عندما توفي السيد فان بلارينبيرغ الأب قبل بضعة أشهر، تذكرت أن أمي كانت تعرف زوجته عن قرب. منذ وفاة أبي وأمي وأنا «لست أنا» بقدر ما أنني ابنهما – بشكل لا يمكن شرحه هنا كي لا نخرج عن السياق. مع أني لم أبتعد عن أصدقائي، أخذت أقترب طوعاً من أصدقائهما، والرسائل التي أكتبها الآن هي بمعظمها الرسائل التي كانا سيكتبانها. أخذت بالنيابة عنهم أكتب رسائل تهنئة، أو بالأخص تعزية، لأصدقاء بالكاد أعرفهم. لذلك عندما فقدت السيدة فان بلارينبيرغ زوجها، أردت أن أشهد لها على الحزن الذي كان سيشعر به والداي.
تذكرت أنني كنت قبل سنوات ألتقي بابنها في منازل أصدقاء مشتركين، فكتبتُ لهذا الابن. لكني فعلت ذلك باسم والديّ الراحلين، إذا جاز التعبير، أكثر بكثير مما فعلته باسمي. ورداً على رسالتي تلقيت هذه الرسالة الجميلة، المُشبَعة بحب الأبناء لآبائهم. أظن أن هذه الشهادة اكتسبت أهمية بالغة نتيجة الدراما المريعة التي تلت على الفور، ولهذا يجب أن أقتبسها كما هي. هذه هي الرسالة:
ليه تمبريو، لجوسلين (موربيهان)
24 أيلول 1906
آسف بشدة، سيدي العزيز، لأنني لم أستطع شكرك حتى الآن على التعاطف الذي أظهرته في محنتي. أرجو المعذرة، فخسارتي المؤلمة دفعتني للأخذ بنصيحة الأطباء والسفر لمدة أربعة أشهر متواصلة. الآن فقط، وبصعوبة بالغة، عدت لاستئناف حياتي الاعتيادية.
مهما تأخّر هذا الأمر، أود أن أخبرك اليوم أنني تأثرتُ بشدّة بالذكريات الصادقة التي احتفظتَ بها عن علاقاتنا الطيبة القديمة، وتأثرتُ بالعمق بالمشاعر التي حملتْك على التحدث إلي، وإلى أمي، بالنيابة عن والديك اللذين رحلا في وقت مبكر للغاية. لم أنل شخصياً إلا القليل جداً من شرف معرفتهما، لكنني أعرف تماماً مدى تقدير والديّ لوالدك، وسعادة والدتي الدائمة برؤية السيدة بروست. إن رسالتك التي بعثتها من وراء القبور تنطوي على قدر كبير من الحساسية واللباقة.
سأعود إلى باريس في القريب العاجل، وإن نجحتُ قريباً في تجاوز حاجتي للعزلة بعد رحيل شخص هو الذي أضفى على حياتي كل اهتمام لي بها، والذي صنع كل فرح لي فيها، سأكون سعيداً للغاية بالقدوم لمصافحتك ومحادثتك عن الماضي.
المحب لك.
هنري فان بلارينبيرغ
لقد أثرت بي هذه الرسالة كثيراً. أشفقت بشدة على شخص يعاني هكذا؛ أشفقت عليه وحسدته، فما تزال لديه والدته التي يمكنه بمواساتها أن يواسي نفسه. ولئن لم أستطع الرد على محاولاته اللطيفة التي بذلها لرؤيتي، فذلك لأنني لم أتمكن مادياً من ذلك.
لكن قبل كل شيء، هذه الرسالة لطّفت ذاكرتي عنه. العلاقات الجيدة بيننا والتي ألمح إليها في رسالته كانت في الحقيقة علاقات اجتماعية سخيفة وبسيطة للغاية، فأنا بالكاد أتيحت لي فرصة محادثته على طاولة العشاء التي كنا نلتقي حولها. إلا أن الرقيّ الشديد الذي ميّز مستضيفينا كان ولا يزال ضماناً أكيداً أن هنري فان بلارينبيرغ كان يُخفي وراء مظهره الخارجي – التقليدي إلى حد ما، والذي يمثل ربما البيئة التي عاش فيها – شخصية أكثر أصالة وحيوية. كما أنني لو غصت في لحظات الذاكرة الغريبة، تلك المخزنة بكميات هائلة في أدمغتنا المتناهية الصغر والعظيمة السعة، وفتّشت عن صور لهنري فان بلارينبيرغ، فإن أوضحها هي لوجه مبتسم ونظرة تفرَّدَ بها على الدوام، وفم يبقى شبه مفتوح بعد إجابة حذقة. هكذا كنت «أرى» هنري – بحسب تعبيرنا السديد – ممتعاً ومتميزاً على الدوام.
