كَتَبَ «معانات» بالتاء المفتوحة بدلاً من «معاناة». كان خطؤه إملائياً عفوياً، لكن كلمة «معاناااااات» كانت بالنسبة له تدل على ما يشعر به، مع تعداد الألف بعد النون لآلاف بل ملايين المرات، دون أن تفي الكلمة حقّ ما يجول في قلبه تماماً. كتبها كتعليق من حسابه على فيسبوك على منشور في إحدى صفحات حملة «بدنا نتسرح». هو الآن في إجازة بعد شهر حافل قرب حدود إدلب. زوجته وطفلاه في غرفة مجاورة، وأمه في غرفة أخرى. يبدو أن الأم هي الآمر الناهي هنا، بحجابها الأبيض ومسبحتها الخشبية. تحكي زوجته عن لحظتين متتاليتين متناقضتين، ففي لحظة هو يقبّل يد أمه بخشوع، ثم في لحظة تالية يجد نفسه يضرب ابنته ذات الأربعة أعوام بسيخ حديد وقع تحت يديه. كل شيء غائم، كل شيء مشوش. هو وحش، هو ضبع، هو سافل. هو كل شيء آخر أيضاً. هو ضعيف ويائس وساخط ويريد الخلاص. من الآخر، هو تعبان وكل حياته معاناة بـ معاناااااات.
«يا رب الفراج»
كتب المنشور على حسابه في فيسبوك داعياً ربّه بالفرج. وكلمة الفرج كتبها هكذا: «الفراج». كثيرون من أصدقائه وأقربائه أمّنوا على منشوره الصغير ذاك. هاتفه ملاصق لأصابعه، تضع زوجته الطعام أمامه في الليل وتخبّئ في جعبتها زجاجة ويسكي. هي متدينة جداً، لكنها، وباعتراف حَرفي منها، كانت تفعل كل شيء يريده لِئلا يفقد عقله ولكي تُرضي كل أهوائه المتقلبة. كانت تلبس أيضاً بدلة رقص له إن استدعى الأمر، وهي لن تتوانى عن فعل أي شيء لأجله. زجاجة الويسكي هي كلمة السر هنا. تعلّم «المشروب» منذ سنوات التحاقه بالجيش. تتذكر الزوجة تماماً عندما زاروا جيرانهم، حيث كان صاحب البيت عسكرياً في قطعة أخرى، وهناك وجدت كؤوساً من العرق أمامها. رفضت أن تشرب، وتَردّدَ زوجُها في البداية، ثم ازدرد المشروب مبتسماً لمن حوله. «ليس هذا من طبعك»، قالت له يومها، لكن ما أدراها هي وما يحصل على الجبهات، والصداقات التي تجري، والأحداث التي تحصل؟! يحكي أحد أصدقائه أنه كانت لديه عشيقة، وقد زارته في قطعته مرة. العشيقة أرملة لها ثلاثة أطفال، تلاحقه على الهاتف ويلاحقها بدوره. وحين غضب منها يوماً وتوقف عن مراسلتها جاءت هي بنفسها إليه. يعيش حيوات كثيرة مجنونة، لدرجة أن عقله أحياناً يخلط الأمور فلا يستطيع التركيز. يكتب مناشير وتعليقات عبر صفحته على فيسبوك التي زيّنها بصورته في البدلة العسكرية مع سلاحه، ويتابع أحداث البلد بمرارة من يَفترض أنه يدافع عن أهلها. مرة قرأ منشوراً عن مساعدات قدمتها الإمارات للهلال الأحمر السوري فكتب: «تقبلون منهم المساعدات وهم يرسلون لنا الإرهابين؟». كان يعرف ما يجري في الوطن فأصبح لا يعرف. ثم أصبح ببساطة لا يريد أن يعرف. اختار أخيراً بملء إرادته أن يصدق ما يقولونه له، وكانت هذه تسوية مُرضِية لضميره الذي لم يعد ينكّد عليه. في النهاية، تسع سنوات على الجبهات كفيلة بأن تجعل أي رجل شبه مجنون.
