في الخامس والعشرين من كانون الثاني (يناير) 2011، تظاهر عشرات الآلاف في أغلب مدن مصر، القاهرة والإسكندرية والسويس ودمياط وأسيوط والمنصورة والإسماعيلية والمحلة الكبرى وطنطا وغيرها، مطالبين بالتغيير. كنت أحاول مثل آلاف، أو ربما مئات آلاف، السوريين متابعة أخبار المواجهات مع الأمن المصري عبر الإنترنت والتلفزيون، لكنني كنت أيضاً مشغولاً بشيء آخر؛ البحث عن أي معلومات عن شاب من مدينة الحسكة السورية اسمه حسن علي عقلة، كان قد أضرم النار في نفسه في وقت سابق.
لم أستطع وقتها العثور على معلومات كثيرة، سوى أن الشاب كان في السادسة والعشرين من عمره، وأنه كان قد فارق الحياة متأثراً بحروقه قبل يومين أو ثلاثة. اليوم أيضاً، بعد عشر سنين، فشلتُ في العثور على صورة للشاب أو على تفاصيل أخرى عن حياته، لكن يبدو أنه أحرق نفسه بعد يومين أو ثلاثة فقط على فرار بن علي من تونس في الرابع عشر من الشهر. كان الشاب دون ريب يريد تعجيل ما يراه ضرورة حتمية، وهو لم يكن وحيداً في ذلك، إذ حتى الخامس والعشرين من يناير، كان ثلاثة وعشرون شخصاً على الأقل قد أحرقوا أنفسهم بعد البوعزيزي، في تونس والجزائر ومصر واليمن والسودان والسعودية والمغرب وموريتانيا وسوريا.
في السادس والعشرين من يناير، اتسع نطاق المظاهرات وازدادت حدة المواجهات في شوارع المدن المصرية، وتزايدت معها أعداد الشهداء والجرحى والمعتقلين. هل هي ثورة في مصر؟ لم نكن متأكدين، غير أنه كان لدينا شعور عارم بأن هناك ما سيتغير سريعاً في حياتنا. كان حضور السوريين يزداد على فيسبوك، وكانت هذه الصورة أدناه شائعة بشدة كصورة شخصية، ثم راحت أعلام مصر تحلّ محلّها عند كثيرين. كان فيسبوك لا يزال محجوباً، لكن السوريين والسوريات كانوا يفتحون صفحات لهم بالمئات كل يوم باستخدام وسائط كسر الحجب.
في السابع والعشرين من يناير، تواصلت التظاهرات والمواجهات، وقطعت السلطات المصرية شبكة الإنترنت، وواصل المتظاهرون محاولاتهم للاعتصام في ميدان التحرير وسط القاهرة. وفي ذاك اليوم نفسه، تسلّم بشار الأسد أوراق اعتماد السفير الأميركي الجديد روبرت فورد، وذلك بعد ست سنوات من سحب السفير الأميركي من دمشق في أعقاب اغتيال رفيق الحريري. كان الرئيس الأميركي باراك أوباما قد قرّر تعيين فورد سفيراً في دمشق منذ شباط (فبراير) 2010، إلا أن النواب الجمهوريين في الكونغرس حالوا طويلاً دون استكمال ذلك، وهو ما دفعه إلى انتهاز فرصة عطلة الكونغرس وإصدار أمر تنفيذي بتعيينه في 29 كانون الأول (ديسمبر) 2010.
في شهر ديسمبر 2010 نفسه، كان بشار الأسد قد زار فرنسا أيضاً، وهناك سخر من استقلال لبنان أمام الصحفيين، ناطقاً الكلمة باللهجة اللبنانية الأكثر شيوعاً، مقهقهاً بعدها وقبلها كعادته.
في الثامن والعشرين من يناير، كانت جمعة الغضب في مصر. يومها بات واضحاً أننا أمام ثورة شعبية عارمة، إذ أفلتت الأمور من يد القوى التابعة لوزارة الداخلية في مصر، حتى أن الشرطة المصرية وقوات الأمن انسحبت تماماً من شوارع الإسكندرية والسويس، وتم إحراق مقرات الحزب الحاكم في مدن عدة، ووصلَ المتظاهرون إلى محيط القصر الرئاسي مطالبين برحيل مبارك، وتردد في شوارع مصر صدى شعار «الشعب يريد إسقاط النظام». في سوريا، راحت تتزايد أعداد المتابعين لصفحات ودعوات تحمل في أسمائها عبارات من قبيل «الثورة السورية» و«يوم الغضب السوري».