لأعيننا دور أكبر مما نعترف به في أداة الاستكشاف النشط للماضي التي نسمّيها الذاكرة. إذا نظرت إلى عينَي شخص في اللحظة التي يذهب فيها فكره للبحث عن شيء من ماضيه ولتثبيته ومحاولة إعادته إلى الحياة لوهلة، سترى عينَيه فارغتين من الأشكال المحيطة بهما والتي كانت منعكسة عليهما قبل ثوان. نقول «أنت سارح، أنت في مكان آخر»، ولكننا لا نرى سوى الطرف الآخر مما يحدث وقتذاك في ذهن السارح. لذلك فإن أجمل عين في العالم تكفّ عن شدّنا إلى جمالها حين تصبح – باستعارة محرّفة من ويلز – مجرد «آلة لاستكشاف الزمن»؛ مجرد تلسكوب لما هو غير مرئي، يزداد مداه كلما تقدم صاحبه في العمر. تنتابنا لذّة ما ونحن نراقب النظرة تنحني من أجل الذاكرة، بَرِمة من كثرة التكيّف مع أزمنة شديدة الاختلاف وغالباً شديدة البُعد؛ نظرة المسنّين الصدئة التي نحب ملاحقة مسارها وهو يعبر «ظلال الأيام» المَعيشة ويحطّ، في الظاهر، على بعد خطوات قليلة ولكنه في الحقيقة يحطّ قبل خمسين أو ستين عاماً. أتذكر كيف تحوّل الجمال في عينَي الأميرة ماتيلد الساحرتين عندما ركّزتا على صورة فرضت انعكاسها على شبكية عينيها، لتغوص في استحضار رجال عظماء ومشاهد مجيدة من بداية القرن الرائعة. هذه الصورة بالضبط تنبجس من عينيها وتتراءى لهما أشياء لن نراها نحن أبداً. تملّكني شعور خارق للطبيعة في تلك اللحظات التي تلاقت فيها عيني مع عينها عن مسافة قصيرة وغامضة، وكأنه فعل قيامي يضمّ الحاضر إلى الماضي.
مبهجاً ومميزاً، هكذا كنت أرى هنري فان بلارينبيرغ في بعض أجود الصور التي تحتفظ بها ذاكرتي عنه. ولكن بعد تلقي هذه الرسالة، وبالاتكاء على حساسية أعمق وذهنية أقل بلادة من ذي قبل، قمت بتنقيح هذه الصور وإضافة مواصفات وعناصر لنظراته السابقة تضفي عليه بالفعل تصوراً أجود وأكرم مما كنت قد رسمته في المرة الأولى. لاحقاً، بعد أن طلبتُ منه معلومات لصديق لي عن موظف في شركة سكك الحديد الشرقية (التي كان السيد فان بلارينبيرغ رئيساً لمجلس إدارتها)، تلقيت الرد التالي. الرد مكتوب في 12 كانون الثاني الماضي، لكن لأن عنواني تغير دون أن يعلم هو، لم تصلني حتى 17 كانون الثاني، أي قبل أقل من ثمانية أيام من الدراما المريعة التي جرت بعد ذلك.
48، شارع بيان فيزانس
12 كانون الثاني 1907
سيدي العزيز،
سألت في شركة الشرق عن وجود الموظف س … بين طاقم الموظفين وعن عنوانه المحتمل. لم نجد شيئاً. إن كنت متأكداً من الاسم، فإن الشخص الذي يحمل هذا الاسم اختفى من الشركة دون أثر، ولعل العلاقة التي ربطته بها كانت مؤقتة وتكميلية.
إنني حزين حقاً للأخبار التي ذكرتها عن حالتك الصحية منذ الموت المفاجئ والقاسي لوالديك. إن كان لي أن أقدّم أي عزاء لك، سأخبرك أنني أنا أيضاً أعاني جسدياً وعاطفياً من صدمة وفاة والدي. لكن يجب أن نواصل الأمل … لا أعرف ما الذي تخبئه لي سنة 1907 لكن دعنا نتأمل أن تجلب لكلينا بعض التحسّن وأن نتمكّن من الالتقاء في غضون بضعة أشهر.