«إلى متى؟؟؟؟؟؟؟؟»
راقَبوا ذلك العسكري الجديد منذ البداية. انتبَهوا إليه، وهو بالذات انتبه إليه. كان العسكري الجديد هادئاً مسالماً، وكان في عينيه كما قال حسيب كيالي شيء ما يقول: «الله معك يا روحي». كانوا وقتها عند جبهة سراقب. جاء المسلحون أمامهم فأطلقوا النار فوراً. كلمة «المسلحين» هنا مجردة من أي انتماء؛ المسلحون هنا هم مجرد رجال أعداء يحملون السلاح. وجه العسكري الجديد أصبح شاحباً. كان ذلك العسكري الجديد قائداً للدبابة، أمره القائد أن يطلق فوراً. المشكلة أنه لم يكن يريد ذلك، والمشكلة الثانية أنه نسي أن يضع حشوة في الدبابة، فكانت الضربة مجرد ضربة صوتية هرب على إثرها المسلحون. لهذا العسكري الشاحب علاقة شديدة الخصوصية مع زوجته، لدرجة أن ذلك أُشيعَ بين جميع العساكر من حوله، فقد اعتادت أن تكتب له رسائل ملونة وأن تهديه أشياء بسيطة للذكرى، لذا اعتادوا أن يطلبوا منه أن تكتب لهم زوجته رسائل حب وعشق لحبيباتهم، أو أن تصنع لهم شيئاً مما اعتادت صُنعَه لزوجها ليُهدوها لهنّ. وافق العسكري الجديد على ذلك، لكنه كان لا يعطي واحدهم الرسالة أو الذكرى حتى يتأكد أنها خلت من رائحة زوجته تماماً. قبل التحاقه بالجيش، اعتاد العسكري الجديد على الصلاة في وقتها، ثم توقف عن ذلك بعد التحاقه. لم يكن يهمه هذا الأمر بقدر ما كان يهمه أنه «لا يريد إطلاق النار على أهله»، لكنه في النهاية استسلم كما يروي معارفه، وأصبح يطلق النار وقذائف الدبابات. لديه أخ مفقود، رغم ذلك لا يفكر بالانشقاق. كان يدور في خلده سؤال واحد، بل يدور السؤال في خلدهم جميعاً: «إلى متى؟؟؟».
«الظاهر كلنا بدنا ننتحر»، منشور آخر
انتحر بطلقة صغيرة في الرأس، هكذا أكّد أحد رفاقه. المكان الذين كانوا فيه كان بلا كهرباء ولا ماء ولا اتصالات. القمل بدأ يغزو أجساد بعضهم، والرائحة العفنة تفوح من أجساد بعضهم الآخر. التفكير بالانتحار ليس بعيداً عن رأسه. مرّ وما زال يمرّ على رأسه موّال واحد فقط، يبدو طفولياً لكنة يرنّ في رأسه كثيراً: أن يبعث رسالة إلى أمه المتجبرة قبل أن ينتحر ويقول لها: «أنت أنجبتِني إلى هذه الحياة، فتحمّلي النتيجة». أمه هي من منعته من السفر حينما جاء اسمه بقوائم الالتحاق بالاحتياط؛ توعّدته بغضبها عليه إن سافر، وفضّلت أن يذهب إلى الجيش لكي يبقى بقربها. في الفترة الأخيرة، كان يُقسم يومياً بالله العظيم أنه سيقتل نفسه، حتى أنه بعث بهذا الكلام عبر الهاتف برسالة نصية إلى زوجته. الأمر هنا لا يشبه الجنود في رواية كل شيء هادئ في الميدان الغربي، ولا يشبه مذكرات جورج أورويل في الحنين إلى كاتالونيا، لأنّ الأحداث هناك تبدو حبراً على ورق، ذكريات غابرة، أو ربما حِكَماً يتعلم أصحابها منها. أما ما يجري معهم الآن فهو حاضر حيّ، لحم حيّ، ودماء ساخنة. الكثير من الدماء الساخنة، ولا يحتمل شيئاً، ربما سوى بعض النقل الأمين. لا يحتمل أن يكون ذكرى أو عبرة، لم يحن الأوان لذلك بعد. تناقلَ بعض الجنود غاضبين ما حلّ برفاقهم الذين اشتبكوا مع المسلحين وانهزموا، وعما حصل لهم وهم يحاولون لمّ سلاحهم قبل أن يهربوا، وكيف قُتل بعضهم أثناء ذلك: «الحمد لله أنّ الناجين لم يفقدوا بطاقات التاترا». تناقل البعض أيضاً ما حلّ بالجندي الذي كان يحارب المسلحين ببسالة، وبقي مع دبابته المعطلة حتى تقرّحت يداه. قُتل جميع من معه، وبقي هو. حين عاد إلى الوطن، اتهموه بالجبن والخيانة. هو الآن مسجون بانتظار المحاكمة، حيث سيُجرَّد بعدها من حقوقه المدنية: «أهكذا تكون مكافأة بطولته؟!».
