في تلك المقابلة المطولة عن العلاقة الشائكة بين الولايات المتحدة وتركيا، وخاصة فيما يتعلق بالكُرد.
يرى برايزا أن العلاقات الأميركية التركية قد تعاني في بادئ الأمر من بعض الصعوبات. فقد انتقد بايدن يومَ كان نائب أوباما حكومة تركيا بخصوص ما رآه يومها سياسات تصب في مصلحة داعش، ومع أنه اعتذر عن ذاك التصريح لاحقًا، إلا أن علاقة بايدن بالكُرد ما تزال طيبة. فحسب ما يقوله الزيات، تربط بايدن بالكُرد علاقة قديمة منذ أيام العراق، كما أن لديه الكثير من التعاطف مع قضيتهم، بينما للولايات المتحدة، حسب قوله، تحفظات عديدة على ما قامت به حكومة أردوغان، سواء بشرائها نظام الصواريخ إس-400 من روسيا، أو فيما يخص سياساتها القمعية للمعارضة داخل تركيا. ولكنه لا ينكر بالطبع الأهمية الإقليمية لتركيا خاصة كعضو في الناتو. يُذكِّرُ بايدن في مقاله آنف الذكر في فورن بوليسي بأهمية حلف الناتو كخط دفاع أمام أي عدوان روسي ويتكلم عن سياسة أقسى تجاه الروس من تلك التي كانت في عهد سلفه ترامب، بل إن روسيا تشكل «التهديد الأكبر بما يخص اختراق أماننا وتحالفاتنا» كما قال في مقابلته على برنامج «60 دقيقة» الشهير. مع أن موقف بايدن من تركيا لن يكون بالتسامح الذي كانه ترامب معه، إلا أنني مع ابن عمي على الغريب، ومع حلف الناتو على روسيا.
صقور أم حمائم؟
اختيار بايدن لبلينكن وزيرًا لخارجيته هو تأكيدٌ على رغبته بالاعتماد على سياسيين مخضرمين، حسب ما قال آليكس راول في مقاله في الجمهورية. بلينكن كان نائب مستشار الأمن القومي في عهد أوباما. ولكن اختياره ليس بالضرورة دليلًا على استمرار سياسات أوباما في عهد بايدن. في مقابلة له مع قناة سي بي إس قال بلينكن إن الإدارة الأميركية فشلت في منع مأساة الشعب السوري في النزوح والتهجير، مُعبّرًا عن استحالة أي تطبيع للعلاقات مع الأسد. فبلينكن يرى بوجوب التعاون مع الحلفاء الكُرد في شمال شرق سوريا، وضرورة استمرار منع النفط هناك عن النظام السوري. ولو أن النظام في الحقيقة يحصل على النفط بأشكال أخرى، عن طريق القاطرجي مثلًا، الذي يخضع وشركته لعقوبات الخزينة الأميركية منذ 2018. ولكن الرغبة بالحفاظ على هذا التحالف لا تناقض رغبة بلينكن بالحفاظ على علاقة جيدة بتركيا هو الآخر، كما ذكر في حديث له مع معهد هدسون للدراسات. يُذكّرنا بلينكن، كما فعل بايدن قبله، بأن تركيا عضو في حلف الناتو، لينتقل في حديثه إلى مقابل الناتو، أي روسيا، ودورها في العالم الذي لا يرغب بلينكن في أن يرى أي تعاظم له. وربما يكون هذا ما دفع بالإدارة الأميركية لتمديد اتفاق الحد من الأسلحة النووية مع روسيا خمس سنوات أخرى، وذلك في مطلع شهر شباط (فبراير) الجاري، فيما بقيت لغة بلينكن صارمة بأن هذا التعاون لن يعني تساهلًا في أمور أخرى. وفي النووي أيضًا، تحدَّثَ بلينكن عن الرغبة بالعودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، موضحًا أن هذا لن يعني زوال كل عقوبات الولايات المتحدة على إيران، كما ذكر في مقابلته مع سي بي إس. في تلك المقابلة يعرج بلينكن على سوريا قائلًا إن الولايات المتحدة تملك ما يكفي من النفوذ لفرض عملية انتقالية فيها «تعكس ما يرغب به الشعب السوري»، مُذكِّرًا بالوجود العسكري لكل من إيران، وروسيا وتركيا في شمال شرق سوريا، وبغياب الدور الأميركي عسكريًا هناك، ليختم قائلًا «أستطيع الضمان بأننا تحت إدارة بايدن سنكون على الأقل حاضرين [هناك]».
