بدعوة مشتركة من مؤسسة هينرش بُل، والمركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان (ECCHR)، والمركز السوري للعدالة والمُساءَلة، عُقِدَ يوم أمس الثلاثاء مؤتمر صحفي عبر تطبيق زووم، نوقشت فيه المحاكمة المستمرة في مدينة كوبلنز الألمانية، التي يواجه فيها أنور رسلان تهماً بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، تشمل التعذيب والاغتصاب والقتل، أثناء رئاسته لقسم التحقيق في الفرع 251 التابع للمخابرات العامة (أمن الدولة) والمعروف باسم فرع الخطيب في دمشق خلال العامين 2011 و2012، فيما يواجه إياد الغريب فيها تهماً بالتواطؤ لارتكاب جرائم ضد الإنسانية عبر اعتقال أشخاص وتسليمهم للفرع نفسه في خريف العام 2011.
ويأتي هذا المؤتمر الصحفي بعد ثلاث جلسات حوارية باللغة العربية، نظّمتها الجهات نفسها بالشراكة فيما بينها خلال الأسابيع الماضية، تمحورت الأولى منها حول مفهوم الولاية القضائية العالمية، فيما تمّ تخصيص الثانية للحديث عن العنف الجنسي والعنف القائم على النوع الاجتماعي، والثالثة للحديث عن المحاكمات والقضايا المرفوعة في أوروبا ضد مسؤولين في النظام السوري. وفي بداية المؤتمر الصحفي، قال يواخيم بول، رئيس مكتب بيروت في هينريش بُل إن الهدف من جميع هذه الجلسات، بما فيها جلسة يوم أمس، هو «النفاذ إلى جميع المهتمين بهذه المحاكمات» من الناطقين باللغة العربية، بعد أن «لاحظنا اهتماماً واسعاً بها وصعوبة في الوصول إلى المعلومات عنها بالعربية».
أدار جلسة يوم أمس ناصر ياسين، الأستاذ المشارك في الجامعة الأميركية في بيروت. وبعد الحديث الافتتاحي الذي قدّمه يواخيم بول، تم الانتقال إلى الصحفية والناشطة السورية رويدا كنعان، الشاهدة في محاكمة كوبلنز، والتي تحدثت عن سياق شهادتها وظروفها، وقالت أيضاً إنّ من أهم ما لفت نظرها في المحكمة هو اهتمام القضاة بالسياق السوري ككلّ في العامين 2011 و2012، وليس فقط بما كان يجري في فرع الخطيب وقتها، وأسئلتهم عن المنظومة الأمنية السورية بشكل عام وعن المظاهرات وردّ فعل النظام عليها؛ «لقد أشعرني هذا بارتياح كبير».
بعدها تَحدّثَ وسيم مقداد، الموسيقي السوري المقيم في ألمانيا، الشاهد في المحاكمة وأحد المدعين الشخصيين المشتركين السبعة فيها، الذي تحدّث بدوره عن ظروف شهادته، وقال إنه يعرف معتقلين سابقين رفضوا الادلاء بشهادتهم لأنهم لا يثقون بأيّ مؤسسات ذات صفة رسمية في العالم، ولأنهم يعتقدون إن هذه المحاكمات لا فائدة منها، لكنه مع ذلك يرى أن هذه المحاكمات بالغة الأهمية، لأنها تساعد في إعادة تسليط الضوء على الحكاية السورية، وفي مقاومة سردية النظام التي تتحدث عن أن القضية هي مواجهة يخوضها مع جماعات إسلامية متطرفة.
باتريك كروكر، محامي المدعين الشخصيين في محكمة كوبلنز، والذي يعمل على الملف السوري في المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان، تَحدَّثَ عن مجريات المحكمة، وقال إنها تؤكد كل ما قالته وسائل الإعلام عن الانتهاكات التي يرتكبها النظام السوري، لكن أهميتها تكمن في أنّ الأدلة على هذه الانتهاكات يتم نقاشها وتقييمها للمرة الأولى من قبل قضاة في محكمة، ولن يقتصر الحكم الصادر عنهم في النهاية على بيان براءة أو إدانة المتهمين، بل سيتطرق إلى القمع الممنهج من قبل النظام السوري، وهو ما نأمل أن يكون مفيداً لمستقبل سوريا.