تفضّل بقبول مشاعري الأكثر تعاطفاً.
هنري فان بلارينبيرغ
بعد خمسة أو ستة أيام من استلام الرسالة، تذكرت أن أردّ عليها وأنا أستيقظ على وقع برد شديد غير متوقع يشبه «مدّاً وجزراً» في السماء، وكأنه يغمر جميع الخنادق التي حفرتها المدن الكبيرة بيننا وبين الطبيعة؛ يتغلب على نوافذنا المغلقة، يخترق غُرَفَنا، يُشعر أكتافنا الباردة بعودة قوى الحياة الأولية للهجوم. أيام مضطربة من تغيرات درجات الحرارة المفاجئة والصدمات البارومترية العنيفة. لم تجلب قوى الطبيعة هذه أي فرح، بل أخذت تبكي مسبقاً الثلج الموشك على الهطول. حتى الجمادات كانت، كما في شعر أندريه ريفوار البديع، تبدو وكأنها «في انتظار الثلج». تقول الصحف أن كساداً «يتقدم نحو جزر الباليار»، أن جامايكا ستنتابها هزة أرضية، وأن الأزمات ستعصف في اللحظة ذاتها في باريس بالذين يعانون من الشقيقة وأمراض الروماتيزم والربو، وحتى المجانين. يتحد المتوترون بين أبعد نقاط الكون بروابط تعاضدية لا ينفكون عن تمنّي اضمحلالها. إذا وجب الاعتراف بتأثير النجوم على بعضهم على الأقل يوماً ما (انظر فراميري وبيليتيان كما يقتبسهما السيد بريسو)، فعلى أي متوتر سينطبق قول الشاعر:
وخيوط حريريّة طويلة توحده بالنجوم.
استعددت للرد على هنري فان بلارينبيرغ عند استيقاظي صباحاً. لكني أردت أن ألقي نظرة على جريدة لو فيغارو قبل ذلك؛ أن أمارس ذلك العمل البغيض والعاطفي الذي يسمى قراءة الجريدة، والذي تتحول بفضله كل مصائب وكوارث الكون خلال الأربع وعشرين ساعة الماضية إلى وجبة جاهزة لاستخدامنا الشخصي – من معارك تودي بحياة خمسين ألف رجل، إلى جرائم وإضرابات وإفلاسات وحرائق، وحالات تسمم وانتحار وطلاق، إلى حطام مشاعر رجال الدولة والممثّلين. نحن الذين لا ننخرط بهذه المصائب نحوّلها إلى نكهة مثيرة تُضاف إلى رشفات القهوة مع الحليب. بكامل البرود، تتفتّت الشريطة الهشة التي تغلّف الجريدة وتفصلني عن كل بؤس العالم. ثم لدى قراءة أول مقاطع الإثارة، تلك التي يتحول فيها ألم الكثير من الكائنات البشرية إلى «عنصر مضاف»، نحصل على المتعة التي يمكننا لاحقاً نقلها إلى من لم يقرأ الجريدة بعد، فنشعر فجأة بصلة تربطنا بهذا الوجود الذي بدا – في لحظة الاستيقاظ الأولى – عديم الفائدة وغير جدير بالعودة إليه. وفي حال راودت أشياء تشبه الدموع أعيننا المتخمة، فلا ريب أن جملة مثل هذه مرت عليها: «صمت مدهش يعانق كل القلوب، الطبول تدق في الحقول، الجنود يقدمون أسلحتهم، وصخب هائل يتردد في الأجواء: ’تعيش فاليير!‘». هذا ما يجعلنا نبكي، هذا ما ينتزع منا دموعنا، فيما يخوننا البكاء حيال كارثة تحل بأحد الأقرباء. مهرجون محتقرون لا يُبكيهم سوى حزن هيكوب، أو أقل من ذلك، جولات وصولات رئيس الجمهورية!
