نَزعُ السحر عن فلسطين، هكذا أحبّ أن أسمي الأثر الذي تَرَكَتهُ سنواتٌ من صحبة الفلسطينيين في نفسي. لم يعد الفلسطيني ضحية تستحق العطف ولا فدائياً أسطورياً يستحق التقديس، ولم تعد القضية الفلسطينية مركزية ولا وحيدة. صار الفلسطيني شخصاً عادياً، قد يكون مناضلاً وقد لا يكون منشغلاً بفلسطين وما يدور فيها أصلاً، لكنه دائماً شخص يريد أن يعيش، أن يكون فاعلاً كامل الأهلية، وأن يعيش حياة طيبة قدر استطاعته. أما فلسطين، فقد باتت قضية من بين قضايا كثيرة لا يمكن فصلها عن بعضها، لكنها في المحصلة قضايانا المشتركة في هذه المنطقة من العالم: انغلاقُ الأفق الذي لا بد أن ينفتح على عيش أكثر كرامة ورحابة وأملاً.
لكن قبل هذا، كانت تباشير سنوات السحر قد بدأت منذ الطفولة المبكرة، مع مشاهد الانتفاضة الفلسطينية الأولى. لا أعرف ما هو المشهد الذي بَعَثَ السحرَ في نفسي بالتحديد، لكن الأرجح أنه واحدٌ من مشاهد هذه النسخة من أغنية «ثوري ثوري ثوري»، التي كانت تبثها القناة الأولى في التلفزيون الرسمي السوري أواخر الثمانينات.
سيتم تعزيز هذا السحر لاحقاً نتيجة انشغالٍ وجداني، ورثته عن أبي وأمي، بمسألة غياب العدالة عموماً ومسألة فلسطين خصوصاً، لتأتي الانتفاضة الثانية عام 2000 وأنا أغادر اليفاعة نحو الشباب، ويكتمل بقيامها السحر، وتصير فلسطين بالنسبة لي كل شيء، وقبل أي شيء، وأهم من أي شيء.
صديقي رفيقٌ في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين
في يوم الأربعاء السابع عشر من تشرين الأول (أكتوبر) 2001، قامت مجموعة من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين باغتيال وزير السياحة الإسرائيلي رحبعام زئيفي في فندق ريجنسي في القدس. كان ذلك رداً على اغتيال الأمين العام للجبهة أبو علي مصطفى، الذي كانت طائرة أباتشي إسرائيلية قد قصفت مكتبه في رام الله قبل ذلك بأقل من شهرين. كنتُ مراهقاً في التاسعة عشرة من عمري آنذاك، أقضي شهري الأول في دمشق كطالب جامعي يعيش وحده بعيداً عن عائلته. كنتُ أيضاً مفتوناً بأولئك الذين يقاتلون إسرائيل، خاصة إذا كانوا يساريين مع نفحة قومية عربية. سأتعرّفُ بعدها بأشهر قليلة إلى أول أصدقائي الفلسطينيين السوريين، وسيكون عضواً في الجبهة الشعبية، وهو ما كان سبباً إضافياً لتمتين صداقتنا سريعاً.
قضيتُ طفولتي ومراهقتي في مدينة طرطوس، ولم أكن قد التقيتُ بأي فلسطيني أو فلسطينية قبل انتقالي للدراسة في دمشق، ولا بأي شخص في تيار أو حزب سياسي غير حزب البعث، باستثناء شيوعيين خارجين حديثاً من سجون النظام في النصف الثاني من التسعينات. في طرطوس أواخر القرن الماضي، كانت علاقتي بالسياسة تنحصر في العداء لإسرائيل وتأييد أي انتفاضة أو مقاومة أو عمل ضدها؛ كانت السياسية شأناً يتعلّق بأحداث تدور خارج البلد في الصراعات الإقليمية والدولية، أما ما يدور داخل البلد فلم يكن شأناً يمكن الوصول إلى معلومات موثوقة عنه، ولا النقاش بخصوصه إلّا في دوائر عائلية ضيقة، أي أنه لم يكن شأناً سياسياً.
كان هذا حال أغلب أقراني، لكن ما كان مختلفاً في علاقتي تلك بالسياسة هو أنها كانت مُفعمة بحماس غير مفهوم، حماس يبدو مثيراً للضجر بالنسبة لي اليوم. كنتُ مستعداً للحديث عن حزب الله وحركة حماس وحركة فتح والجبهة الشعبية ساعات متواصلة دون ملل، أُتابع أخبار الانتفاضة الثانية بشكل لصيق جداً، وأعرف أسماء الفصائل وأجنحتها العسكرية وشعاراتها، حتى أنني كنت أعرف أسماء المستوطنات اليهودية ومواقعها بالنسبة إلى مدن الضفة الغربية.
