صبيحة الرابع عشر من جانفي (كانون الثاني)، لم تُفلح إجراءات الحجر الصحي الشامل وحظر الجَوَلَان التي أقرّتها الحكومة التونسية في ثني مجموعة صغيرة من النساء والرجال عن الخروج إلى الشارع للاحتجاج. بدت لهم الإجراءات الصحية الاستثنائية، التي تزامنت مع إحياء الذكرى العاشرة للثورة التونسية، كأنها مطية رسمية لإغلاق الفضاء العام وتطويق الاحتجاجات الاجتماعية المنتظرة. في ذلك اليوم، مَنعت قوات البوليس المتظاهرين المصحوبين بعائلات شهداء الثورة وجرحاها من الوصول إلى شارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة، الشارع الذي أصبح جزءاً من سجلات الانتفاضة ودلالاتها الرمزية، ولذلك تسعى الآلة الأمنية إلى رعايته المستمرة بزرع حواجز المرور، التي باتت تغطي نصف تفاصيل الشارع وتحجب الكثير من ملامحه. ولكن محاولات الإغلاق الرسمي سرعان ما تهاوت في الأيام القليلة التالية أمام تزايد الكتلة الاحتجاجية، التي كَسَرت الطوق الأمني المؤدي للشارع، هاتفة: «لا خوف، لا رعب، الشّارع مِلك الشعب».

في الوقت الذي كانت فيه العاصمة، بشارعها الرئيسي وأَنهُجها (أزقتها) الفرعية، تشكّل مسرحاً للصراع بين المطالبين/ات برفع الحصار الأمني عن الفضاء العام وبين قوات البوليس، كانت بعض الأحياء الشعبية ومناطق الداخل التونسي تنتج مشهدية احتجاجية أقل تسامحاً مع المؤسسات والممتلكات وخطابات الترويض الرسمي، وأكثر استعداداً لخرق الحظر الأمني والصحي واستعراض الغضب والحرمان من خارج الأناشيد السلمية. الاحتجاجات الليلية العنيفة التي اندلعت في هوامش المراكز الحضرية الكبرى (تونس، سوسة، صفاقس…) وفي بعض المحافظات الداخلية، أعادت إلى أذهان الحكام الحاليين شبح احتجاجات جانفي 2011 التي أطاحت بالرئيس الأسبق زين العابدين بن علي. لذلك، سارعت حكومة هشام المشيشي وحزامها البرلماني -المسنود بشكل خاص من حركة النهضة الإسلامية- إلى التشكيك في الجذور الاجتماعية والاقتصادية للاحتجاجات الليلية، واصفة المشاركين فيها بالـ «مخربين» و«الفوضويين»، وقد ساهم الإعلام المحلي المرتبط بمراكز الحكم والنفوذ في إذكاء سردية «الانحراف» و«البلطجة»، رغم أنه لم يكن قريباً من الوقائع الميدانية، أو لم تكن لديه القدرة على ذلك. وبالتوازي مع الشيطنة الإعلامية، واجهت الحكومة حركة الاحتجاج الناهضة في الهوامش عبر حملات اعتقال عشوائية طالت العديد من التلاميذ والطلبة وبعض النشطاء والمدونين، وبلغت الحصيلة 1400 عملية اعتقال دون احترام الإجراءات القانونية، بحسب مصادر حقوقية.

الكتلة الغاضبة ومعاداة المؤسسات

في الوقت الذي كان فيه رفيق عبد السلام، القيادي في حزب حركة النهضة الإسلامية، ينصح القواعد الشبابية لحزبه بالاهتمام بـ «تجميل أنفسهم بالعلم والمعرفة» و«تهذيب أبدانهم بالرياضة»، كانت التركيبة الاجتماعية للحراك الاحتجاجي تستقطب إلى صفوفها خليطاً من المنقطعين عن الدراسة والعاطلين عن العمل، وكتلة لا بأس بها من المنبوذين في الأحياء الشعبية المحيطة بالعاصمة وفي الشريط الداخلي الغربي للبلاد، إضافة إلى الفعاليات المدنية والسياسية الشبابية التي كانت تدفع باتجاه فك الحصار البوليسي عن الأحياء الشعبية وتحرير أفضية الاحتجاج الشعبي من إرادات الضبط والإخضاع. كان المسار الاحتجاجي يصوغ بناءه ومعناه من خارج الخطاب المؤسساتي والحزبي الاعتيادي، ولم يكن قابلاً بفكرة التسوية مع «عقلانوية» سياسية تشتغل ضد مصالح الفئات الاجتماعية الهشة والمنبوذة.

