تتصدر صورة لبشار الأسد أحد الأبنية المدمرة في حلب الشرقية، بنظارات وبدلة عسكرية وهو يشير بيده إلى مكان ما، خلفه بناء متهالك بلا نوافذ أو أبواب، وحتى بلا جدران. تُلخص الصورة ما حدث في المدينة بعد أربع سنوات من تهجير جزء من سكانها، فيما تظهر علامات متفرقة لبعض حياة مبعثرة في قسم المدينة الشرقي المهمل، العصي أيضاً على العودة.

باستثناء هذه الصورة لا يُحسب لبشار وجيشه أي انتصار في المدينة، إذ تغزو الميليشيات التابعة لإيران مداخل الأحياء، مع أصوات أغان تمجد حزب الله وحسن نصر الله، أصحاب النصر على المدينة، فيما يظهر فيها وبشكل خجول ذكر المدينة ورئيس النظام الذي يحكمها.

ليس هذا الأمر جديداً، لكنه وجد منذ بداية معارك تحرير حلب ودخول فصائل الجيش الحر إلى أحياء المدينة الشرقية، إذ ترك النظام مهمة الدفاع عن القسم الغربي من المدينة للشبيحة والميليشيات العراقية والأفغانية المرتبطة بإيران، إضافة إلى حزب الله. وهو ما استمر لسنوات حتى تاريخ التهجير القسري نهاية العام 2016، الذي كان لروسيا الدور الأكبر في الإصرار عليه، بعد حصار خانق على المدينة استمر نحو عام، وتدمير للبنى التحتية والمرافق العامة، حيث بدا أن «حلب تعني للكرملين أكثر من قصر المهاجرين في دمشق»، حسب تعبير أحد المهجرين قسراً من المدينة.

بتتبع ذكرى سقوط المدينة السنوية في وسائل الإعلام الموالية للنظام، لا نجد سوى شعارات وهمية حول «انتصار حلب»، أو «قيامتها»، بالإضافة إلى لقاءات مع مسؤولين خارج الأحياء الشرقية. في العام الحالي، كان التركيز على المدينة الصناعية في حي الشيخ نجار وعودة منشآت صناعية للعمل فيها، في الوقت الذي تغيب عن عدسات المصورين الأحياء والمرافق العامة، المنازل المدمرة، الطرقات، المدارس، المشافي، في القسم الأكبر من المدينة الذي اصطلح على تسميته بـ «حلب الشرقية»، التي شهدت دمار ما يزيد عن سبعين بالمائة من منازلها خلال سنوات الثورة والحصار.

في الأشهر الأخيرة من الحصار على المدينة، قبل التهجير القسري، كان يعيش ما يزيد عن ثلاثمائة ألف شخص في هذه الأحياء المدمرة، التي شهدت قبل الحصار نزوح أضعاف هذا العدد، من ستين حياً تُشكّلُ خارطة تمتد من سيف الدولة وحتى السكن الشبابي في مدينة هنانو، جميعهم هجروا من منازلهم وعبر طريقين: الأول نحو مناطق النظام، وغالباً ما كان الذين سلكوا هذا الطريق من النساء والأطفال الذين دخلوا الأحياء الغربية، ثم تركوها إلى الشمال السوري للالتحاق بعائلاتهم التي هجرت عبر رحلات التهجير، بينما بقي قسم منهم داخلها حتى الآن.

يقول عبد الرحمن جابر، وهو من سكان حي طريق الباب حالياً، إن عدد الذين يسكنون في الأحياء الشرقية اليوم أقل بمعدل النصف من عدد سكّانها قبيل التهجير، وإن سوء الخدمات والدمار حالا دون عودة قسم كبير من أبناء هذه الأحياء، حتى من الموالين الذين هجروها بداية الثورة.

يضيف عبد الرحمن، الذي يعمل كمدرس في الحي، إن الحديث عن منهجية لمعاقبة سكان هذه الأحياء الذين دخلوا في ركب الثورة غير صحيح، معظم الذين عادوا كانوا من الموالين للنظام أو من غير المنخرطين في الثورة، لكن ضعف الإمكانيات هو الفيصل في هذا الأمر، إذ لا يمكن إعادة مدينة مدمرة للحياة في ظل دولة منهكة اقتصادياً، وهو ما يحول دون تقديم إغراءات للسكان بالعودة، أما الذين يسكنون هذه المناطق اليوم فقد دفعتهم الظروف الاقتصادية السيئة للعودة إليها، بعد الارتفاع الهائل في إيجارات المنازل وقلة فرص العمل.

ما تزال شوارع بأكملها مغلقة بالردم، وهناك أحياء فارغة من السكان بشكل كامل، فيما يتركز التجمع السكاني غالباً في الأبنية المطلة على الشوارع الرئيسية أو القريبة منها. ويمثل انعدام الأمن أحد الأسباب التي تحول دون عودة قسم من السكان، خاصة أولئك الذين تقع بيوتهم في حارات فرعية، وكذلك دمار شبكات المياه والكهرباء في كثير من المناطق، وغيابهما بشكل تام عنها.

