أنجبت الأسطورة أطفالاً كثيرين، دعت الآخرين ليُنصتوا ويتعلموا تحت الشرفات الحديدية للمدينة. ولكن الكثيرين يؤمنون بوجود شيء آخر خلف هذه القصص. لمسوا الحقيقة خلف السحر. شربوا من ماء بحيرة بونتشارترين، والآن ادعتهم المدينة لنفسها.
قد تشعر بها وهي تناديك في أحلامك. قد تتوق لمرأى أكواخها الزاهية وفِرَق الجاز في شوارعها. أو ربما تبحث فقط عن تسلية روحانية جديدة. دوافعك تخصك وحدك. أياً كان مبتغاك، فإن نْيوأورلينز ستُلبّيك. ولكن حذار. سيقول لك من يعرفون المدينة أن هناك كثير من المخاطر تلازم جمالها. إن لم تكن يقظاً فسينتهي الأمر بك عالقاً في صفقة لم تساوم عليها. صاحبة حلوة ولكنها تستطيع أن تكون قاسية أيضاً. خُذها ببهجة، بمحبة، ولكن إياك أن تأخذها بخفّة. هل ترى؟ هكذا يعمل السحر الحقيقي. مليء بالبهجة وتعيس كجنازة تسمع فيها موسيقا الجاز. جميل وخطر في آن معاً كزهرة دفلى بيضاء. إذا أردت تجربة العالم الروحي، هيّئ نفسك لجمال يجلب الدموع إلى عينيك ولأهوال تخيفك بلا رحمة. الاثنان موجودان بوفرة في نْيوأورلينز. كثيرون من زوارها الذين أفرطوا في الشراب في بارات شارع بوربون استيقظوا دون محفظاتهم وهواتفهم، وكثيرون من السياح الروحانيين ممن تعاملوا مع فوودوو نْيوأورلينز كلعبة بريئة وجدوا أنفسهم وجهاً لوجه مع أشياء لم يكونوا ليتخيلوها. من خرجوا منها أحياء غادروا بندوب كتذكارات من رحلتهم.
من كتيّب فوودوو نيوأورلينز لـ كيناز فيلان
* * * * *
أدخلوني إلى قاعة المحاكمة. كان القاضي يعتلي منصة بدت لي مرتفعة بشكل مقصود عن قفص الاتهام، حيث وقفتُ لأشعر بضآلتي. انتشر امامي حضور المحاكمة في المقاعد الخشبية. وجّه لي القاضي باسم المجتمع مجموعة من التهم تشمل عَقدي تحالفاً مع الشيطان لحرف الصالحين عن إيمانهم. خيّرني بين الاعتراف بما وُجّه لي من تهم، أو إثبات جنوني. اخترت ادّعاء الجنون رغم إدراكي أنّ السؤال مجرد فخ للإمعان في تحقيري. قال القاضي: «أفاد شهود بأنهم رأَوك ترقصين في الغابة المجاورة ليلاً، مُهَمْهِةً بتراتيل بلغة غير مفهومة. هلا أعدتِ أداء هذه الرقصة أمام أنظارنا لنتبين مدى جنونك حقاً؟».
تقدّمت وبدأت بتحريك ذراعي وجذعي بشكل عشوائي أمام الحاضرين على إيقاع أغنية دندن بها القاضي بنفسه، قبل أن يوقف حفلة الإذلال العلنية بإشارة من يده.
«لقد أَمتَعَنَا رقصك أيتها الشابة، ولكن ما قدمتِه لا يرقى إلى دليل كاف على جنونك. وبذلك أُصدر قراري بوضعك على المحرقة».
تكفّلت امرأة باقتيادي إلى المحرقة، بينما تراكض الحضور حولنا ليأخذوا أماكنهم في مواقع تُتيح لهم رؤية المشهد من أفضل زاوية.
