في مدينة كوبلنز الألمانية، عند تقاطع نهري الراين وموزيل، في منتصف الطريق بين فرانكفورت وبون، تُعقَد منذ شهر نيسان (أبريل) الماضي جلسات محاكمة ذات أهمية كبرى في سيرورة الصراع في سوريا.
العقيد أنور رسلان، مسؤول التحقيقات السابق في فرع 251 (فرع الخطيب)، أحد مراكز الاعتقال المهمة في دمشق، يواجه عدة اتهامات بارتكاب جرائم ضد الإنسانية والقتل والتعذيب. وإلى جانبه في قفص الإتهام يقبع زميله السابق في الفرع، إياد الغريب. وقد شهدت المحكمة حتى الآن، كما سبق وأن نشرنا، شهادات مروعّة لشهود مباشرين ومشاركين في الدفن الجماعي لضحايا القتل تحت التعذيب، وأكدت تلك الشهادات أن القتل الممنهج أوسع بدرجات مما سبق توثيقه. إنها المرة الأولى التي يُحاكم فيها مسؤولون مباشرون عن الجرائم ضد الإنسانية ضمن النظام السوري، ويأمل المحامون المختصون بحقوق الإنسان ألا تكون الأخيرة.
أحد هؤلاء المحامين هو الدكتور باتريك كروكر، الذي يعمل على الملف السوري في المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان، والممثل لتسعة من ضحايا الأعمال المنسوبة إلى رسلان والغريب في المحاكمة. في الأول من كانون الأول (ديسمبر)، تحدَّثَ كروكر إلى الجمهورية عبر تطبيق Zoom من كوبلنز إثر انتهاء جلسة المحاكمة لذلك اليوم. أدناه نسخة مكثّفة من المحادثة، تم تحريرها من أجل الوضوح وسهولة القراءة.
دورك الرسمي في إجراءات المحكمة هو «الممثل المشترك للمدّعين الشخصيين». هل بإمكانك أن توضح هذا الدور للقرّاء الذين قد لا يكون لديهم اطلاعٌ كافٍ على معاني المصطلحات القانونية؟ هل تمثل الضحايا دون أن تكون عضواْ في النيابة العامة، ولا في الدفاع؟
هذا صحيح […] بجوار المدعي العام ، هناك «أطراف مدنية» في القضية، [والتي] تعني في الأساس طرفًا آخر في العملية القضائية. […]. من المتعارف عليه أننا ننضمّ للقضية في صفّ الادّعاء، لكننا طرف مستقل بحقوقه، ولذلك لدينا حقوق إجرائية مختلفة.
إن لم يكن دورك هو الادّعاء ولا الدفاع، فما هو إذاً؟ الحصول على أفضل نتيجة للضحايا، مثلاً من حيث التعويضات؟
سؤال جيد. وهذا في الواقع هو مفهوم الطرف المدني في النظام الفرنسي […]. دورنا يعتمد على الموكّلين وما يريدونه، بطبيعة الحال. في بعض الأحيان هناك توافق كبير مع الادعاء. في بعض الأحيان قد يكون هناك اختلاف؛ قد يريد الموكّلون تسليط الضوء على جوانب أخرى مختلفة عمّا يركّز عليه المدّعون العامّون. من الصعب تخيل قضية يكون الطرف المدني فيها قريباً من الدفاع. والسؤال الوحيد هو إلى أي مدى أنت كطرف مدني قريب من الإدّعاء، وأود أن أقول إننا، في أحيان كثيرة، متقاربون مع الادّعاء بطبيعة الحال، لأننا نعمل أيضا لإدانة المتهمين. نؤمن بقوة أن المتهم مسؤول […] عن التهم الموجّهة إليه.
ولكن، لإعطائك مثالاً تختلف فيه آراؤنا، قدمنا الأسبوع الماضي مقترحاً لإدراج جرائم العنف الجنسي كجريمة ضد الإنسانية في لائحة الاتهام، في حين أن النيابة العامة أدرجت الاتهامات بهذه الجرائم باعتبارها نوعاً من [الجرائم] «العادية» فحسب.