اجعلوا التعويض نصف مليون، أو سرّحونا و«مْسامحين بالتعويض»
قُتل أحد أصدقائه الجنود بتفجير لغم أثناء مرورهم. هذا الصديق كان فقيراً مُعدَماً ولديه زوجة. والدته مسحت دموعها بوشاحها حين تحدثتْ عنه ناحبة. صديق آخر تم تسريحه بعد تعرضه لإصابة شديدة في رأسه، وهو يعمل الآن بالعتالة. وآخر فقد قدميه وأصبح يشحذ عملاً ومالاً على صفحات فيسبوك، ويترجى السيد الرئيس أن ينظر في أمره – كل ذلك ومن دون جدوى إلى الآن.
«سرررررررررحونااااااا دورة 108 تسع سنين و3 شهور ولااااااك»
أخبَروهم ألا يَأمنوا للناس المتبقين في المدينة، وألا يقيموا أي علاقات معهم. أخبَروهم ألا يخرجوا في الليل وحدهم، وألا يبتعدوا عن رفاقهم، ثم لم يعد داعٍ لأن يخبرهم أحد، لأنهم تعلموا، وجربوا معنى تلك التوصيات بأنفسهم. بالنسبة له، ثمة أعداء يتربصون بهم في الخارج؛ أعداء حقيقيون متخفون في كل مكان، ربما يراقبونه الآن في هذه اللحظة. يذكر تماماً ما حصل في إحدى الجبهات، حين بدأ رفاقه يتبادلون أقذع الشتائم والكفريات مع المسلحين عبر اللاسلكي. يذكر أيضاً تماماً كيف قُتل صديقه يومها، الذي كان يحمل ربطة خبز في يده، بطلقة في عنقه. كان المفروض أن يُحضِر هو الخبز. الدماء التي تسيل الآن كان يفترض أن تكون دماءه. يحدّق في الفراغ طويلاً حين يتذكر هذه الحادثة بالذات. حين تسأله زوجته بم يفكر، لا يجيب. يقول مدمدماً للفراغ: «شي بيشيّب شعر الراس». تسهر زوجته بجانبه حين يداهمه الأرق، فيُحدّثها نُتَفاً عمّا يحدث معه؛ نُتَفاً تكفي لأن يشيب شعرها أيضاً كما تقول. هو منخرط في هذه الحرب حتى نقيّ عظامه، وهو ليس حيادياً. قال مرة لأحد أقربائه وهو يحدّثه عما يجري معه إنه لم يفعل للمسلحين شيئاً، هم من بدؤوا كل شيء! فجأة رآهم وهم يهجمون عليه، ماذا أمامه أن يفعل في هذه اللحظة سوى أن يدافع عن نفسه ويقتلهم؟ هم الآن محض أعداء، لا أكثر ولا أقل.