وقفتُ مكبّلة إلى عمود المحرقة فوق الأخشاب المعدة للحرق، ووقفت المرأة نفسها إلى جانبي تخاطب الجموع: «لا تأخذْكم شفقة بهذه الساحرة. انظروا كيف تذبل الأزهار من نظرتها».
بالفعل، حين نظرتُ إلى باقة الأزهار التي أشارت إليها، أمالت أعناقها ولامست أوراقُها الأرض. بدأتْ خيوط الدخان واللهب تتصاعد أمام عيني قاتلة الأزهار قبل أن تتلاشى الرؤية أمامي بالكامل.
لم يكن ما سبق تدويناً لرؤيا مشاهد من حياتي السابقة، التي أُحرقتُ فيها كساحرة بالطبع، بل جزءاً من عرض محاكاة لمحاكم الساحرات التي لم تكن على هذا القدر من المرح في الواقع. يتنقل العرض الذي يحمل اسم زنزانة أمستردام في جولة تاريخية على أهوال محطات سيئة السمعة في تاريخ المدينة، مثل حانات تجار العبيد وحملات تعقُّب الساحرات التي رافقت مراحل مختلفة من محاكم التفتيش، مع تمركزها في قلب أوروبا الناطق بالألمانية، وأعدمت آخر ضحاياها في هولندا عام 1613، فيما استمرت الحملات وعمليات الإعدام المشابهة في مناطق متفرقة أخرى حتى وقت متأخر من القرن الثامن عشر بحصيلة تتراوح بالمجمل بين 40 إلى 60 ألف شخص ممن أُعدموا بتهمة ممارسة السحر منذ بداية القرن الخامس عشر.
الأمومة وضدُّها في صورة الساحرة
لم تكن كلمة «ساحرة» وصمة قبل القرن الرابع عشر، ولم يكن موضوع السحر من الأمور التي كانت لتستنفر الكنيسة التي كانت منشغلة في المراحل الأولى من محاكم التفتيش بما يمثل أخطاراً أكثر جدية، مثل حركة ألكاثار في مونتسيغور الفرنسية، كما يورد رونالد هاتون في كتاب الساحرة، تاريخ الخوف من العصور القديمة حتى الزمن الحاضر ولم تكن هناك صورة شائعة عامة حول من هم السحرة أو ماذا يفعلون بالضبط، ثم بدأت مواصفات مماثِلة للساحرة المفترضة تنتشر في جميع أنحاء أوروبا: الطيران باستخدام أدوات خشبية دُهنت بمرْهَم سحري مصنوع من شحم الأطفال، إلى اجتماعات سرية يتواصلون فيها مع الشيطان. تزامنت هذه الحملات النشطة ضد الساحرات مع حلول ظروف مناخية سيئة من فيضانات وأوبئة صاحبت ما عُرف باسم العصر الجليدي الصغير، والذي تم إلقاء اللوم فيه على الساحرات، كما اقترحت دراسة اقتصادية نشرت في ذا إيكونومك جورنال أن نشاط حملات صيد الساحرات هذه ارتبط بكونها ميداناً للمنافسة السوقية بين الكنائس المختلفة في بدايات عهد أوروبا الحديثة.
في ظروف مشابهة شهدت ظواهر مناخية سيئة، عُقدت سلسلة محاكمات سايلم Salem الشهيرة عام 1692 في مستعمرة خليج ماساتشوستس، والتي صاحبت ما وصف بأنه حالة هستيريا جماعية بين السكان، والتي يمكن ملاحظتها لدى الاطلاع على الوقائع الغريبة للمحاكمات، إذ وفي الوقت الذي كانت حملات مطاردة الساحرات الأوروبية خاضعة لمحاولات تنظيم وتحقيقات ممنهجة، كان من الكافي في حالة محاكمات سايلم أن تدخل شابة في نوبة من الارتعاش والذعر متهمةً امرأة بعينها بإلقاء تعويذة عليها، أو أن يَتهم شخصٌ آخرَ بسبب حلم رآه فيه لتُعقد المحاكمة في اليوم نفسه أحياناً ولتنفذ عملية الإعدام شنقاً.