ما هو تقييمك العام لمجريات المحاكمة حتى الآن؟ هل تسير الأمور كما هو مأمول لها، أم أن هناك قصوراً في جوانب ما؟
هناك جانب واحد، على الأقل، كانت لائحة الاتهام قاصرة فيه بالنسبة لما أعتقد أنه يحصل فعلاً في مراكز الاحتجاز السورية، وهذا ما ذكرته للتو. قضية العنف الجنسي، وهي برأيي جزء من اعتداء ممنهج وواسع النطاق، وبالتالي فهي أيضًا جريمة ضد الإنسانية. لكن، بشكل عام، أعتقد أنه بالإمكان القول أن المحاكمة سارت على ما يرام حتى الآن.
إن نظرنا إلى مقاصد موكّلينا، سنجد أن النقطة الرئيسية بالنسبة لهم ليست [فقط] الحصول على حكم بإدانة شخصية للمتهم الرئيسي، أنور ر.، بل تسليط الضوء على الوضع العام وإجمالي جرائم التعذيب ضد الإنسانية في مراكز الاعتقال السورية. ولهذا الأمر تأثيرات على كامل مجريات المحكمة، وقد وُضعت أدلة قوية وتوثيقات مهمة في متناول أعمال البحث عن الحقيقة، وهذا أمر مهم للغاية بالنسبة لموكليّ. إن نظام التعذيب والاعتقال هذا مرتبط بشكل وثيق بإخفاء ما يحدث، ومنع الوصول إلى المعلومات، وما إلى ذلك. وهنا لدينا ما يُعاكس ذلك تماماً: […] إذا تخيلت تلك الزنزانة المظلمة لسجن التعذيب، فقد جلبنا بعض الضوء، على الأقل، إليها.
[…]
لقد كان هناك بعض الشهود من داخل المنظومة، والذي أدلوا بشهاداتهم حول عملها، وقدموا شهاداتهم حول دور المتهم الرئيسي ضمنها. أيضاً، كان عرض صور قيصر صادماً، وشهادة الخبير الطبي الذي تفحّص كل صورة من صور قيصر، و[عرضَ] شهادته حول عمله، ثم لخَّصَ نتائج هذا الفحص المستمر منذ عام 2017 حتى الآن.
[…]
ولدينا، بالطبع، المتهمون بأنفسهم، الذين قدموا بعض المعلومات حول دورهم في المنظومة، لكنهم لم يعطوها للمحكمة، بل للشرطة. وقد قدم عناصر الشرطة الذين وثَّقوا إفادة المتهمين المعلومات خلال جلسة الاستماع بوصفهم شهوداً في عملية التقاضي.
فيما يخص النقطة المحددة التي أشرتَ إليها بخصوص الجرائم الجنسية والتباينات بينك وبين النيابة، ما هو الوضع الحالي لذلك؟ هل سيقرر القاضي الآن ما إذا كان سيتم إضافة التهم؟
نعم بالضبط. لقد كان هذا طلباً قدمناه للمحكمة. يمكن للأطراف الأخرى، بما في ذلك الادعاء، أن يقرروا ما إذا كانوا يريدون الانضمام إلى هذا الإجراء أو […] معارضته. وبعد ذلك ستقرر المحكمة في النهاية ماذا يفعلون بالطلب.