إلى جانب ذاك الحماس، كانت لديَّ تصورات طفولية عن العالم وعلاقاته وصراعاته، تُحيل الوجود كله إلى ثنائيات متضادة بسيطة وواضحة، بحيث يصعب عليَّ مثلاً أن أتصوّرَ كيف يمكن أن تُنسِّقَ السلطة الفلسطينية أمنياً مع إسرائيل، دون أن يعني هذا أن ياسر عرفات باتَ عميلاً للموساد. سيتطلّبُ تغيير هذه التصورات الطفولية سنوات قليلة أخرى لاحقة، وعيشاً مؤقتاً في مخيم اليرموك، وصحبة طويلة مع أصدقاء فلسطينيين شديدي التنوع، ومنهم صديقي الذي في الجبهة الشعبية، الذي كان يريد تحرير الدنيا كلّها من الطغيان والظلم، لكننا كبرنا معاً وأصبحنا أكثر نضجاً، وصارت أحلامنا واقعية تماماً؛ ليس أقلّ من الحرية والكرامة للفلسطينيين والسوريين على حدّ سواء.
شوارع المخيم
قبل أن ينتهي عامي الأول في جامعة دمشق، بتُّ أعرف كثيراً من الفلسطينيين والفلسطينيات، وزرتُ مخيم اليرموك مرات كثيرة. شعرتُ بالذهول عند زيارتي الأولى، أو شعرتُ لوهلة كما لو أنني غادرتُ سوريا كلها، إلى فلسطين. ملصقاتٌ لجميع الفصائل الفلسطينية على الجدران، وصورٌ لأشخاص كثيرين، شهداء في معظمهم، خلافاً لبقية شوارع البلد التي لم يكن فيها غير صور الأسد الأب وأولاده، وكان قد انضمّ إليهم مؤخراً حسن نصر الله.
أَلِفتُ شوارع المخيم وأَزقته سريعاً. وخلافاً لشعور كثير من زملائي الوافدين معي إلى دمشق حديثاً، والمحملين بأساطير عن «زعران» المخيم وشجاراتهم وبلطجتهم، لم أكن أخشى التجوّل فيه ليلاً. حتى في الشوارع الفرعية والأزقة الواصلة بين شارع فلسطين وشارع اليرموك، أو بين شارع اليرموك وشارع الثلاثين ثم الحجر الأسود، أو بين شارع فلسطين وحي التضامن.
كنتُ أمشي في شوارعه ليلاً أو نهاراً كما لو أنني أمشي في منطقة عشتُ فيها منذ ولدت، وقلّما كنتُ أتوه أو أضلّ طريقي في زواريب المخيم المتشابكة، مع أنه ليس عندي مهارة استثنائية في حفظ خرائط الأحياء واكتشاف أقرب الطرقات بين موقعين. تمكّنتُ لاحقاً من حل اللغز الذي أكسبني هذه المهارة في المخيم فقط؛ كانت عيناي تشربان التفاصيل شرباً بحيث أحفظ كل تفصيل في أي شارع من شوارعه بمجرد المرور فيه، خاصةً مذ عرفتُ أن مئات الفدائيين خرجوا من تلك الأزقة واستشهدوا على طريق فلسطين. اليوم، أحاول أن أقاوم الدمار الذي حلّ بالمخيم على طريقتي، فأغمض عينَيَّ وأحاول استعادة مواقع بيوت الأصدقاء وأقصر الطرق المؤدية إليها سيراً على الأقدام؛ أفشل أحياناً وأنجح أخرى، لكنني أراهن على أنني قادرٌ على الوصول سيراً في أقصر طريق ممكن من فرن أبو ترابي في حي التضامن إلى مشحم عامر على أطراف الحجر الأسود، مروراً بأزقة المخيم الذي يفصل بين المنطقتين.
يُذكّرني هذا التمرين الذهني دائماً بِدرس تعلمته أثناء صحبتي مع فلسطينيي سوريا، وهو أن أشباح الماضي لا تفارقنا عندما يكون حاضرنا مستعصياً منغلقاً على احتمالات التغيير.