في هذا اللوم على الكوارث البيئية، اتهام بلعب دور ضد-أمومي في دورهنّ كوسيط مفترض مع الطبيعة التي ينتمين إليها، يشابهْنها في أطوار الخصوبة والإنجاب، ويصوّرن في ساعات الصفو كربّات متضخمات الأرداف والأثداء. ولكن ومع قدوم مواسم الصقيع، ماذا يتوجب على المرء أن يشعر تجاه راكبات المكانس العجفاوات أولئك، ممن لم يكتفين بجلب الشؤم على من كان يجدر بهنّ رعايتهم واحتضانهم، بل أمعنّ في معاكسة صورة الأمومة الفاضلة بقتلهن للأطفال لصالح طقوسهن الشيطانية.
يرى كتاب الساحرة والمهرّج، نموذجان أصليان للجنسانية البشرية، للكاتبين آن وباري أولانوف، أن صورة الساحرة تمثل في الواقع نموذجاً رائعاً عن حالة أولية من الاهتمام الأنثوي بالنفس، إذ «بينما تنفق الحياة الأمومية نفسها متدفقة نحو الخارج: تغذي أصوات وأجساد أحبائها، تتدفق الحياة على نحو مغاير في صورة الساحرة: إلى الداخل والأسفل لتغذية التجاويف المظلمة في نفس المرأة».
نصائح إلى ساحرة شابة: لا تنامي أمام المرآة ولا تشكري الجنّيّات
في قصة تقليدية لاكتساح جيل الألفية للتيك توك، كنت من بين آلاف آخرين من أترابي الذين اكتشفوا التطبيق خلال الحجر المنزلي، بعد بضعة ساعات من استعراض مختلف أنواع الفيديوهات بدأ يظهر المحتوى الذي يمكن أن أهتم به فعلاً، إذ في النهاية مَن أعرَف بك أكثر من خوارزمية صينية؟ تهديدات الخصوصية لا تُرهب شخصاً اختار أصلاً أن يقتني موبايل هواوي، وعلى كل الأحوال لم أكن أكترث – أعلم أن هذا الحديث كابوس لأخصائيي الأمن الرقمي – بأن تسرق الأجهزة الاستخباراتية وشركات الدعاية الأرقام القياسية التي حققتُها في لعبة هوم سكيبس ومحادثات مع شبان يرتدون أقنعة جلدية في العوالم الغريبة لتطبيقات التعارف في برلين الحبيبة، درة تاج الفيتيش العالمي.
مثّل التيكتوك في البداية فرصة لألعب دور الخالة المزعجة أخيراً على موقع سوشال ميديا ما، كما حدث معنا على فيسبوك بعد اجتياح جيل طفرة المواليد، ولأرمي تعليقات تشجيع محرجة للمراهقين والمراهقات، واليد الأخرى على Urban Dictionary لأفكّ شيفرة لغة التواصل الجديدة. سرعان ما اهتديت إلى وسم «ويتشتوك» witchtok# الذي يجمع المحتوى الخاص بمن يعرفّون أنفسهم كساحرات وسحرة. يشبه الأمر عبور مرآة أليس إلى أرض السحر: فتيات متجمّلات بأكاليل الورد، وشبان متباهون بالحلي. يتنوع المحتوى بين نصائح واستعراض لتصميمات ركن السحر في المنزل والذي توضع عليه العطايا المقدمة للرعاة الروحيين. بسبب هذا الإقبال على أشكال التدين الجديدة، حققت صناعة منتجات الروحانيات إيرادات بقدر 2.2 مليار دولار حتى عام 2019 في أميركا وحدها، ما بين الأحجار والأعشاب وأوراق التاروت. بإمكانك ابتياع عدة سحر للمبتدئين بأسعار تبدأ من 17 دولار. مع