لكن في ذلك الصباح، لم تكن قراءة لو فيغارو سهلة علي. كنت قد أنهيت لتويّ الانسحار بأخبار الانفجارات البركانية والأزمات الوزارية ومبارزات الأباتشي، ثم وصلت بهدوء إلى حادث أليم عنوانه: «دراما مجنونة». عنوان مناسب بشكل خاص لتحفيز طاقات الصباح! لكني سرعان ما وجدت أن الضحية هي السيدة فان بلارينبيرغ، وأن القاتل – الذي انتحر لاحقاً – هو ابنها هنري فان بلارينبيرغ… ذاك الذي ما تزال رسالته على مقربة مني وبانتظار إجابتي عليها!
يجب أن نواصل الأمل … لا أعرف ما الذي تخبئه لي سنة 1907… لكن دعنا نتأمل أن تجلب لكلينا بعض التحسن
نواصل الأمل؟! ما الذي تخبئه السنة الجديدة؟؟ حسناً، لم يتأخر جواب الحياة كثيراً. لم تكن سنة 1907 قد رمت عن كاهلها شهرها الأول حين قدمت هديتها إليه: بندقية ومسدس وخنجر، وغشاوة على روحه تشبه الغشاوة التي عصبتها أثينا على روح آياس كي يذبح رعاة الإغريق وخرافهم وهو يظن أنهم الأعداء.
لقد كنت أنا من ذرّ صوراً كاذبة على عينيه فاندفع إلى الأمام، ضارباً هنا وهناك، ساعياً لقتل الأتريديين بيديه العاريتين، رامياً نفسه على أحدهم تارةً وعلى آخرهم تارةً أخرى. أنا من حفّز الرجل الممسوس على الخرف والجنون وأدخله في الأفخاخ. ها قد دخل لتوّه هنالك، رأسه متعرّقة حدَّ الغرق ويداه ملطختان بالدماء.
يضرب المجانين بسخط دون أن يدروا ما يفعلون، ثم تنتهي الأزمة ويبدأ الألم! تقول تيكميسا زوجة آياس:
انتهى جنونه وتلاشى غضبه مثل أنفاس نوتوس. ولكنه بعد أن استعاد روحه أخذ يتعذب بألم جديد، يفكّر في أسقامه الخاصة ليكتشف أنه لا مسبّب لها سوى نفسه، فتتضاعف مرارة الألم. إنه ما يزال في حالة نحيب منذ أن عرف ما حدث، هو الذي كان يقول أنه لا كرامة في رجل يبكي. ما يزال جالساً، بلا حراك، يئنّ بلا توقف، ويتأمل مصيراً أسود رسمه لنفسه.
ولكن هنري فان بلارينبيرغ لم يجد أمامه رعاة وخرافاً مذبوحين عند انتهاء الأزمة، فالألم لا يقتل صاحبه في لحظة، وهو لم يمت عندما رأى والدته مقتولة أمامه، ولم يمت عندما سمع والدته المحتضرة تقول له، مثل الأميرة أندري في رواية تولستوي: «هنري، ماذا فعلت بي! ماذا فعلت بي!». يقول الخدم (الذين يظهرون – في هذه الرواية التي قد لا تكون دقيقة في الأصل – وهم نازلون على الأدراج بفزغ وسرعة) إنهم لدى وصولهم إلى الأرضية التي تفصل مسار الدرج بين الطابقين الأول والثاني، شاهدوا السيدة فان بلارينبيرغ بوجه منقبض من شدة الرعب وهي تصرخ: «هنري! هنري! ماذا فعلت بي!». ثم رفعت المرأة التعيسة والمضرّجة بالدماء ذراعيها في الهواء وسقطت على وجهها. هُرع الخدم المرعوبون إلى الطابق السفلي لطلب المساعدة. بعد فترة وجيزة، اقتحم أربعة عناصر شرطة أبواب غرفة القاتل المقفلة.
بالإضافة إلى الجروح التي افتعلها خنجره بجسده، فإن الجانب الأيسر من وجهه كان مفتوحاً نتيجة طلق ناري. «إحدى العينين كانت عالقة على الوسادة». لم أعد أفكر بآياس هنا، بل صرت أرى عين أوديب التعيس ممزقة في هذه العين «العالقة على الوسادة» في أبشع صورة تركها لنا تاريخ المعاناة الإنسانية!