«يا أقذر بني البشر سرحونا اعتقونا / نحن العبيد متى تنتهي مدة استعبادنا»
صديقه هو الآخر في الجيش، لكن حظه أسوأ منه، حيث يخدم في جبهة شرق سوريا على حدود العراق. في إحدى الليالي هاجمهم عناصر داعش. قبضوا على كثيرين، وقتلوا كثيرين. أما صديقه فقد فرّ مع بعض رفاقه إلى العراق، وهناك خلعوا ملابسهم العسكرية وارتدوا ملابس مدنية، وعندما هدأت الأوضاع تواصلوا مع القطعة مجدداً وعادوا. كان بإمكان صديقه الهرب بسهولة لكنه لم يهرب، وذلك لسبب وحيد، هو أنه إن هرب الآن سيتم أخذ شقيقه بدلاً منه، وشقيقه سيتخرج من كلية الصيدلة قريباً. كان فخر العائلة، ولا يريد له هذا المصير. كان يتصل بأخيه الصيدلي في أحلك الأوقات ويقول له كلمتين: «بس كرمالك». لا ينسى الأخ هاتين الكلمتين، وتذبل عيناه حزناً حين تخطران في باله. كانت الأسرة ترسل له كل ما تملك من مال حتى تخفف عليه ظروف الخدمة، وبعد أن عاد الشاب من العراق، كان قد أصيب بما يشبه مرضاً نفسياً، حيث كان يصرخ فجأة في الليل وفي النهار، وتنتابه نوبات هلع عنيفة، ويرتجف دائماً ويتعرق بشكل شديد حتى في البرد، ويبقى مستيقظاً لأيام، ولا يستطيع أن يواجه الناس، وبالكاد يأكل. تهجّم مرات على أهله وأقاربه وجيرانه بنيّة أن يؤذيهم مثلما أكّد أحدهم، وكاد عدة مرات أن يستخدم سلاحه ليقتل نفسه ويقتل الآخرين، وكان دائم الحديث مع نفسه بصوت عال. ما زال في الجبهة حتى الآن، والله وحده يعلم كيف يعيش. وعندما جاء وقت تسريحه، اكتشف أنّ عليه عقوبات لم يؤدِّها بعد، وعلى هذا بقي عالقاً على الجبهات حتى الآن.
«متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً»
الهاتف مؤنسه الوحيد. يتصل من الجبهة ليُخبر زوجته أن ترسل له «وحدات»، وعند غياب التغطية يشعر بأنه يفقد عقله. سرق من زوجته مالاً كانت قد خبّأته بعد أن سرق سلسالها الذهبي. في أوقات الفراغ، لديه عادته المحبّبة في التزيين، حيث يقوم كل يوم بأخذ حجارة وأغصانٍ خضراء ليكتب بها مقولة يحيّي بها الوطن وقائد الوطن. أحياناً أيضاً كان يستخدم «تنكات» حديدية من أجل الزينة ويلوّنها، ويستخدم ورقاً ويدهنه بالأحمر ويصنع منه وروداً، وشتلات يصنع منها أعواداً للزينة. وأحياناً يحضر دهاناً ليدهن بها الحجارة. المهم أن يترك بصمته، كنوع من التسلية أو الحنين.
في ذلك الصباح، كان على رتلهم أن ينتقل إلى نقطة أخرى. تَركَ العبارة التي صنعها بكل ما يملك من مهارة كما هي: «عاشت سورية الأسد»، حيث لوّن الأحجار حول الكلمة بألوان العلم السوري، ثمّ انضم إلى الرتل بعد أن أرسل صورة إنجازه الفني هذا إلى زوجته كالعادة على واتس آب. في الطريق أُطلِقَ عليهم من المجهول صاروخ مضاد للدبابات، أصبح فجأة جسده مغموراً بالدم والتراب. وأثناء إلقاء رفاقه الناجين من الصاروخ النظرات الأخيرة عليه، رَوَوا أنّ ما يخرج من فمه كان بضع كلمات غير مفهومة، لكنها كانت كلمات ممهورة بالدماء… الدماء.