أشباح الماضي وكوابيس الحاضر
بين الزملاء والمعارف الفلسطينيين الجدد، شهدتُ نقاشات صاخبة لم أعتد عليها حول أشياء كثيرة، حول تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية وفصائلها وتياراتها على وجه الخصوص. كنتُ مُراقِباً خارجياً تماماً بشأن تلك الصراعات، غضَّ العود وخالياً من أي انحيازات مسبقة باستثناء شعور طاغٍ بالكراهية تجاه ياسر عرفات، لكنني كنتُ أَخجلُ من التعبير أحياناً عنه أمام فلسطينيين من أنصاره كي لا أبدو أكثر حرصاً على بلادهم ومصيرهم منهم. كان مذهلاً أن أنتبه كيف أن كثيراً من رفاقي الفلسطينيين السوريين ينشغلون مراراً بنقاشات لا علاقة مباشرة لها بالدماء التي تسيل في فلسطين الآن، وهو ما يصبح أكثر وضوحاً عند مقارنة انشغالاتهم بانشغالات فلسطينيين قادمين حديثاً من الضفة الغربية أو قطاع غزة للدراسة في دمشق.
كانت النقاشات الحادة التي تقود إلى الغضب تتعلق بأحداث جرت في أواخر الستينات وفي السبعينات والثمانينات، لم يُعاصِرها المشاركون في النقاشات في أحيان كثيرة، أو كانوا أطفالاً عند وقوعها. تطلَّبَ الأمر مني مزيداً من الوقت كي أنتبه إلى أن هناك عنصراً ناقصاً في رواية الأحداث، هو دور النظام السوري في كل ذاك التاريخ الحافل. كانوا يتجنبون الحديث في هذا الشأن عندما أكون بينهم، خشية أن أكون مدسوساً من قبل المخابرات السورية، وقد كنتُ ساذجاً إلى حد أنني لم أشعر بذلك إلا بعد مرور أشهر عديدة.
بعد أن صرتُ موثوقاً بالنسبة لبعضهم، قال لي أحد أصدقائي الفلسطينيين السوريين كيف أنني كنتُ مَحطَّ نقاش في جلسات عديدة، إذ ما الذي يريده هذا السوري المتحمّس لتحرير فلسطين أكثر منا؟! وفي لحظة فارقة، قال لي واحدٌ من الطلاب القادمين من الضفة الغربية: «يعني من الساحل، وبتحكي سياسة بسوريا عادي، وبتفتح معنا أحاديث عن كتائب شهداء الأقصى وعلاقتها التنظيمية بحركة فتح. أكيد مخابرات. الغريب أصلاً أنك ما طلعتش مخابرات». كانت جملته تلك مذهلة بالنسبة لي، كانت لحظة انكشاف على مساحات تفكير لم أكن قد أَلِفتُها بعد: «أهذا ما يعرفونه عن سوريا في فلسطين؟ بلدٌ لا يتحدث أهله في السياسة، ومن منطقته الساحلية يأتي عناصر المخابرات والجواسيس».
على أي حال، بعد أن صار الزملاء والمعارف أصدقاءَ ورفاقاً، صرتُ أعرف جيداً كيف ساهم نظام الأسد في تمزيق الحركة الوطنية الفلسطينية وإضعافها، وكيف أن يد الأسدية ملوثة بالدماء الفلسطينية إلى حد لا تنافسها فيه سوى إسرائيل نفسها. أيضاً، فهمتُ لاحقاً كيف أن هذه النقاشات لا تزال حية في الزمن الحاضر لأنها لم تفقد معناها وأثرها تماماً، ولأنه لا صِراعات سياسية جديدة تدور في صفوف الفلسطينيين السوريين، ذلك أنه وراء مكاتب الفصائل وملصقاتها وشعاراتها، كان المجال السياسي مغلقاً في وجوههم كما كان مغلقاً في وجوهنا نحن السوريين.
الأسدية تُحكِمُ قبضتها عليهم أيضاً
لم تكن الرحلة إلى فهم هذه المعادلة سهلة ولا سريعة، لأن المجتمع الفلسطيني في سوريا كان عامراً بالتنوعات، من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، من يساريين راديكاليين إلى جهاديين قاعديين، وكانت الأطياف كلها قادرة على التعبير عن نفسها في الفضاء العام للمخيم بشكل أو بآخر. كان المجتمع الفلسطيني أكثر حيوية بما لا يقاس من المجتمع السوري، وكان لهذه الحيوية تأثيرها الجوهري المباشر حتى على الأصدقاء والصديقات من عائلات فلسطينية مقيمة خارج المخيمات في أحياء أخرى من دمشق. أما مجال التنافس السياسي على مواقع الهيمنة والسلطة والتأثير، فهو مغلق في وجوههم رغم ما يبدو عليهم من تعدد وحيوية، وقد فهمتُ آليات هذا الإغلاق بشكل جيد بعد زيارتين أو ثلاث إلى مقر الاتحاد الوطني لطلبة فلسطين في حي الفحّامة في دمشق.