في التاسع والعشرين من يناير، كان أول نشاط سوري على الأرض تفاعلاً مع الموجة الثورية، إذ حاول العشرات الاعتصام أمام السفارة المصرية في كفرسوسة تضامناً مع ضحايا الشعب المصري، لكن قوى الأمن أفشلت هذا الاعتصام دون الحاجة إلى استخدام العنف، وتفرق المعتصمون بعد أن وقفوا مؤقتاً في شارع قريب من السفارة المصرية.
لم يكن واضحاً وقتها كيف سيتعامل النظام مع الثورة المصرية، إذ لم يكن الإعلام الرسمي يتحدث عنها مطلقاً في الأيام الأولى، لكن خطاب «حلف الممانعة» العام كان متضامناً معها. سنعرف لاحقاً من أصدقاء لنا، كانوا يعملون في وسائل إعلام سورية، أن تعميماً جاء بأن يتم التركيز على أن النظام المصري يواجه انتفاضة شعبية لأنه «نظام اتفاقية كامب ديفيد».
في اليوم نفسه، أصدر نحو أربعين مثقفاً سورياً بياناً يحتفي بالثورة التونسية ويتضامن مع المتظاهرين في مصر.
وفي ذاك اليوم أيضاً، تحدثت أنباء عن انتشار الأمن السوري بشكل مكثف في أحياء من حلب، وعلى وجه الخصوص الأحياء ذات الغالبية الكردية، بعد معلومات عن احتمال خروج متظاهرين.
في الثلاثين من يناير، كان المصريون يواصلون مظاهراتهم في تحدٍ لقرارات حظر التجول التي أعلنها الجيش المصري بعد انتشاره في الشوارع، وفي سوريا تكرّرت محاولات الاعتصام تضامناً مع المتظاهرين في مصر.
في الحادي والثلاثين من يناير، قال بشار الأسد في حوار مع صحيفة وول ستريت جورنال إن سوريا لن تشهد احتجاجات لأن «الحكومة شديدة الالتصاق بما يؤمن به الشعب السوري»، مؤكداً أن خطوات إشراك الشعب في عملية صنع القرار كانت قد بدأت عبر «السماح بفتح الجامعات الخاصة وتحرير القطاع المصرفي».
يوم الثلاثاء، الأول من فبراير 2011، كان يومَ الملايين في مصر. تحدثت قوى الثورة والمعارضة هناك عن مليونيتها الأولى، فيما تحدثت وكالة رويترز عن 200 ألف متظاهر في القاهرة وحدها، فضلاً عن مئات الآلاف في مدن مصر الأخرى. اكتمل مشهد ميدان التحرير في ذلك اليوم. وكان للمدن الأخرى ميادينها أيضاً، ميدان القائد إبراهيم في الإسكندرية، وميدان الأربعين في السويس، وميدان الممرّ في الإسماعيلية، وميدان الشون في المحلة الكبرى. في سوريا، انتشرت على فيسبوك دعوات إلى يوم غضب سوري في الرابع من فبراير، كما انتشرت دعوات إلى تنفيذ حملة مقاطعة لشركتي الخليوي سيريتل وإم تي إن في يوم التاسع من فبراير.
في الثاني من فبراير كانت موقعة الجمل الشهيرة، عندما هاجم بلطجية يركبون الجمال جموع المعتصمين في ميدان التحرير.
في ذلك اليوم أيضاً، فرّقَ الأمن السوري بالقوة معتصمين بالشموع تضامناً مع الثورة المصرية في ساحة باب توما في دمشق. كان اسمها قد صار «ثورة» دون مواربة أو تردد أو لبس.
في الثالث من فبراير، تزايد انتشار الدعوات إلى يوم غضب في سوريا على فيسبوك. وفي الرابع منه، كانت تظاهرات جمعة الرحيل الكبرى في مصر، أمّا شوارع سوريا فلم تشهد أي مظاهرة أو احتجاج تلبية للدعوات إلى يوم الغضب. كذلك في اليوم التالي، الخامس من فبراير الذي شهد دعوات إلى يوم غضب آخر، لم تخرج أي احتجاجات في سوريا. فشلت أيام الغضب، لكن شوارع ومفارق رئيسية في دمشق شهدت انتشاراً أمنياً «أكثر من المعتاد» خلال هذين اليومين، خاصة بعد صلاة الجمعة، فيما دعا مؤيدو النظام على فيسبوك – الذي يحجبه النظام الذي يؤيدونه – إلى استخدام صورة بشار الأسد كصورة شخصية في يوم الخامس من فبراير رداً على الدعوات إلى يوم الغضب.
في السادس من فبراير، كانت تظاهرات ما أُطلق عليه اسم «أحد الشهداء» في المدن المصرية. وفي ذلك اليوم، زار رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان سوريا، وقام مع رئيس الوزراء السوري محمد ناجي عطري بتدشين سد الصداقة على نهر العاصي، ثم التقى مع بشار الأسد، وأَعربا معاً عن «أملِهما بعودة الأمن والاستقرار» إلى مصر.