يندفع أوديب صارخاً بأعلى صوته وهو يطلب سيفاً … يلقي نفسه على الأبواب المزدوجة صارخاً صرخات مروعة، يقتلع الأبواب من مفصلاتها، ويقتحم الغرفة ليرى جوكاستا معلقة بحبل يخنقها. يرتجف الرجل البائس من الرعب عندما يراها هكذا، فيفكّ الحبل ويترك جسد والدته يسقط على الأرض. يقتلع المشابك الذهبية من ملابسها ثم يقتلع عينيه بها، قائلاً إنه لن يدعهما تريان الشرور التي عانى منها والمصائب التي تسبب بها. يواصل إطلاق اللعنات، ويضرب عينيه مرة أخرى وجفناه مفتوحان، ليندلق ماء عينيه على وجنتيه كوابل من الدم الأسود. يصرخ متوعداً جميع القدموسيين بمقتل آبائهم، طالباً منهم أن يطردوه من البلاد. هكذا سُمّيت السعادة القديمة باسمها الحقيقي، لكن منذ ذلك اليوم، لن تندر أسماء الشرور عند البشر، من العويل إلى الكوارث إلى الموت إلى العار.
عند التفكير في ألم هنري فان بلارينبيرغ وهو يرى والدته ميتة، أفكر أيضاً في مجنون تعيس آخر: لير الذي عانق جثة ابنته كورديليا.
«أوه! لقد ذهبت إلى الأبد! إنها ميتة مثل هذه الأرض. لا، ما من حياة تدبّ في أحشائها! لماذا يعيش كلب أو حصان أو جرذ ثم لا يمكنكِ أنتِ حتى أن تتنفسي؟ لن تعودي أبداً! أبداً!! أبداً! انظروا! انظروا إلى شفتيها! انظروا إليها!».
لم يمت على الفور هنري فان بلارينبيرغ، على الرغم من إصاباته المروعة. لا يسعني إلا أن أجد حركة مفوّض الشرطة قاسية جداً (على الرغم من احتمال فائدتها، فهل نحن متأكدون بالضبط مما جرى في تلك الدراما؟ لنتذكر الإخوة كارامازوف). «الرجل التعيس لم يمت، المفوض أخذه من كتفيه وقال له: ’هل تسمعني؟ أجب‘، ففتح القاتل عينه السليمة، وحرّكها للحظات قبل أن يسقط في الغيبوبة مجدداً». إلى مفوض الشرطة العنيف هذا، أود أن أكرر كلمات كينت التي نطق بها لإيقاظ لير الفاقد للوعي في مسرحية الملك لير التي اقتبست منها للتوّ:
لا! لا تزعج روحه!
أوه! اسمح لها أن تذهب!
إنها تكره أن تطيل وجودها على عجلة هذه الحياة القاسية.
إن بالغت في ذكر هذه الأسماء الكبيرة في عالم التراجيديا، خاصة آياس وأوديب، فأتمنى أن يفهم القارئ قصدي، وأن يفهم السبب وراء نشر هذه الرسائل وكتابتي هذه الصفحات. لقد أردت أن أبيّن في أيّ جو روحي من الجمال الأخلاقي الطاهر انفجر الجنون والدم، ليلوّثه دون أن يدنّسه؛ أردت تهوية غرفة الجريمة بنَفَس سماوي. أردت أن أُظهر أن هذا الحدث الأليم أشبه بملحمة إغريقية تقترب أحداثها من طقوس الاحتفالات الدينية، وأن قاتل أمه المسكين لم يكن مجرماً خالصاً ولم يكن كائناً خارج الإنسانية، بل مثالاً في النُبل والاستنارة، وكذلك ابناً رقيقاً وتقيّاً دفعه القدر المحتّم – والمريض، كي نتحدّث مثل عامة الناس – إلى الجريمة ومن ثم التوبة المرعبة الجديرة بأن تُروى.
يقول ميشليه في لفتة رائعة: «أجد صعوبة في الإيمان بالموت». صحيح أنه كان يتحدث عن قنديل البحر، ذاك الذي لا ينطوي موته – غير المختلف عن حياته كثيراً – على أية مفاجأة، إلا أن بإمكاننا التساؤل عما إذا كان ميشليه استخدم هذه الجملة كجزء من «عدة المطبخ» التي يمتلكها الكتّاب العظماء ويستعملونها ببراعة لإثبات قدرتهم المرتجلة على خدمة زبائنهم وتقديم ما يطلبونه من متع خاصة. ربما لا أجد صعوبة في الإيمان بموت قنديل البحر، إلا أنني عاجز عن الإيمان بسهولة بموت شخص ما، أو حتى بكسوفه البسيط، أو بتوقف قواه العقلية. إن إحساسنا باستمرارية الروح أقوى من قدرتنا على تصديق أفولها. هذه الروح التي كانت تملك الحياة والموت، وتثير فينا الكثير من الاحترام، أصبحت تملكها الحياة والموت، وأصبحت هشة تماماً أمام أرواحنا التي – رغم ضعفها – لن تنحني أمام العدم! لهذا يشبه الموت الجنون، ولهذا نلوم الجنون ونشبّهه بفقدان كبار السن لملكاتهم العقلية.