كانت رئاسة الاتحاد حتماً لفصيل الصاعقة، أي تنظيم البعث الفلسطيني، فيما يتم توزيع بقية المناصب على ممثلين عن بقية الفصائل وفق تقسيم معروف سلفاً. فتح- الانتفاضة (أبو موسى) والجبهة الشعبية -القيادة العامة (أحمد جبريل) تحتلان دائماً مواقع بارزة نتيجة تحالفهما مع النظام السوري، أمانة السر والمسؤولية المالية إذا لم تَخُنّي الذاكرة. ثم الجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية في مواقع أقل أهمية، تبعاً لضعف علاقة قيادتهما بالنظام السوري. فيما لا وجود لممثلين عن حماس ولا الجهاد الإسلامي، ذلك أن النظام لم يكن يريد أن يفتح الباب أمام حضور قوى إسلامية في مواقع ذات صفة رسمية، رغم علاقته الطيبة بالفصيلين. أمّا حركة فتح، أعني حركة فتح الأم وليس نسختها المنشقة المسماة (الانتفاضة)، فلم يكن لها أي حضور في الاتحاد نتيجة العداء المستحكم مع ياسر عرفات. كان هذا التقسيم نفسه مُعتمَدَاً في شتى المنظمات الشعبية التي تدير شؤون الفلسطينيين السوريين، نزولاً عند رغبة المخابرات الأسدية.
أستطيعُ أن أقول اليوم بثقة إن التراتبية أعلاه كانت تمثيلاً دقيقاً لمجتمع اللاجئين الفلسطينيين في سوريا، لكن بشكل معكوس تماماً، بحيث أن الفصيل الأقل شعبية بين الفلسطينيين السوريين كان فصيل الصاعقة، مندوب الأسدية الرسمي في صفوف الفلسطينيين، فيما كان التيار الأكثر شعبية هو تيار ياسر عرفات، عدو الأسد اللدود.
الختيار
لم تكن صور «أبو عمّار» مألوفة في شوارع المخيم، لكنها كانت حاضرة في كثير من البيوت الفلسطينية التي زُرتها، بين صور أفراد العائلة الأموات أو الشهداء في الغالب. بعد وفاة عرفات عام 2004، ستغزو صوره شوارع المخيم كلّها، وكأنَّ ذاك القطاع الفلسطيني العريض المحروم من التعبير عن نفسه في سوريا قد وجد الفرصة سانحة كي يقول كلمته.
منذ تلك الأيام، أشعرُ أنني مدين باعتذار لـ«الختيار» ومحبيه، ليس لأن المراجعات والتحولات اللاحقة التي مررتُ بها جعلتني مؤيداً له ولسياساته ومواقفه وأسلوبه في القيادة، بل لأن كراهيتي السابقة له كانت منطلقة من مزيج يتألف من عناصر ثلاث: جهل بتعقيدات الحركة الوطنية الفلسطينية وتاريخها، ورؤية طفولية محمولة على شعارات كبرى حول رفض التفاوض مع إسرائيل من حيث المبدأ، وخطاب الأسدية القائم على المزاودة والخداع. يكفي العنصر الثالث من هذا المزيج كي يكون المرء مديناً باعتذار كبير، ربما لنفسه قبل أي أحد آخر.
عائداً من أرض القضية الفلسطينية
عند دخولي إلى عوالم فلسطينيي سوريا، كنتُ معجباً بالأسد الأب لأنه «لم يُوقّع» وفق رطانة تلك المرحلة، ولعلّ عدم ارتياحي لبشار الأسد منذ البداية كان نابعاً من أنه بدا لي شخصاً يمكن «أن يُوقّع»، أما قضايا مثل القمع والطائفية والنهب فقد كانت تحتل مرتبة أدنى في سلم أولوياتي. يبدو شرح الأمر صعباً اليوم حتى عندما أحاول شرحه لنفسي، لكن إسرائيل كانت هي العدو الوحيد بالنسبة لي، ولهذا بالتحديد «هاجرتُ من السوريين إلى الفلسطينيين»، لاجئاً من صحراء سياسية واجتماعية إلى مكان عامر بالتنوع والأنشطة والشعارات الكبرى والقضايا الحارة المصبوغة بالدم، تاركاً ورائي أولئك الذين لا يضعون في رأس سلم أولوياتهم تحرير فلسطين.
