«بكرا بس تصيري إم بتفهمي»

الأمومة، قبل كل شيء، هي إرث أنثوي تنقله الأم للابنة. فلأمّهاتنا أمّهات، ولنا أمّهات أيضاً.

«بس تصيري إم».… هو ليس خياراً، بل مصير: سيحصل هذا، وستفهمين.

قد تكون الأمومة للعديد من النساء اليوم خياراً حرّاً وتجربة شخصية أَرَدْنَ خوضها، إلا أن هذا لا ينفي أن الأمومة إحدى الأدوار التي تُفرَض علينا كنساء – بأشكال مباشرة أو غير مباشرة – كمصير بديهي لنا. فالأمومة هي دور المرأة الطبيعي، دور تُجسّده فيزيولوجياً، تختاره بالفطرة. وإذا نسيت، نُذكّرها.

«إيمتين رح نفرح منك؟»

هو ليس سؤالاً في الحقيقة. ومن الصعب لمن تُسأَل هكذا سؤال أن تجيب عليه. هو أقرب إلى تذكير ناعم بأن الوقت يمرّ، وبأن الجميع بانتظارها؛ بانتظار اختيارها رجلاً لتبدأ حياتها.

«إيمتين رح صير تيتا؟»

سؤال يتلوه، أو يسبقه، وهو أيضاً بلا جواب. هو تذكير إضافي بأن الوقت يمرّ، وبأنكِ لم تعودي صغيرة.

يُقلق مرورُ الوقت أمَّك، ويُقلقُكِ قلقُها. فما زالت العنوسة وصمة تحملها المرأة، ومصيراً تراجيدياً لها في مخيلتنا. هي لم تتزوج ولم تنجب.

حسناً، ماذا فعلت؟ وأي إرث لها؟

أصبحَت كاتبة

«إمي انهارت. ما فيني إطلب منها أكتر من هيك. انحرمت من إرثي، وحسيت حالي قاسية ووحيدة. بس بأكتوبر لقيت حالي بالطيارة حاملة شنطة فيها شوية تياب، وقصيدة عن البحر بعد ما خلصتها. كان قدامي مشوار طويل»

هكذا تختم إيتيل عدنان نصها «كيف أصبحت كاتبة في لبنان»، لتبدأ حياتُها ككاتبة على متن طائرة إلى فرنسا بخسارة الأم وشعور بالوحدة والقسوة.

في سيرتها الذاتية بالإنكليزية، تروي إيتيل عدنان نشأتها في بيروت خلال الانتداب الفرنسي والحرب العالمية الثانية، وتتحدث عن مسيرتها مع اللغة الفرنسية والكتابة. فتحَت الفرنسية، التي تعلمتها إيتيل في إحدى المدارس الكاثوليكية منذ سن الخامسة، عالمَ الأدب والسينما الذي سَحَرَها في طفولتها. ومن ثمّ قدّمت الكتابة بالفرنسية لإيتيل هامشاً من الحرية الفردية في المراهقة، استطاعت من خلاله أن تبني عالماً خاصاً لا رقيب عليه.

وهذا الرقيب في نص إيتيل هو الأم اليونانية، التي يُقلقها شغف ابنتها المراهقة بهذه اللغة الغريبة، ويُغضبها انغماسها في القراءة والكتابة: «صارت تكره المدرسة. وصارت تكره الكتب ورفقاتي. وصارت تطفي الضو أنا وعم بقرا، أو تجبرني نام بكير لتضمن إنو ما إغرق بشي كتاب أو مجلّة. اعتبرتهن هي أعداء ودخلاء». فاللغة هي أساس الشرخ بين الابنة والأم، ومصدر شعورهما المتبادل بالغربة عن بعضهما البعض. رأت الأم فيها دليل اختلاف ابنتها عنها وسبب ابتعادها، ووجدت الابنة فيها مصدر إلهام وإبداع وطريقاً للخروج من وصاية ورقابة الأم. في نهاية نصها، تسافر الكاتبة إلى فرنسا، تاركةً الأم وراءها.

إيتيل عدنان

هذه الهجرة، من الأم ومن لغتها، شكلت نقطة تحرّر الابنة من سلطة أرادت لها الزواجَ والأمومةَ مصيراً. رغبات إيتيل في العمل والدراسة شكلت مصدر قلق للأم، التي رأت في رفض الابنة دور الزوجة والأم رفضاً لها ولكيانها. تخاف من خسارة ابنتها، فتقف عائقاً في وجه رغباتها: تُعلّق دراسة ابنتها في سن الخامسة عشر بحجة غلاء الأسعار، كما تمنعها من الالتحاق بكلية الهندسة («هيدا شغل رجال»)، أو من قبول منحة دراسية في فرنسا («والله لياكلوكي الرجال هونيك»)، وتتوعّدها بتفجير مكتب الأستاذ الفرنسي الذي أمّن لها المنحة («هيدا واحد بلا أخلاق، بده يفرّقكن عن عِيَلكن»). ومع تقدّم عمر الابنة، تزداد ضغوطات الأم عليها.