هل هذا حقيقي؟ الرجل الذي كتب الرسالة التي اقتبستها أعلاه، والمتمتّع بدرجة عالية من النبل والحكمة، هذا الرجل أصبح اليوم لا شيء؟ الرجل الذي كان – ولنتحدث هنا عن أشياء فائقة الصغر ولكن على درجة كبيرة من الأهمية – متواضعاً جداً في ما يطلبه من الحياة، محباً لأشياء الوجود الصغرى، مجيباً بأناقة بالغة على الرسائل، كفؤاً للغاية في ما يُطلب منه، مقدِّراً لآراء الآخرين، حريصاً على أن يكون مؤثراً أو على الأقل ودوداً، لاعباً بارعاً ومخلصاً لألعاب الشطرنج الاجتماعية… هذه الأشياء التي أذكرها مهمة للغاية، ولئن اقتبست الجزء الأول من الرسالة الثانية كاملاً – وهو بصراحة لم يكن يعني أحداً غيري – فبسبب الحس العملي الذي بدا متنافراً مع ما تبدى لاحقاً من حزن جميل وعميق في السطور اللاحقة.
حين تنهار المعنويات، غالباً ما تكون أغصان الشجر العليا أقدر على النجاة، فيما تنخر الأمراض الجذع والأغصان الأخرى المكشوفة. نحن حيال نبتة روحية بقيت سليمة. كم تمنيت أثناء نقل تلك الحروف أن أُظهر لقرائي الرقة الفائقة – وبل والصرامة الشديدة العصية على التصديق – التي تبدّت لي في ذلك الخط الأنيق الجميل.
«ماذا فعلت بي! ماذا فعلت بي!». إذا أردنا التفكير في الأمر، ربما لا توجد أمّ مُحِبّة واحدة غير قادرة في لحظاتها الأخيرة – وغالباً قبلها بكثير – على توجيه لوم كهذا لابنها. إن المرء وهو يتقدم في السن يقتل من يحبونه بما يمرّره لهم من هموم وما يحرّضهم عليه من حنان وقلق شديدين.
هل يمكننا أن نرى بأعيننا أجساد أحبائنا والتدمير البطيء الذي يسبّبه الحنان المؤلم، هل يمكننا تأمّل العيون الذابلة وظلال الشعر الطويل التي ذوى سوادها ولم ينفكّ القهر يصبغها بالبياض، هل يمكننا مشاهدة تصلب الشرايين، وانسداد الكلى، وإجهاد القلب، وانهزام المعنويات في وجه تصاريف الحياة، وتثاقل الخطى، وإدراك الروح الواثبة التي لم يكن يساورها التعب أن آمالها على وشك النفاد، وأن الفرح الفطري الذي بدا خالداً وساورته لحظات من الحزن الشفيف اللذيذ سيجفّ إلى الأبد – ربما الشخص الذي سيرى كل ذلك، خلال لحظة التجلي المتأخرة هذه، والتي تجدر بخاتمة حياة مسحورة بالوهم كحياة دون كيشوت؛ ربما شخص كهذا، مثل هنري فان بلارينبيرغ وهو يطعن والدته بخنجر، سيتراجع أمام رعب حياته ويُلقي بنفسه على أقرب بندقية ليموت على الفور. بالنسبة لمعظم الرجال، تتلاشى بسرعة لحظات الرؤية المؤلمة هذه (على افتراض قدرتهم على التسامي إليها) عند أول إشعاع لبهجة الحياة. لكن أي فرح، أي سبب للعيش، أي حياة يمكن أن تقاوم وعياً كهذا؟ أيها حقيقي أكثر، هذا الوعي أم فرح الحياة؟ أيها يمثل «الحقيقة»؟