لنقم بإجراء مقارنة سريعة، قد تكون ذات صِلة أو لا، وربما عليك التعليق حول مدى ذلك […] لقد رأينا، في لبنان، مع الحكم الأخير في المحكمة الدولية الخاصة بلبنان. على وجه التحديد في «قضية عياش وآخرين»، قضية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري. صدر هذا الحكم في آب (أغسطس)، وكان هناك قدر كبير من خيبة الأمل لدى الرأي العام، إذ أدين واحد فقط من المتهمين الأربعة في نهاية المطاف. وهو عنصر منخفض المستوى نسبيًا في حزب الله، دون إدانة أي شخصيات بارزة أخرى، سواء داخل حزب الله، أو داخل جهاز الأمن اللبناني، أو حتى داخل النظام السوري، الذي يُشتبه على نطاق واسع بتورطه على مستوى ما. وإلى خيبة الأمل هذه يُضاف واقع أن المحكمة قد استغرقت خمسة عشر عاماً، وكلّفت نحو مليار دولار، لتصل في النهاية إلى هذا الحكم. ولم يتم حتى القبض على المتهم المُدان الآن، بل جرت المحاكمة بأكملها غيابيًا. لذلك كان هناك شعور واسع النطاق وعميق بأن هذا لم يكن خيبة أمل للبنان فحسب، بل كان بمثابة ضربة لمفهوم العدالة الدولية نفسها ولمشروعها. إذ حتى مع وضع الأمم المتحدة والمجتمع الدولي ثقلهما لصالح المحكمة الدولية، وخمسة عشر عامًا ومليار دولار، لم يتمكن أفضل المدعين العامين في العالم من إنجاز ما هو أكثر من إدانة هذا الشخص، الذي من الواضح أنه لم يكن قادراً على تخطيط عملية معقدة كهذه وتنفيذها من تلقاء نفسه. وهذا الشخص، في الواقع، هاربٌ من العدالة، إذ من المتوقع أنه لا يزال يعيش حراً في مكان ما في لبنان. هل لديك هواجس من خطر حدوث شيء مشابه في كوبلنز؟ أي أن تكون توقعات الرأي العام غير متناسقة مع ما يمكن أن يحدث بالفعل، حتى في حالة نجاح الادّعاء في الحصول على إدانة، وأن هذا سيؤدي إلى إحباط وخيبة أمل حتمية من العدالة الدولية بين السوريين وغيرهم؟ كيف يمكن إدارة هذه التوقعات بشكل مناسب، دون التقليل من أهمية المحاكمة أو تقويض أهمية المُساءَلة القانونية؟
هذه نقطة جيدة، وكبيرة جدًا، لأنها تتعلق بشرعية هذه المحاكمات والمحاكم الدولية. ما زلت [أقول] أن أوجه الاختلاف بين المحكمة الدولية الخاصة بلبنان وما يجري بخصوص سوريا أكثر من أوجه التشابه. ولذلك يمكننا فقط استخلاص استنتاجات أو مقارنات [قليلة] نسبيًا بينهم.
[…]
من المهم جدًا أن أضع شيئًا واحدًا في الاعتبار. أعتقد أن المُساءَلة الجنائية أساسية في أي من هذه العمليات، ومن الضروري أن تُدار بطريقة صحيحة. بما يخص محكمة لبنان[…] أعلم أن هناك الكثير من المشاكل، ولكن المسألة تتمحور حول إن كانت حقائق ما حول ما جرى قد كُشفت ووثقت، أو أشارت لمسؤوليات ما؛ تقول إن هذا لم يحصل. أعتقد أن المحكمات المتعلقة بسوريا، أو هذه المحاكمة بشكل خاص، ستكون مختلفة عن المحكمة اللبنانية. هناك، على سبيل المثال، أمرٌ قُدِّمَ كدليل في محكمتنا هذه، صدر عن الإدارة المركزية للأزمة -أعلى مستويات السلطة في سوريا، أولئك المسؤولون مباشرة أمام بشار الأسد- يوجّه كلَّ الأوساط المنتمية للمخابرات بضرورة سحق الاحتجاجات بكل ما يتطلبه ذلك من وسائل. هذا ليس اقتباساً حرفياً من الأمر، إذ تُستخدم كلمات مختلفة، لكن كل من يعرف منطق هذه المنظومة يعي ما يعني هكذا أمر.
أو، [لأخذ] اقتباس واحد فقط من شهادة اليوم، التي ما زلت أفكر فيها، [من] شاهد […] تحدَّثَ أيضاً عن سلسلة القيادة. إذ قال:«وفي أعلى الجميع هناك الإله، والإله قَرَّر». حينها، سأله القاضي:«إذاً، هل لهذا الإله اسم؟»، فضحك الشاهد، وقال:«أجل، طبعاً، اسمه بشار الأسد». تالياً، المحكمة تحدد مسؤوليات، ومسؤوليات من هذا المستوى كذلك.