ورغم أن الليل، كزمن احتجاجي، كان مدخلاً لتشويه الحراك الاحتجاجي وربطه بـ«اللصوصية»، إلا أنه شكّلَ علامة جديدة على أن حشود الغاضبين في الهوامش تختار مواقيتها وأشكالها الاحتجاجية عبر التعارض مع المعيارية الاحتجاجية الرسمية، ومن خلال الاشتباك مع المؤسسات المحلية المجسِّدة لمنظومة الحكم، وبالأساس المؤسسة الأمنية بوصفها واجهة للقمع والعقاب. إضافة إلى أن الليل زمن مُعاش في حياة العديد من شباب «الحومة» (الحارة) في الأحياء الشعبية، لأنه يُعوِّضُ نهارات العطالة والانسحاب، خاصة في ظل الأزمة الصحية التي أحالت على البطالة العديد من عمال المقاهي والمطاعم وعمال البناء والمسرّحين من المصانع، وتنحدر معظم هذه الفئات من الأحياء الشعبية والمناطق الداخلية، وقد قدّرتهم التقارير الرسمية بحوالي 274 ألف عاطل جديد عن العمل. لذلك، جاء الغضب مُتناسباً مع ثقل المعاناة اليومية التي تعيشها حشود المعطلين والمقصيين، الذين زودتهم ثورة 2011 بطاقة جديدة محفزة دائماً على رفض اللاعدالة و«الحقرة» (الاحتقار). ولعلّ أستاذ علم الاجتماع التونسي، عماد المليتي، كان محقاً عندما لاحظ قائلاً: «من المرجّح أن تحث التطلعات القيمية التي تولدت عن الثورة في عام 2011 التونسيين على أن يكونوا أقل تسامحاً مع مختلف أشكال التمييز والتفاوتات واللامساواة في الفرص، ويزيد من إحساسهم بالضيم وغضبهم على كل ما من شأنه أن يمس المساواة بين المواطنين».عماد المليتي. التحولات الاجتماعية والحريات الفردية لدى الشباب التونسي: أي علاقة؟ مجلة عمران، المجلد الثامن، العدد 32، ربيع 2020.

الهامش يُفكّر من خارج منظومة الانتقال الديمقراطي

صبيحة الثلاثاء 26 جانفي (كانون الثاني)، لم تفلح المدرعات الأمنية المستوردة حديثاً في منع كتلة المحتجين من الوصول إلى ساحة باردو بالعاصمة، حيث كان رئيس الحكومة يستعرض لعبة التحوير (التعديل) الوزاري التي أعدها سلفاً بالاتفاق مع حلفائه في مجلس نواب الشعب من اليمين الديني واليمين الليبرالي على حد السواء. لم يكن في حسابات الحركة الاحتجاجية تعطيل التحوير الوزاري، وإنما كان السخط على الأغلبية البرلمانية الحاكمة جزءاً من دوافع الحركة الاحتجاجية منذ البداية، لأنها صارت في نظر الكثير جزءاً من منظومة الفساد والزبونية، وهي لا تمتلك برامج للتغيير الاجتماعي بقدر ما تمتلك خططاً للتموقع والمحافظة على مصالحها وامتيازاتها. وقد باتت صورة مجلس نواب الشعب -الذي  يُعَدُّ المؤسسة الأكثر تجسيداً لفكرة الديمقراطية التمثيلية- أشبه بالتجمع الصغير المزدحم بلوبيات المال والسياسة، ومصعداً لتحقيق النجاح الفردي على حساب الانتظارات الشعبية.

في ظل الحفاظ على الهيكلة الاقتصادية والاجتماعية القديمة دخلت الديمقراطية التمثيلية في تونس نفق «الشكلانية»، وأصبحت حالة طقوسية يجسدها الذهاب الدوري إلى صناديق الاقتراع. ولذلك، جاء الخطاب الاحتجاجي الأخير معبراً عن إفراغ الديمقراطية من قيمتها كآلية منتظرة لتغيير الأوضاع الاجتماعية وتحقيق العدالة والمساواة بين الفئات والمناطق. ومن خارج سردية «الاستثناء التونسي»، حاولت الحركة الاحتجاجية اجتراح سردية مغايرة مشحونة بانكسارات وغضب القاع الاجتماعي الذي ردَمته الخطابات الرسمية المهيمنة. في هذا السياق، رفعت مجموعة شبابية ناشطة في الحراك شعاراً باللهجة التونسية «تحت الزليز برشة تكريز» (تحت الجلّيز -أي اللمعان- هناك الكثير من الغضب). ورغم أن هذا الشعار لاح غامضاً للبعض، إلا أنه يشير بقوة إلى تراكم كتلة السخط الاجتماعي رغم محاولات التلطيف والترويض، فتحت الأرض المُبلّطة الملساء يوجد الكثير من الغضب.