حسب ناتاشا برتراند وزملائها في مقالهم في مجلة بوليتيكو، فإن من حسن حظ بلينكن أن خيار بايدن لوزير الدفاع وقع على لويد أوستن بدلا من ميشيل فلورني، المرشحة السابقة لذاك المنصب قبله. ربما لأن أوستن أقرب في تصوراته للسياسة الخارجية إلى بقية الفريق منها. يتحدث جوش روغين في مقال له في واشنطن بوست عن تركة أوستن كقائد للقوات الأميركية في سوريا والعراق ضد داعش قبل أن يتقاعد منذ أربع سنوات. هو الذي قال بايدن إنه اختاره «لسجله في الشرق الأوسط»، إذ أشرف أوستن على انسحاب القوات الأميركية من العراق في ما رآه بايدن عمليةً ناجحة. أوستن رجل عسكري، يقدم خدماته وفق الأوامر، ويعترف بالأخطاء عندما تحصل، كما يقول جوناثان مارتن وزميلاه في مقالهم المشترك في نيويورك تايمز. أوستن كان القائد الأعلى للقوات الأميركية في منطقة الشرق الأوسط، والمشرف أيضًا على مشروع تدريب مسلحين سوريين مناهضين للنظام، ما جلب توبيخ ماكين له في 2015 يوم أعلن أن ذاك المشروع باء بالفشل. سألَ ماكين أوستن يومها إن كان يوصي بمنطقة حظر جوي لمنع طائرات الأسد من قصف المدنيين، أو بمنطقة عازلة قد تحمي المدنيين، ليجيب أوستن حينها بالنفي على السؤالين. ليس أوستن الصقر الذي كان لفلورني أن تكونه.
اختيار نافذ على الأقل
لم يحتَج جايك سوليفان، خيارُ بايدن لمنصب مستشار الأمن القومي، لموافقة مجلس الشيوخ على تعيينه لكونه من طاقم البيت الأبيض، لا جزءًا من الحكومة مثل بلينكن وأوستن. جايك سوليفان اسمٌ يعرفه سياسيو واشنطن، فهو الجندي المجهول/المعروف الذي كان وراء مباحثات الصفقة النووية التي عقدها أوباما مع إيران تحت إمرة هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأميركية وقتها، وأول المتحمسين اليوم لإعادة إحيائها. يتحدث سوليفان عن تعقيد العلاقات بين كل الفاعلين في المنطقة، من اتفاق الروس والأتراك على بعض النقاط، واختلافهم على أخرى، فيما يتوافق بدوره مع المصالح الإيرانية حينًا، ويختلف معها حينًا آخر، وما يؤثر به ذلك على الإدارة الذاتية والنظام السوري. ويقول سوليفان إن الولايات المتحدة لن تقطع علاقاتها بالكُرد، وإن سياسات تركيا ستحمل عواقب دبلوماسية وسياسية عليها، خاصة فيما يخل بالتنسيق العسكري داخل حلف الناتو، المتجسد في صفقة نظام الصواريخ آنفة الذكر. تتشابه الرؤية بين سوليفان وبلينكن وبايدن هنا في تحفظاتهم على تركيا، وفي رغبتهم تفعيل دورها في الناتو في مقابل روسيا. أما بشأن سوريا، فقد قال سوليفان في مقابلة له مع مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية إن الحديث عن رحيل الأسد هو ما صَعَّبَ الموقف الأميركي في هذا الشأن، وإن محاولة الوصول إلى حل دبلوماسي كان الأجدى. ومع ذلك، فسوليفان لم يكن ضد توجيه ضربات للنظام السوري بالمطلق كما يذكر بيل بيرنز، الذي اختاره بايدن لإدارة وكالة الاستخبارات، في كتابه.
أولويات
لن تكون سوريا ربما أول أولويات إدارة بايدن الجديدة، كما يخبرنا الزيات، إلا أن قدومه إلى البيت الأبيض سيشكل بالتأكيد نقلة نحو دور أميركي أكثر حضورًا في العالم، وفي سوريا، كما ترى المؤسسة البحثية أتلانتيك كاونسيل. قد لا تغير الإدارة الجديدة بالضّرورة توجّهات سابقتيها بألا يكون لها سياسة خاصة بسوريا، إلا أن حضورًا أبرز على الصعيدين الدبلوماسي والإنساني يبدو ممكنًا جدًا على حد قول المؤسسة ذاتها. وقد بدأت بوادر ذلك بالظهور بالفعل في تصريح المتحدث باسم الخارجية الأميركية مثلًا، الذي تحدث فيه عن رغبة الولايات المتحدة «تفعيل تسوية سياسية لإنهاء الحرب الأهلية في سوريا». وحيث أن الأغلبية الديمقراطية في مجلسي الكونغرس ستمنح بايدن الكثير من الحرية في تطبيق ما وعد به من سياسات، فإن سياسته في سوريا ستكون سياسته مع الفاعلين الإقليمين الأبرز فيها، على حد قول جريدة ميدل إيست آي اللندنية المعنية بشؤون الشرق الأوسط. كما يفعل مجلس الشيوخ الأميركي اليوم، عندما يحث بايدن على الضغط على تركيا في الشأن الحقوقي. وعلى كل حال، لا يرى الزيات أن الإدارة الأميركية الجديدة سترفع العقوبات الحالية على نظام الأسد تحت قانون قيصر، بل قد نرى عقوبات جديدة تُفرض عليه وعلى ومن يتعاونون معه.
في تشرين الثاني من العام الماضي، سألَ عروة خليفة عمّا «سيفعله بايدن بخصوصنا». وإذ لا توجد حتى اليوم أي مؤشرات على انعطافةٍ حقيقية، لكن التحولات الهامة، إن حصلت، فالأرجح أنها ستكون نتيجة تغيرات في العلاقات الأميركية مع أولئك الفاعلين الأساسيين في سوريا، وليس نتيجة أسبابٍ تتعلق بالملف السوري بعينه.