ومع ذلك، ستكون نسبة الجرائم التي يمكن للقانون الجنائي الدولي أن يتعامل معها قليلة بالمقارنة مع المجمل[…] وكيف يمكن ألا يكون كذلك؟ إنه صراع استمر لما يقرب من عشر سنوات، وآلاف الجرائم ارتُكبت -هذا على فرض إمكانية تحديد كميتها-. لذلك، بالطبع سيكون الأمر انتقائياً للغاية. ولكن يمكن أن يكون لها دور مؤثر؟ هذا هو المهم. أن يتم التقاط هذا التأثير واستخدامه، ليس فقط من قبل الهيئات القضائية الأخرى والمحامين الآخرين لتقديم المزيد من المحاكمات والمشتبه بهم إلى العدالة، ولكن أيضًا من قبل المجتمع المدني عموماً؛ وفي المجال السياسي؛ وعن طريق وسائل الإعلام، والفنون، والتعليم، وكتابة التاريخ، وهكذا دواليك. أعتقد أن المحاكمة يمكن أن تفعل ذلك. وهناك القليل من المؤسسات الأخرى في المجتمع التي يمكن أن تعمل على هذا النحو، لأنه [في المحاكمة] تتم مناقشة الحقيقة، ولدينا المحكمة. أعني، لدينا سبعة قضاة جالسين هناك. سبعة! من أعلى القضاة [تأهيلاً] في ألمانيا. وسوف يقومون بتقييم كل كلمة قيلت على مدى سنوات في هذه التجربة. وعندما يكون لديهم حكم فسيكون ناتجاً عن تداول طويل، ويمكن قراءته وفهمه في مكان آخر.
[…]
لقد أتى فنانون سوريون وأقاموا معارض فنية قوية الرسالة. وسيتم صنع أفلام. وهلم جرا. [الأمل] أن يؤدي هذا إلى شيء ما، حتى لا يُنسى ما حصل أو [يكنس] تحت البساط. أعتقد أن هذا هو المكان الذي يكمن فيه التأثير الكبير.
بخصوص اختيار الشهود في كوبلنز، هل بإمكانك أن تحدثنا قليلاً عن الآلية المتبعة لإيجاد الشهود واختيارهم؟
خلال مدة طويلة، أي شخص لديه معلومات عن هذا الفرع الذي هو موضوع المحاكمة الآن، أي فرع الخطيب بدمشق، وتوجّه نحو سلطات الادعاء، أو إلى سلطات التحقيق، تم سماعه كشاهد.
على من تقع مسؤولية إيجاد الشهود، وتجهيز قائمة بهم وتقديمها للمحكمة؟ على الادّعاء؟
نعم، هذا عمل الادعاء، ولكنهم بالطبع يتعاونون مع المحامين. في بعض الأحيان، أو بالأحرى في كثير من الأحيان، لا يمتلكون القدرة على التواصل؛ الناس لا يثقون بهم، أو لا يريدون التحدث معهم. يشعرون براحة أكبر عند التحدث إلى محامٍ سوري أولاً، ثم ربما محامٍ ألماني يمكنه تقديم المشورة لهم. ففي كل حالة تقريباً هناك مسألة أمنية وأسرية في سوريا، وما إلى ذلك […] الكثير من القضايا لا تمضي دون مساهمة المجتمع المدني، من محامين وناشطين سوريين، و، في مثل هذه الحالة، شركائهم الألمان.
في حال أراد أحدهم أن يتقدم ويدلي بشهادته أمام المحكمة الآن، فهل ما يزال المجال لذلك مفتوحاً؟ ماذا عليه أن يفعل؟
بإمكانه التوجه إلى مركز شرطة وتقديم أي معلومات لديه بهذا الشأن، وسيتم توثيق شهادته ومن ثم إرسالها إلى المدعي العام. [لكن] السؤال هنا قد يكون عن عدد الشهادات التي يستطيع المدّعي العام المرور عليها بعد، أو إن كان قد قرَّرَ أن لديه شهادات كافية لهذه القضية ولم يعد بحاجة للمزيد. ليس لديّ إجابة بخصوص ذلك، لكن إن وُجد من لديه معلومات مباشرة حول الجرائم، فغالباً سيتم استدعاؤه لتقديم شهادته.
[…]
أنصح الناس دائماً بالتواصل مع محامٍ قبل كل شيء. كي يتمكن هذا المحامي من إخبارهم بما سيحصل لهم، وما لديهم الحق بالقيام به، وما يجب أن يلتزموا به. «هذا ما سيحدث، لديك الحق في القيام بذلك، وعليك الالتزام بذلك. أن تكون شاهداً ليس موضوعاً اختيارياً. إن أُخطرت المحكمة أنك شهدتَ شيئاً فسوف يستدعونك لتقديم شهادتك، وحينها سيكون من الواجب عليك أن تقول ما تعرف. وأسباب رفض الشهادة قانونياً قليلة للغاية. ما لا يفهمه كثير من الناس بوضوح هو أنهم لا يستطيعون انتقاء ما يريدون قوله وما لا يريدون. لذلك يُنصح دوماً باستشارة محامٍ مسبقاً.