صاغ الحراك الاحتجاجي معانيه وشعاراته وأشكاله من خارج النمطية المعهودة لخطابات الانتقال الديمقراطي، لذلك حظيت الكثير من المشاهد الاحتجاجية بالإدانة الأخلاقوية، على غرار مشهدية رش أعوان البوليس بعبوات الألوان في مسيرة السبت 30 جانفي (كانون الثاني) التي انتظمت في شارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة. وتسعى المنظومة الحاكمة إلى تهميش وتحقير الحمولة الرمزية التي أراد الحراك الاحتجاجي الأخير بثّها، محاولةً تسييج مساحات الفعل السياسي الخارجة عن المأسسة والرقابة، في حين أن عوالم المحتجين الشابة تجترح إبداعيتها الرافضة من داخل تجاربها اليومية الخاصة. ولذلك، لاحظت الباحثة السياسية التونسية، ألفة لملوم، أثناء دراستها لتمثلات الفعل السياسي في الأحياء الشعبية قائلة: «إن عدم المساواة الاجتماعية والحضرية تغذي عالم المعنى للشباب، وتشكّل هويتهم وتنشئتهم السياسية على نحو تحدد فيه إقصاءهم من أشكال الديمقراطية التمثيلية وتكرس تهميشهم في المسرح السياسي المؤسسي».ألفة لملوم. السياسة على هامش الدولة والمؤسسات (ضمن مؤلف جماعي: في سوسيولوجيا الهوامش في تونس) ط1، تونس: دار محمد علي الحامي، 2018.

الدولة وأزمة تعميم العدالة

كان الحراك الاحتجاجي الأخير حالة جماعية غير مُصمَّمَة مسبقاً، التقت داخلها الكثير من المسارات الفردية والجماعية التي راكمت تجارب سيئة ومُحبِطة مع جهاز الدولة، التي سعت حكومات ما بعد-الثورة إلى توظيفه وإخفاء قصوره عن تحقيق العدالة، تحت حجية الحفاظ على «أمن الدولة واستقرارها». ارتبط الاعتراض الكبير على الدولة بغياب خدماتها العامة، المتمثلة أساساً في الصحة والنقل والتعليم والسكن وتوفير فرص تشغيل متكافئة، إضافة إلى عجزها البنيوي عن تقليص التفاوتات الاجتماعية بين الفئات والمناطق. لذلك، أصبح حضور الدولة لدى الأغلبية المحرومة مقترناً بالاحتقار والتهميش، نظراً إلى دورها الاجتماعي الذي ينتج مزيداً من الهشاشة الاجتماعية في الأحزمة الشعبية للحواضر الكبرى وفي المحافظات الداخلية، في حين يساهم في الوقت ذاته في رعاية شبكات الفساد وإنتاج أقلية محظوظة، لديها القدرة على النفاذ إلى الثروة والمصالح والصفقات العمومية.

اقترنت بعض دلالات الحراك الاحتجاجي الأخير برفض استمرار هذا الدور الاجتماعي للدولة، لأنه أصبح يعبّر عن نفسه في شكل وقائع وظواهر يومية، تبدأ بوصم شباب الأحياء الشعبية في الخطاب السياسي والإعلامي المهيمن عبر ربطهم بـ«الجريمة» و«الانحراف»، وتنتهي بإقصائهم من نسيج الخدمات العامة وتحويلهم إلى كتلة بشرية مُخيفة لا تصلح إلا للعقاب والضبط. لذلك، استمد الحراك الاحتجاجي فعاليته من تمثلات الهامشيين لمواقعهم وارتباطاتهم بجهاز الدولة، محاولين/ات الإجابة على إنكارها ولا عدالتها من خلال الاشتباك مع مؤسساتها الزجرية، خاصة الجهاز الأمني الذي دائماً ما يُستخدَم كواجهة للسيطرة على بؤر الاحتجاج الشعبي.