«إمي بلّشت تعتل هم مستقبلي، كانت مصرّة تزوجني وتشوفني عم بستقرّ بحياة بتشبه حياتها. لما قلتلها إنه ما بيهمني إتزوج اتهمتني إنه بفضّل كون متهورة وبلا مسؤولية. ومرات جربت تقنعني إني عم جنّ»

هكذا تظهر لنا ثنائية الأم والابنة في نص إيتيل: الأم عائق يجب تخطّيه أو التخلّص منه لتصبح الابنة كاتبة. هي المرأة المحافظة والرقيبة الأخلاقية التي تحاول أن ترسم ابنتها على صورتها. فالابنة هي الزوجة والأم المستقبلية، وهذا هو مصيرها الطبيعي كأنثى. فلا تكتمل حياة المرأة إلى حين تصبح أماً. وهذا ما ترفضه الابنة، فتصبح بنظر أمها متهورة وغير مسؤولة. تحاول الأخيرة أن تُعيدها إلى صوابها وتحذّرها من ثمن الانحراف عن المألوف والمتوقع. في غياب شبه تام للأب، تجسد إذن الأم السلطة الأبوية. فالأب في نص إيتيل غائب، مريض، مُسِنّ، لا سلطة فعلية له. هو قائد متقاعد في الجيش العثماني، يَكبَر أمها بعشرين عام. وهو، بنظر ابنته، رجل مهزوم. الأم هي المسؤولة عن تربية ابنتها. هي صاحبة القرار. فتحاول تقييد حرية ابنتها وتهويلها من عواقب تمردها.

أما الابنة فتجد في الأدب الفرنسي عالماً متوازياً تسكنه لا علاقة له بالعائلة والوطن. في طفولتها، تنفر من دوغماتية راهبات المدرسة الفرنسيات: «كانو يتصرفو متل المستعمرين، متل المبشرين». وفي صباها، يسحرها الأدباء والشعراء الفرنسيون الذين تقرأ، فتجد في كتابات ريمبو وبودلير – آباء الشعر الفرنسي – طريق تحرّرها من سلطة تقيّد خياراتها وتفرض عليها الزواج والأمومة كواجب. بذلك، تنضم إيتيل إلى كاتبات أخريات سحرهم عالم الأدب، الذي لطالما استثناهنّ، فتخلَّين َعن أمهاتهنّ للوصول إلى الكتابة.

لا أعتقد أن انجذابي إلى ثنائية الأم والابنة في نص إيتيل اعتباطي. لعل ما حرّكه هو سؤال شخصي عن الدور الذي لعبته أمي في غياب الأب، وعن السلطة التي مثّلتها هي لي. فأمي، عكس والدة إيتيل، لم تمنعني من السفر والدراسة، بل أرادتهما لي، ولطالما شدّدت على أهمية استقلاليتي المادية كامرأة. لم تشكّل الكتابة فعل تحرر منها، فهي التي حثتني على الكتابة. في طفولتي، كانت قارئتي الأولى، وكتبت لها القصائد بالعربية والفرنسية. وفي المراهقة، شكّلت مشاكلي معها مادتي المفضلة للكتابة. لم تكن رقيباً، بل كانت – دون أن تعلم – شخصية بارزة في عالمي الأدبي. لكن مع بداية دراستي الجامعية، وتوقُّفي عن الكتابة بالعربية والفرنسية وبداية كتابتي حصراً بالإنكليزية، شعرتُ بخسارتها كقارئة. مع الوقت، وجدتُ نفسي أكتب بلغة غريبة عنها، ووجدتْ في كتابتي إقصاءً لها. لم يكن هذا فعل تحرّر، بل كان بداية هجرة عنها، فرضتْها اللغة، وباركتْها هي. خسرتُ اللغة الأم، وأصبحت الإنكليزية لغة العقل والمعرفة والحياة الفكرية والمهنية. وأصبح لساني المستعار هذا، والعالمُ الذي أتاحه لي، انتصاراً لها.

أصبحَت أمها

لم تكن سيمون دو بوفوار على علاقة جيدة بأمها. فهي الابنة الملحدة لأم كاثوليكية، والتي تمرّدت على القيم البورجوازية، فرفضت الزواج وعاشت في علاقة مفتوحة مع الفيلسوف جان بول سارتر. في الجزء الأول من مذكّراتها، تحت عنوان مذكرات ابنة مطيعة، تروي دو بوفوار قصة وصولها إلى الكتابة، وهي أيضاً قصة تحرّر من الدين والعائلة. والأم، في مذكراتها أيضاً، هي الرقيب التي تخشاه البنت: تقرأ مكاتيب ابنتها، تمنعها من الكتابة والقراءة، تغار من أحاديثها الجانبية مع أختها.