من وجهة نظرك كمحامٍ، كيف تُقيّمُ التغطية الإعلامية للمحاكمة حتى الآن؟ هل كان هنا تغطيات غير دقيقة أو سوء فهم إشكالي لأي من مجرياتها؟
أعتقد أن التواصل من قبل المحكمة لم يكن مرضيًا حقًا، لأنه كان من الصعب جداً على كثير من الأشخاص أن يُتابعوها، خاصة الأشخاص الناطقين باللغة العربية الذين لا يفهمون المحاكمة باللغة الألمانية. لأن اللغة الوحيدة التي تسمعها في مجلس الحاضرين هي الألمانية. ما لم يتكلم الشاهد باللغة العربية، [حينها] يمكنك سماع ذلك الشاهد، لكنك لن تسمع الأسئلة، أو أي شيء يُقال بالألمانية. وقد حاولنا المطالبة بإجراءات إزاء هذا الأمر، أن تُتاح الترجمة أيضًا للجمهور غير الناطق بالألمانية، وقد رفضت المحكمة هنا هذا الطلب. أيضاً، أراد بعض الأكاديميين تسجيل المحاكمة لأغراض تأريخية بشكل أساسي، وتم رفض هذا الطلب أيضًا. ولذا أعتقد أنها كانت فرصة ضائعة […] لأن لديك جزءاً كبيراً من الناس، وبالتحديد السوريون، الذين لا يستطيعون الوصول إلى معلومات دقيقة حول هذه القضية.
الجلسة التي حضرتها اليوم، على سبيل المثال، كم مِنها متاح للجمهور العام؟
كروكر : لا شيء.
الجمهورية: لا شيء؟
كروكر: لا شيء. بادئ ذي بدء، لا توجد محاضر متاحة للعموم. لذاك فإن الطريقة الوحيدة للحصول على معلومات حول ما يحدث بالفعل في المحكمة هي الجلوس في الجزء المخصص للحضور العام في الصالة والاستماع. وهذا ما يمكنك فعله فقط باللغة الألمانية. ولا حتى باللغة العربية […] أنا متأكد من أنه [إذا كانت هناك ترجمة عربية] فإن المزيد من الناس سيأتون ويستمعون إلى ما يحدث.
تنوعت التوصيفات التي تم إطلاقها على المحكمة، مثل «تاريخية» و«الأولى من نوعها»، ومصطلحات أخرى من هذا القبيل. ما هو التأثير الذي تتوقعه لها على المدى الطويل، إن اعتقدت بوجوده، بما يتعدى التأثير المباشر على المُدّعى عليهم؟ كيف سيتم تَذكُّرُ هذه المحكمة؟ ما الذي ستُغيّره؟
ليس لدينا حكم بعد، ولربما تبدأ محاكمة أخرى تكون أسرع، ولكنني أعتقد أنه سيكون أول حكم ضد أجهزة الاستخبارات السورية بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية باستخدام التعذيب ضد المدنيين. وبطبيعة الحال، نحن [نعرف] هذا بفضل هيئات الأمم المتحدة، والمنظمات الدولية، والمنظمات غير الحكومية […] ولكنني أعتقد أن حكم محكمة سيكون له وقع مختلف. أعتقد أنه سيكون لحكم المحكمة تأثير ذو ديمومة. حكم كهذا لا يُمحى […] وأعتقد أن هذا سيؤثر أيضًا في السنوات المقبلة على الإدراك التاريخي لما جرى.
ولكن ، حتى أكثر من ذلك، آمل أن يؤدي حكم المحكمة لانطلاق أنواع أخرى من آليات العدالة؛ أن يصبح من الواضح أنه، حسناً، بحوزتنا الآن حكم محكمة […] وحالما يتم تثبيت الحكم […] فإن المحاكم الأخرى، على الأقل في ألمانيا، سيكون أسهل عليها إثبات ما يَرِدُها من قضايا، لأنها لن تكون مضطرة للعودة مجدداً إلى كل هذه التفاصيل […] يمكنهم حينها القول: «حسنًا، وبما يخص هذه الجزئية، سنقرأ الآن حكم المحكمة في كوبلنز»، أي، سيكون هناك حقيقة مثبتة بالفعل. .