يروي علي، الذي يعمل في صيدلية داخل حي مساكن هنانو، إنه يمر يومياً في طريقه من مكان سكنه في حي ميسلون إلى صيدليته بالدمار الذي لم يتغير منذ استعادة النظام سيطرته على المدينة؛ معظم البيوت فارغة من سكانها، الحواجز قلّت في السنتين الماضيتين، إلا أن اللجان الأمنية تسيطر على الأحياء وتتحكم بمصيرها، وهو ما يدفع السكان لعدم العودة إليها.

حلب في أعين أصحابها

ليست الشراكة في حلب حاضرة بين أبناء المدينة كما كانت قبل الثورة. «هناك تاريخ مفقود لا يمكن قياسه والتسامح فيه»، يقول واحدٌ من المهجرين الذين تحدثنا إليهم، «لم يَعِش أولئك الذين يسكنون حلب الشرقية اليوم تحت القصف الذي رافقنا طوال سنوات، لم يشهدوا الحصار والجوع، ولم يشاركونا أحلامنا والتغيرات التي طرأت على المكان. هم أيضاً، وفي جزء كبير منهم، لم يكونوا أصلاً من سكّان هذه الأحياء، بل انتقلوا إليها بعد سقوطها في يد النظام». يبدو واضحاً من كلام جميع المهجرين الذين تحدثتُ إليهم أن اختلاف الخنادق هو المعيار الأهم بالنسبة لهم عند الحديث عن حلب وسكّانها اليوم.

«نحن نتنفسها في كل يوم» يقول أحدهم وهو يحدثنا عبر الواتس آب عن المدينة المسلوبة كما وصفها: «ما زالت تفاصيلها عالقة في الذاكرة، ودون أي جهد أستطيع تذكر أسماء الشوارع، أصحاب المنازل، تقسيم الأحياء، وجه صاحب الفرن وبائع الخضار، دكاكين السمانه، أسماء الشهداء أيضاً». يكمل وهو يخبرنا أن ما يخشاه في الأيام المقبلة هو أن تصبح هذه الذاكرة عصية، وأن تفلت منه بعض التفاصيل، وهو ما يدفعه يومياً لتذكرها وتكرارها؛ رواية الأحداث مع زوجته وأطفاله، كذلك مع رفاق رحلة التهجير، إذ تطغى حلب بحضورها على كل الأحاديث والتفاصيل الأخرى.

يسجل أبو محمد مقاطع صوتية يعيد سماعها دائماً، كما يقول لنا، ويخبرنا أن من يسمعها سيضحك كثيراً، لكنه يواظب على ذلك. تضم هذه التسجيلات كل ما يخطر في باله عن المدينة، يرسم طرقاً كخارطة الجي بي إس من بيته إلى الأماكن التي يرغب بالوصول إليها، يرسم في الطريق معالم تلحُّ عليه كعلامات فارقة: دوار، مقهى، شارع، دكان، حديقة، مشفى، كيلا يتوه في طريق العودة.

عبد المنعم اختار طريقة أخرى للحفاظ على ذاكرة المدينة؛ يقول إنه يرسمها على الورق، ويضع البدايات المفتاحية لهذه الرسومات من المقابر. يجيبنا عن استغرابنا بأنه يخاف من «شهداء المقابر أن يصموه بالخيانة» إن نسيهم، وإنهم الوحيدون الذين بقيوا في المدينة ولم يموتوا خلال رحلة التهجير الأخيرة.

يؤرخ زياد لذاكرته عن حلب بنقاط الرباط التي سهر فيها خلال سنوات قتاله على جبهات حلب، يخبرنا أنه يستطيع أن يرسم حدوداً للمدينة لا يمكن محوها، هي ليست جغرافيا كما يقول، ولكنها الخط الفاصل بين حياة وموت. يخبرنا أن الدمار لم يكن يعني موتاً بقدر ما كان حياة كاملة، وإن النظام لن يستطيع المواربة، فالخط الفاصل بينهما واضح جداً: «يكفي أن تلتقط صورة واحدة للمكان، ليعرف العالم كيف أُحرق قسم من المدينة، كان يتمسك به سكانه بكل قدرتهم على البقاء».

لكلّ تفسيراته عن سقوط المدينة، روايات كثيرة متضاربة، خيانات، تخلي عن الجبهات، سياسة الأرض المحروقة، إرادة دولية، وأحاديث كثيرة بتفاصيل لا يمكن الإحاطة بها، لكن المهجرين عن المدينة يملكون رواية واحدة عن حلب في ذاكرتهم، فكل طرق الذاكرة ستؤدي حتماً إلى أحد شوارعها، شوارعها التي يريد النظام وأنصاره بناء ذاكرة جديدة فوق حجارتها المدمرة.