«كان لازم نترك البواب كلها مفتوحة، وكنت لازم ع طول إشتغل تحت نظرها، بالغرفة يلي قاعدة فيها»

الأم تخشى هروب ابنتها إلى عالم لا مكان لها فيه. والابنة، عكس العنوان، هي التي تتمرد على المصير المحدق بها، فتترك بيت العائلة لتسكن وحدها في باريس حيث تبدأ دراستها في جامعة السوربون.

حررت الدراسة والكتابة إيتيل وسيمون من أدوار الأنوثة البورجوازية التي فُرضت عليهما. وظهرت الأم، في مذكرات الطفولة والمراهقة، كعائق يجب تخطيه لاكتشاف وتحقيق الذات. القارئة قد تتماهى مع تجربة الكاتبة مع أمها، وقد تتعاطف مع الأم في خوفها من خسارة ابنتها. فلطالما عرفنا أن جزءاً كبيراً من معاركنا الفردية مع قيم وعادات ومعتقدات مجتمعاتنا الأبوية يحصل في علاقاتنا مع أمهاتنا.

«عيب يا ماما … شو بقولو عنا العالم»

فخياراتنا اليوم غير خياراتهن، وواقعنا اليوم يختلف عن واقعهن. ولكنهنَّ أيضاً من المتضررات من مجتمع ذكوري مارس شتى أنواع العنف والظلم الفردي والممأسس عليهن. فهن وصيات على إرث قد لا نريده، وشاهدات على معارك شخصية سبقت معاركنا. نجد في تجاربهن ما يمكن لنا التعلّم منه، ما نريده لأنفسنا، وما نرغب بالانتفاض عليه. الاصطدام متوقع. ولكن ماذا بعد؟ وهل يُحتَّم علينا أن نتخلص من أمهاتنا لنكسب أنفسنا؟ لنكتب؟

ماذا بعد الانفصال؟

في مقطع من كتابها موت شديد النعومة، والذي تتناول فيه أيام أمها الأخيرة في المستشفى، تكتب دو بوفوار عن نوبة بكاء اجتاحتها عشية زيارتها لأمها. في حديث مع سارتر، تشرح له عدم قدرتها على استيعاب هذا الحزن العميق: «كأن في حدا تاني، مش أنا، عم يبكي جواتي». ثم تصف له فم أمها، كما رأته في الصباح، وتتحدث عن أحاسيس الأم التي تجلّت في تعابيره: الحزن والأمل والتواضع ونكران الذات. في هذه اللحظة، وبحسب سارتر، لبست سيمون فم أمها، وراحت تقلّد تعابيره. هكذا، تحوّل نفور الابنة إلى تعاطف مطلق مع أمها، تعاطف لم تحتمل شِدَّتَه فمزّقها.

«طبّ الجرة ع تمها…»

ها هي ذي الفيلسوفة النسوية تنطق بفم أمها. وها هي الأم تتكلم بشفاه ابنتها. هكذا، وبحركة غير إرادية، تصبح الابنة أمها.

هي لم تتزوج ولم تُنجِب. لكنها فهمت.

تعود سيمون إلى أمها في وداعها الأخير. تفاجئها هذه العاطفة المستجدة تجاه الأم، وترجع إليها ذكريات الطفولة والمراهقة – ذكريات عن إصرار الأم على التضحية، عن تبعيتها وخضوعها لزوج أهملها، وعن نفيها لذاتها في خدمة الآخرين.

«كانت قادرة تنسى حالها، تهمل حالها، كرمال بيي وكرمالنا. بس ما حدا بيقدر يقول ’رح ضحي بحالي‘ بلا ما يحس بمرارة»

وهذه المرارة هي التي جعلت منها أماً قاسية ومتسلطة لابنتيها المراهقتين. فهي، وبغياب الزوج العاطفي وببرودته الجنسية تجاهها، شعرت بوحدة قاسية؛ وحدة لم تَبُح عنها وعاشتها بغضب.

«إمي عاشت ضدّ حالها، عملت كل جهدها لتكبت رغباتها»

في رثائها لها، تتأمل الابنة مصير أمها، تسأل نفسها عمّا حل لهذه المرأة فسرق منها شغفها وعطشها للحياة.