وآمل أن يؤدي هذا أيضًا إلى […] إعادة التفكير في مدى رغبتك حقاً في التعامل مع مثل هذه الحكومة، خصوصاً الآن إذ تفكر العديد من الحكومات في تطبيع علاقاتها مع النظام. والأمر الآخر هو الأمل في أن تتشكل عمليات قضائية وتكون كوبلنز نموذجاً مشجعاً للسوريين للمشاركة أكثر، وللمزيد من المدّعين العامين كي يوجّهوا اتهاماتهم، أو لكي يصدروا أوامر اعتقال بحق مشتبه بهم من مستويات اعلى.
بخصوص هذه النقطة تحديداً. كثيراً ما نستمع لأحاديث غير محددة ومتأملة بخصوص ملاحقات مستقبلية. هل لديك معلومات عن أمثلة محددة لملاحقات يتم العمل عليها، وقد تنطلق في السنوات القليلة المقبلة؟
نعم، هناك قضية ضد طبيب من المشفى العسكري في حمص «علاء م.» أيضا في ألمانيا. وقد تم إلقاء القبض عليه، ونقلت وسائل الإعلام ذلك. ومن المحتمل جداً أن توجّه إليه الاتهامات القضائية قريباً. وهو من المنظومة نفسها، أي المخابرات العسكرية.
لستُ على اطلاع حول قضايا أخرى يتم تجهيزها للبدء، ولكني متأكد من أنها ستتواصل. ولكن حتى تصل القضايا إلى هذا المستوى، يجب أن يكون المشتبه بهم هنا (في ألمانيا)، حاضرًين، حتى يمكن توجيه الاتهام إليهم. على الأقل في النظام القانوني الألماني، وفي معظم الأنظمة القانونية في أوروبا. لكني ما زلتُ آملُ أن يكون هناك المزيد من أوامر القبض، أيضاً، ضد أشخاص غير موجودين. هذا لا يكفي لجلبهم للمحكمة، ولكن يبقى الأمل في أن يتم القبض عليهم يوماً ما عبر الإنتربول، إذا أُصدرت أوامر اعتقال دولية، والإنتربول على علم بذلك. ربما في غضون خمس سنوات، شخص مثل [مدير المخابرات الجوية السابق] جميل الحسن سيرغب في السفر إلى السويد للذهاب للتسوق، أو لأي سبب كان، وقد يتم القبض عليه. أعتقد أنه من المهم أن يستمر هذا.
في الآونة الأخيرة ، انتشرت هذه القصة الصادمة عن ضابط في النظام السوري، خالد الحلبي، الذي وصل إلى فرنسا، حيث رُفض طلب لجوئه، وحسب التقارير تم تهريبه إلى النمسا عن طريق الموساد الإسرائيلي. يبدو الأمر وكأنه حبكة مسلسل على نِتفليكس. وقد علّقتَ على حسابك على تويتر أن هذه ضربة كبيرة لجهود محاسبة مثل هذه الشخصيات. هل لديك أمل، الآن بعد أن ظهرت القصة، وتم الكشف عنه، أن السلطات النمساوية قد تغير مسار ما يحدث؟
أتمنى ذلك. وآمل ألا يكون الوقت قد فات للقيام بذلك، ولست متأكدًا مما إذا كان الإبلاغ عن القصة في الإعلام قد زاد من فرص المضي قدماً في هذه القضية أم قلّلها. لأن الشخص، في حال كان لا يزال متاحاً، قد يهرب. لذلك لست متأكدًا من كيف ستتطور الأمور. ولكني أعتقد أن فضح هكذا أمور محق، لأن حصول هكذا أمور فعلاً فضيحة كبرى […] العدالة بخصوص هكذا جرائم هو أمر لا يمكن المساومة عليه أبداً […] هكذا أمور لا يمكن أن تحصل. هذا عمل قذر، إذا كنت تريد أن تصدق تلك [التقارير ]، وما قامت أجهزة المخابرات بفعله. أعتقد أنه من المهم الكشف عن ذلك وعدم السماح لهؤلاء الأشخاص بالإفلات من العقاب [فقط] لأنهم يحوزون أي نوع من أنواع السلطة.