وجود أكثر من تسعين ألف بزنس متخصص في هذه الصناعة. من الملفت أيضاً إعادة إحياء عبادات وممارسات دينية سبقت عهد الأديان الحالية، فآلهة الأولمب والطقوس الوثنية حاضرة في قسم كبير من محتوى الويتشتوك، وكذلك الجنّيّات وناس الغابة، والذين يشكلون عنصراً رئيسياً في الميثولوجيا السلتية. آرثر كونان دويل، مؤلف قصص شيرلوك، كان بالغ الاهتمام بقصص الجنيات هذه، آمن بوجودها وكتب عنها مؤلفاً هو قدوم الجنيات، لكن شغفه بالجنيات لم يلقَ نفس الاهتمام الذي لَقِيَتْه قصص المتحري الشهيرة، وكان ذلك في فترة صعود موجة علوم التنجيم في بريطانيا وتزايد الاهتمام بالغيبيات والاستلهام الفني والأدبي من عوالمها بين نهاية القرن التاسع عشر وبداية الحرب العالمية الأولى، وهي الفترة التي برزت فيها أسماء مثل أليستر كرولي.
معظم مجتمع السحرة والساحرات الافتراضي هذا يتشكل من فئات تبدو أنها الأكثر إحباطاً أو تضرراً من أشكال التدين التقليدي، أو المطرودين من جنة الأبوية وهياكلها الأسرية التقليدية: النساء والكويريين. وكما في بقية المساحات التي تحتضن أولئك الهاربين والهاربات، هناك توق لمد روابط أسرية مختارة، عوضاً عن الأصلية غير المُرْضية، أو التي لم تعد مصدراً للثقة. يتوجه قسم كبير من هذه الفيديوهات، حتى من قبل من هنّ أصغر سناً، لما يسمونه بالساحرات الناشئات (baby witches) حيث يقدَّم الدعم لهن فيما يشبه دوراً أمومياً بديلاً ونصائح حول الأخطاء التي يتوجب تجنبها، مثل العمل مع كيانات مجهولة، أو أداء تعويذات دون امتلاك خبرة كافية، أو وضع المرايا مقابل السرير، بالإضافة لتذكير بتجنب قول «شكراً» بأي ثمن إن وجدتِ غرضاً في حديقة وشككتِ أن الجنيّات وضعنها في طريقك. بحسب تفسير مقدمي النصائح، يكره ناس الغابة أن تشكرهم، إذ لا يؤمنون بالعطايا بل بالصفقات فقط، والشكر يمثل إهانة لهم إذ يوحي بأنكِ تمكنتِ من أخذ شيء منهم بالشطارة.
رغم محاولة الهروب من وقائع وأقدار محبطة، ينخرط مجتمع الويتشتوك والسحرة الجدد في الأحداث الكبرى من حولهم، على طريقتهم الخاصة، وبجدية تامة. كانت الدعوات قائمة لعقد تعاويذ تحمي متظاهري حراك بْلاك لايفز ماتر ولعرقلة حظ ترمب في الانتخابات الأخيرة. أذكر رؤية فعالية فيسبوكية عام 2019 حملت عنوان ساحرات لأجل كوربين: اسحروا التصويت: تعويذة لفوز كوربين. كانت الفعالية تدعو لجمع طاقات الساحرات لدعم مرشح حزب العمال جيرمي كوربين في الانتخابات العامة البريطانية ضد جونسون والمحافظين. للأسف لم تنجح الشموع الحمراء الممثلة لحزب العمال التي طالبت الحملة باستخدامها في أداء دورها، وربما يخطئ الكثيرون إذ يستخفون بقوى ساحرات التيار المحافظ ممن قد يكنّ دفعن إلى نتيجة كهذه في طقس سحري باسم ساحرات لأجل جونسون.