«من هي وزغيرة، كبتولها جسمها وقلبها وروحها بإسم المبادئ والممنوعات. علموها تشدّ الحبل عحالها بإيدها. وبقيت جواتها مرا عم تغلي دم ونار: بس مرا مزيفة، مشوهة، وغريبة عن حالها»

ماتروفوبيا

«طب الجرة ع تمها، بتطلع البنت لإمها»: مثل شعبي لبناني.

ماتروفوبيا: خوف الابنة من أن تصبح أمها.

هو خوف غير مباح، يسكن نصوص إيتيل وسيمون، يحرك علاقتهما بأمهما. هو خوف من إرث أنثوي – من التضحية ونفي الذات – مثّلته الأم ولا ترغبه الكاتبة لنفسها. ماتروفوبيا، بتعريف الكاتبة النسوية أدريان ريتش، هو انشقاق المرأة عن نفسها في رغبتها أن تتطهر من عبودية أمها وأن تصبح حرة. يُخفي هذا الخوف، بحسب ريتش، انجذاباً شديداً مبطناً للأم، وقلقاً من إمكانية التماهي المطلق معها في أية لحظة. كم مرّة سألتِ نفسك: «معقول عم صير متل إمي؟».

تمثل الأم مرجعاً أساسياً في تشكيل هوياتنا وتحديد خياراتنا كنساء. الكثيرات خُضن معارك قاسية مع أمهاتهن، والكثيرات خسرن أمهاتهن بسبب خياراتهن، والكثيرات وجدن في أمهاتهن الحب والدعم غير المشروط. منا من تعلمت من أخطاء أمها، ومنا من أرادت أن تصبح أماً عكس أمها، ومنا من طلبت نصيحة أمها ثم تجاهلتها.

في غياب الأب، قد تشكل علاقتنا بها أول احتكاك لنا مع السلطة الأبوية؛ سلطة تراقب وتمنع وتأمر وتقمع، فنعيش في مواجهتها فعل تمرّدنا الأول. ولكننا، في الوقت نفسه، نرى في تضحيات الأم دليل ظلم مورس عليها. وقد نرى في خياراتها قبولاً ورضوخاً للأمر الواقع، أو استسلاماً في وجه السلطات العائلية والدينية والأخلاقية. خوف الابنة من أن تصبح أمَّها هو خوفُها من خسارة ذاتها. وغالباً ما يأتي هذا الخوف ممزوجاً بحبّ عميق وتعلّق شديد بالأم. هو خوف من نظام مبني على تضحياتنا كنساء، ورغبتنا بألا نضحي لأجله.

ففي مجتمعاتنا، تُقهَر الأمهات وتُقدَّس الأمومة. وللنساء علاقة مختلفة مع ظلم وقهر الأمهات. لا نريده لأنفسنا. لا نريده لهن. نحاول أن نمحو أثره عنّا. منا من حاولت إنقاذ أمها، ومنا من أُجبرت على التخلي عنها، ومنا من بحثت عن طريق الهروب من مرارة التضحية.

قد لا نطمح بالزواج والإنجاب. قد لا يعنينا الأمر. والبعض منّا قد تسأل نفسها في أوقات التأمّل، أو حين تلاعب ابنة صديقتها، أو حين يسألها ربّ العمل إذا كانت تنوي على الإنجاب: أيّ أمّ سأكون؟ الكثيرات لم يحسمْنَ خيارهنّ؛ يتركن الوقت يلعب دوره؛ يؤجّلن التفكير بالموضوع.

«مش هلق … مش وقتها»

في تخليها عن الأمومة كإرث أنثوي، قد تتخلى الكاتبة عن أمها. هي ليست مثلها. هي لا تريد أن تكون مثلها. تسافر. تهاجر. تكتب بلغة جديدة. تترك الأم وراءها لتصبح كاتبة. وتعود إليها من جديد في مذكراتها.

«انحرمت من إرثي، وحسيت حالي قاسية ووحيدة»

بانشقاقها عن أمها، وشعورها بالقسوة والوحدة، تدفع إيتيل ثمن انحرافها عن مصيرها وتمرّدها على سلطة مجتمع جسّدته الأم. هو ثمن لا نريد أن ندفعه. في عودة ذاكرتها إلى قسوة ووحدة الفراق، نلمس رغبة بالحفاظ على إرث يربط الكاتبة بأمها. في الكتابة عودة إلى هذا الإرث، محاولة لفهمه وللتصالح معه. من خلالها، تكشف الكاتبة للقارئة أثر الأم عليها. قد لا نريد مصير أمهاتنا، بحلاوته ومرارته، ولكننا لا نريد التخلص منهن أو التخلي عنهن. وإن كانت الكتابة فعل التمرد الأول على السلطة، ففي الكتابة أيضاً طريق – قد ترسمه الكاتبة – يُعيدها لأمها.