جلستَ في القاعة أثناء إجراءات المحكمة. على المستوى الشخصي البحت، وبغض النظر عن دورك كمحام، بل من منظور إنساني بحت، كيف يُجلَس في الغرفة نفسها ويستنشق الهواء ذاته مع رجل مثل أنور رسلان؟ خاصة عندما يجلس بعض ضحاياه في المكان نفسه أيضاً.
بالتأكيد، الخبرة الأقوى على المستوى الشخصي هو ما ذكرته، أي أن تكون هناك مع الناس الذين عانوا. أعتقد أن هؤلاء هم الذين أجد نفسي أقرب لهم. المتهمون جالسون هناك، وأفكر «حسناً، هذه ستكون محاكمة عادلة، وهذا ما أريده، وعلى الأقل سنقيّم ما فعلوه فعلاً». لكن المشاعر كانت أقوى في اليوم الأول، حين قُرأت لائحة الاتهام، وكان هناك الكثير من القصص، قصص شخصية، تلخيصات لإفادات شهود، والكثير من هؤلاء الناس أعرفهم، وسمعتُ قصصهم. وأحياناً كنتُ موجوداً معهم حين جلسوا وقدموا إفادتهم للمدّعي العام.
هذا يحصل، وأخيراً، والمتهم، في الوقت ذاته، جالس هناك، ويُسأل «هل فهمت كل شيء؟ هل فهمت المترجمين؟ هل كل شيء على ما يُرام؟ هل تمكنت من فهم كلّ كلمة؟»، «أجل» وحينها عليه أن يستمع لساعة ونصف من هكذا أشياء وهي تُقرأ له.
أو حين عُرضت صور قيصر، وشاهدنا مئات من الصور في ذلك اليوم، وخلف كل صورة هناك قصة شخصية لأحدٍ يعرف أن قريبه قد عُذِّبَ حتى الموت. هذه خبرة مؤثرة جداً، علي أن أقول، وهي ليست أمراً يسهل عيشه على الإطلاق. […] وأنا أفكر أتوماتيكياً عن كيف يمكن أن يعيش الناس هذه الأشياء. نرى جثثاً على الشاشات قد تم تعذيبها حتى الموت، أو تُركت تموت من الجوع، هذا أخ أحدهم، أو أخته، أو غيره. ليس هذا بالأمر السهل، لكنه بطبيعة الحال السبب المركزي لانخراطي الكبير في هذا العمل، من أجل تثبيت حكمٍ وتأريخٍ موثّق، وللعمل من أجل أن تتوقف هذه الجرائم، ومن أجل أن يُحاسب مرتكبوها.
وماذا عن المتهمين؟ وهل هناك شيء تقرؤه على وجوههم في تلك اللحظات التي تعرض فيها صور الجثث؟ هل يعطون أي إشارة للندم، أو أنهم متأثرون بأي شكل من الأشكال، أم أنهم يعرضون «وجه بوكر» بارد؟
عليّ أن أقول أنني لم أرَ الكثير من رد الفعل حين أتت هذه اللحظة. أنور ر، المتهم الرئيسي، يهتمّ أكثر عندما يدلي الناس بشهاداتهم حول كيفية عمل النظام، بشكل أساسي. أي ما يعرفه جيداً وما كان جزءًا منه لعقود؛ يهتم حقاً حين يتحدث الناس عن ذلك، وإذا سمع ما يعتقد أنه كلام خاطئ -حتى لو لم يكن ذو صلة بلائحة الاتهام- يمكنك أن تراه منفعلاً ومتحدثاً إلى محاميه «لا، ليس هذا من كنت أقدم له التقارير»- أنا فقط أعطي هذا كمثال متصور، لأنني لا أعرف ما يقوله حقاً-. لكن هذه هي الأمور التي تجعله يقدم رد فعل أساساً. قصص المعاناة المروية في القاعة لا تحركه كثيراً.
ولكن، كما قال أحدهم لي [في ذلك الوقت]، «هو الوحيد الذي شاهد هذه المشاهد في الحقيقة». من المؤكد أنها كانت أكثر صعوبة حينها، فلذلك قد تكون لديه طريقة ليتمكن من التعامل مع هكذا أمور حينها، وبالتالي ربما اليوم كذلك.
شكراً جزيلاً لك على وقتك يا باتريك.
شكراً لكم.