تَطلّبَ الأمر سنة واحدة فقط كي يصير لديّ موقف حاسم من النظام السوري، ثم سنوات أخرى، عشتُ بعضها في مخيم اليرموك، كي يتغير تدريجياً فهمي للعالم والحياة وبلدي سوريا والمسـألة الفلسطينية نفسها. لقد صنع العيش بين الفلسطينيين مني شخصاً آخر خلال سنوات قليلة. جرّبتُ معهم التظاهرَ وخوضَ صدامات مع قوات حفظ النظام، ثم جرّبتُ معهم كيف نستغلّ مظاهرة من أجل فلسطين أو العراق كي نهتف مطالبين برفع حالة الطوارئ في البلد. التقيتُ بأشخاص أكبر مني سناً تحدثوا عن مذبحة تل الزعتر، وعن حرب المخيمات في لبنان، وعن تعذيب فلسطينيين في أقبية المخابرات السورية، وعن تفاصيل مذهلة حول المعاناة الإنسانية والمقاومة والحرب.
أيضاً، أعدتُ بين أصدقائي الفلسطينيين ومعهم اكتشاف تاريخ المعارضة السورية للنظام الأسدي، وعلاقة تيارات من هذه المعارضة مع فصائل فلسطينية، والتداخل الكبير بين المجتمعين ومَصائرهِما. كانت لحظةً استثنائية يوم التقيتُ بأول فلسطيني قضى سنوات طويلة من عمره في المعتقل بسبب انضمامه إلى تيار سياسي معارض للنظام، وذهلتُ عندما بدأ بسرد أسماء عدد من رفاقه في السجن، وكان بينهم أشخاصٌ أعرفهم وآخرون سمعتُ عنهم من مدينتي طرطوس.
رجعتُ في النهاية من هناك إلى سوريا، أعني أنني رجعتُ من الانشغال الحصري بفلسطين إلى الانشغال بأشياء كثيرة، من بينها فلسطين وأهلها، ولكن على رأسها سوريا ومَصائرنا فيها. رجعتُ مُحملاً بمعارف كثيرة ومفاهيم مختلفة، وبما هو أهم: ذخيرة غالية من الأصدقاء والصديقات والذكريات، وتَطلُّعٌ دائمٌ نحو العدالة، وروحٌ فلسطينية أزعمُ أنني أحملها حتى اليوم، لكنها ليست روحاً مصنوعةً من شعارات كبرى، بل من معرفة لصيقة بمعنى العيش والكفاح اليومي في ظلّ أوضاع استثنائية قاسية تبدو بلا نهاية.
*****
العيش دائماً في المؤقت وتحت الاستثناء؛ هكذا يمكن اختصار سيرة الفلسطينيين منذ تأسيس «وطن قومي لليهود» على أرضهم. كانت تلك جريمة تأسيسية في تاريخ المنطقة الحديث، واليوم يتم ارتكاب جريمة تأسيسية جديدة على يد الأسدية، التي جعلت من ملايين السوريين شركاء للفلسطينيين في عيشهم في المؤقت وتحت الاستثناء، كما كانوا شركاء في العيش عقوداً تحت حكم الأسدية، ثم شركاء في الثورة والدروب الدامية التي سلكتها.
انحازَ بعض من عرفتهم من فلسطينيي سوريا وفلسطينياتها إلى الثورة السورية، وانحاز آخرون إلى النظام. فَقَدَ بعضهم حياته خلال مراحل الثورة والحرب، وبات معظم الباقين لاجئين مضاعفين في أرجاء الدنيا، يكافحون بكل ما أمكنهم من قوة وصبر من أجل حياة أفضل وأقل خوفاً وقلقاً. ولكن ما الذي جرى لأحلامهم بالعودة إلى فلسطين؟ أتُراهم يحلمون اليوم بالعودة إليها أم إلى سوريا؟ أم لعلّهم كفّوا عن أحلام كهذه؟ لا أجرؤ على سؤالهم، ولا أظنني أريد أن أعرف إجابة أيٍّ منهم.