وفي سياق ردّه على أسئلة بخصوص محاكمة مسؤولين آخرين في النظام السوري، أعاد كروكر التأكيد على أنّ القانون الألماني لا يسمح بمحاكمة المتهمين غيابياً، ما يعني أنه لا يمكن محاكمة شخص غير موجود في قاعة المحكمة، شارحاً أنّ ما يحصل عند بناء ملف قضائي ضد متهمين غائبين هو إصدار مذكرات توقيف دولية بحقّهم، وهو ما حدث فعلاً بخصوص علي مملوك وجميل الحسن، مثلاً.
تحدََّثَ في الجلسة أيضاً حسان قانصو، عضو فريق تحليل البيانات في المركز السوري للعدالة المسالة، وأحد المراقبين لهذه المحاكمة، الذي قال إن أهمية المحكمة تكمن في أنها تسلط الضوء على معلومات داخلية عن آلية عمل الأجهزة الأمنية للنظام السوري، لافتاً إلى أنّه لاحظ أنّ المحكمة باتت مؤخراً أكثر تساهلاً في مسألة إخفاء هوية الشهود الذين يريدون إخفاء هويتهم، خلافاً للمرحلة الأولى التي كانت فيها إجراءات المحكمة على هذا الصعيد أكثر صرامة.
وقد التقت الجمهورية رويدا كنعان ووسيم مقداد على هامش المؤتمر الصحفي، وتناولَ الحديث جوانب عدة تتعلق بالمحكمة والشهادات المُقدَّمة في سياقها، وجوانب ذات صلة بالناجين والناجيات ومسار العدالة.
وبداية الحديث كانت برنامج دعم الشهود في محاكمة كوبلنز، الذي يرعاه المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان، قالت رويدا كنعان: «منذ اللحظة الأولى بعد موافقتي على الاشتراك في عملية التقاضي هذه، قدّمت لي السيدة جمانة سيف وفريق المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان، عوناً كبيراً على جميع الصعد، ابتداءً من توفير عمليات الترجمة إلى إتاحة كل عون مادي ومعنوي ممكن. وقد جرى سؤالنا إن كنا نحتاج في أي مرحلة من المراحل إلى استشارة أخصائيين بسبب استعادتنا لتلك الذكريات المؤذية والتجارب الصادمة، وفي حال وافقنا كان ذلك متاحاً وبشكل مباشر دوماً. ذلك النوع من العون الذي قدموه لنا كان أساسياً بالطبع في قدرتنا على البدء والاستمرار في المحاكمة وتقديم شهاداتنا».
وسيم مقداد أيضاً تحدث عن البرنامج، وقال إنّه «لولا الدعم الذي قدّمه لنا المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان، ومن السيدة جمانة سيف بالتحديد، بالتأكيد لم أكن لأستطيع أن أشارك كشاهد في المحكمة. كان من الصعب عليّ، لولا الدعم التقني الذي قُدّم لنا على صعيد شرح القوانين في ألمانيا وآلية عمل المحاكمة، أن أمتلك الثقة الكاملة اللازمة لخوض هذه التجربة التي تعني اليوم لنا الكثير. في ظل عدم قدرتي على فهم القوانين الألمانية لوحدي، كان سيتطلب الأمر مني سنوات حتى أكون قادراً على اتخاذ مثل هذا الإجراء، وربما لم أكن لأقِدَر عليه».
كيفية التعامل مع العبء الذي يلقيه تسليط الضوء على القضية وشهودها كانت محور أحد الأسئلة، وفي هذا الشأن قالت رويدا كنعان: «كان الخيار لنا منذ اللحظة الأولى في المحاكمة، أن نظهر بأسمائنا الحقيقية وصورنا، أو أن نخفي تلك المعلومات عن أي أحد خارج إطار المحاكمة، بما في ذلك بالطبع الصحافة والإعلام. بالنسبة لي، كان ظهوري باسمي الحقيقي وصورتي ومشاركتي بأحاديث مع الإعلام جزءاً من مهمة أخذتها على عاتقي، وهي أن أعطي صوتاً لمن لا يستطيعون الوصول إلى موارد أو يخافون الظهور. باعتباري ناجية من الاعتقال، وباعتباري امرأة، كان دوماً هذا أحد أولوياتي. نحن نعلم أن الكثير من الناجيات من الاعتقال يَخفنَ الظهور على الإعلام نتيجة أسباب كثيرة تتضافر فيها الوصمة الاجتماعية بالظروف المادية والوضع القانوني، عدا عن الناجين الموجودين داخل سوريا، الذين لا يستطيعون الحديث عن تجاربهم خوفاً على حياتهم بشكل مباشر».