في السابع والثامن والتاسع من فبراير، تواصلت التظاهرات واتسعت أكثر في مصر، وبدا واضحاً أن هناك استعصاءً في التفاوض بين القوى السياسية المعارِضة ومبارك وزمرته، كما بات أكثر وضوحاً أن قيادة الجيش المصري تأخذ مسافة عن مبارك والمقرّبين منه والمحسوبين عليه.
وفي سوريا، في التاسع من فبراير، رفعت السلطات الحجب عن موقعي فيسبوك ويوتيوب دون إعلان رسمي، وكان ذلك استجابة واضحة من جانب النظام للتغيرات العاصفة واستعداداً للتعامل معها، وخطوةً بَدَت وقتها تأكيداً على ثقة النظام بنفسه.
في العاشر من فبراير تظاهر المصريون تحت شعار يوم الانتظار.
وفي يوم الجمعة الحادي عشر من فبراير، صدر بيان عن رئاسة الجمهورية المصرية يفيد بتنحي مبارك عن الحكم، وتسليم إدارة شؤون البلاد للمجلس الأعلى للقوات المسلحة، وذلك بعد ثمانية عشر يوماً من الاحتجاجات والصدامات، ومئات الشهداء وآلاف الجرحى والمعتقلين.
حاول الإعلام الرسمي في سوريا لأول مرة أن يصوغ خطاباً حول ما جرى في مصر، فأطلق التلفزيون الرسمي على الحدث اسم ثورة الخامس والعشرين من يناير، مُرحِّباً بسقوط «نظام كامب ديفيد» في مصر. سيختفي كل ذلك سريعاً، ولن نجد بعدها ما يسمى بثورة الخامس والعشرين من يناير في أدبيات الإعلام السوري الرسمي. وفي يوم تنحي مبارك نفسه، اتسعت وتصاعدت احتجاجات كانت قد بدأت أواخر يناير في اليمن، وتحولت إلى موجة احتجاجات واسعة سيصبح اسمها ثورة الحادي عشر من فبراير.
في الرابع عشر من فبراير، كان النظام السوري يواصل إصراره على أن هذا لن يحدث عنده، حتى أن بشار الأسد عند استقباله وزير الخارجية الإيطالي في دمشق، كرَّرَ ما قاله سابقاً عن أن الوضع في سوريا مستقر، مؤكداً أن سبب الأزمة في تونس ومصر هو «ابتعاد الحكومة عن الشعب»، داعياً إلى تغيير السياسيات الدولية والأوروبية تجاه شعوب المنطقة.
في ذلك اليوم نفسه، اندلعت احتجاجات واسعة في العاصمة البحرينية المنامة بعد دعوات إلى يوم غضب، وهي الاحتجاجات التي ستتصاعد وتستمرّ لأشهر عدة، وتحمل اسم ثورة 14 فبراير.
في الخامس عشر من فبراير، أدّى بشار الأسد صلاة الظهر في الجامع الأموي بمناسبة عيد المولد النبوي، واحتشد هناك المئات تأييداً له، في سلوك غير مألوف في هذا العيد، ليبدو واضحاً أن الأمر استعراض للقوة والثقة بالنفس. وقد كان النظام واثقاً من نفسه فعلاً على ما يبدو، أو ربما خائفاً أكثر مما نعتقد؛ سيبقى هذا أمراً مُختلَفَاً عليه إلى الأبد، لكن في ذلك اليوم نفسه، نشرت رويترز تقريراً يقول إن سوريا تدرس إقامة محطة نووية لتوليد الكهرباء بحلول العام 2020.
في الخامس عشر من فبراير أيضاً، اعتصم نشطاء ليبيون في بنغازي مطالبين بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وتم قمعهم بعنف أفضى إلى نحو ثلاثين جريحاً. بعدها بيومين، ستنطلق ثورة السابع عشر من فبراير في ليبيا. منذ تلك الأيام، راحت تنتشر دعوات للتظاهر في أغلب البلدان العربية، ستجد كلّها طريقها إلى التنفيذ فعلاً في الأسابيع والأشهر التالية.
في السابع عشر من فبراير، اعتدى شرطيٌ على شاب سوري في منطقة الحريقة التجارية قرب سوق الحميدية وسط دمشق، فاحتشد عشرات السوريين احتجاجاً، وأطلق واحدٌ منهم صرخة ستصبح بعدها من أهم الشعارات التي رفعها السوريون والسوريات في دروبهم الدامية إلى الميادين: «الشعب السوري ما بينذل».