من جهته، أشار وسيم مقداد أيضاً إن هذا كان خياره منذ البداية: «أظنّ أنّ هذا الظهور هو جزء من عمل أوسع لمناصرة قضية المعتقلين في سوريا، وقد تعاملنا معه على هذا الأساس منذ البداية. شخصياً أعتقد أنه تقع علينا، نحن الذين نستطيع الظهور علناً، مسؤولية نقل أوضاع المعتقلين والضحايا في بلادنا. وبالطبع، لم نكن مضطرين لذلك، لكنّنا اخترنا ذلك بناءً على قرار منا».
وعن الدور الذي يمكن أن يلعبه ظهورهم العلني في تشجيع ناجين آخرين على تقديم شهاداتهم، قالت رويدا كنعان: «أظنّ أن ظهوري كناجية من الاعتقال وشاهدة في محكمة تقاضي مجرم حرب سيكون له أثر إيجابي على الناجيات، تحديداً لـ “تشجيعهن” على الشهادة. أعرف أن كلمة “تشجيع” إشكالية هنا، لأن ما ينقص الناجيات تحديداً ليس الشجاعة، بل هناك الكثير من العوائق الاجتماعية والقانونية التي تقف في وجه أي ظهورهنّ للمطالبة بحقوقهنّ القانونية أو التحدث عن تجربتهنّ، لكن إن كان ظهوري علناً يساعد ولو بجزء صغير في هذه المسألة، فإنني سأكون سعيدة للغاية».
وتحدث كل من وسيم مقداد ورويدا كنعان عن رؤيتهم الخاصة لدور محاكمة كوبلنز ضمن مسار العدالة في سوريا، حيث رأى وسيم مقداد أنّ هذه المحكمة قد منحت مسار العدالة سرديّة مكتملةً «لقد كنا بحاجة لأن نمنح مسار العدالة في سوريا سرديةً واضحةً وسياقاً مكتملاً نجد فيه قضايا الانتهاكات تذهب إلى المحاكم ويقف فيها الجناة أمام القاضي ويتم سماع الشهادات فيها، أعتقد أن محكمة كوبلنز فعلت ذلك، لقد قدمّت لنا سرديةً واضحةً يمكن للناس في العالم أن تراها وتفهمها، في بلد يضمن حقوق الجميع وتمتلك محاكِمُه مصداقيةً عالية، ستعطي لهذه المحاكمة والشهادات ضمنها مصداقية أعلى بكثير من الحديث للإعلام أو لما يمكن أن تفعله محاكم في دول الجوار مثلاً».
وعن هذا الموضوع قالت رويدا كنعان «نحن اليوم لا نمتلك الكثير من الخيارات، إذ لا يمكن ضمن الظروف السياسية القائمة في مجلس الأمن الذهاب إلى محكمة الجنايات الدولية على سبيل المثال، ضمن هذه الظروف كان اللجوء إلى بند الولاية العالمية للقضاء الألماني أفضل المتاح أمامنا، ليس لدينا أية أوهام بأنّ هذه المحكمة ستطال بشار الأسد، لكنّها بداية ضرورية جداً لمسار التقاضي ولحصولنا على حقوقنا. لقد منحتني رؤية المجرم وراء القضبان طاقة هائلة، وهي خطوة مهمّة جداً لنا جميعاً».
دور الشهود والمدعين في هذه المحكمة، فتح أيضاً خلال الحوار نقاشاً حول أدوار روابط ومجموعات الضحايا في سوريا والتي بدأت تتشكل وتقوم بمهام كثيرة من دعم ومناصرة قضية المعتقلين، وقد كان رويدا كنعان تميل إلى اعتبار أنّ الدور الأساسي في هذه المرحلة لتلك المجموعات هو التنظيم الذاتي: «لم تستطع مجموعات الضحايا في دول عانت من أوضاع مشابهة مثل البوسنة من القيام بعمل فارق إلّا بعد عشرة أو خمسة عشر عاماً، في الوقت الحالي أظنّ أنّ أهمّ إنجاز لمجموعات الضحايا التي تعمل داخل سوريا أو خارجها هي التنظيم، كما انّ عدد كبير من مجموعات الضحايا تعمل الآن على تقديم العون المعنوي والمادي للضحايا، وهي أولوية لهم الآن أكبر من الانخراط في مسار العدالة بشكل مباشر، عدا عن ارتباط بعض تلك المجموعات ببرامج المنظمات المدنية التي ساعدت أو أشرفت على تشكيلها، وهو ما يربط عملها بتلك البرامج بشكل مباشر، بكل الأحوال أظن أن المجموعات الحالية تقوم بعمل هام جداً وهو التضامن البيني بين الضحايا أنفسهم وتقديم الدعم للذين يحتاجونه».