قبل أيام قليلة، أعلنَ الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة في سوريا عن تشكيل مفوضية وطنية للانتخابات، وذلك «استعداداً للمرحلة الانتقالية وما بعدها». وقد أثار هذا الإعلان موجة من الغضب في أوساط السوريين المنحازين لثورة 2011، إذ تم اعتباره استعداداً من قبل الائتلاف للمشاركة في الانتخابات الرئاسية التي سيجريها الأسديون العام المقبل، وذهبت بعض التكهنات والتحليلات شوطاً بعيداً جداً، إلى حد القول إن رئيس الائتلاف نصر الحريري يستعد كي يرشح نفسه مقابل بشار الأسد. يقول الغاضبون إن هذا سيكون مساهمة في تعويم نظام الأسد، واستكمالاً لمسار الحل الروسي الذي يهدف إلى الالتفاف على ضرورة إقامة هيئة حكم انتقالي كشرط للحل السياسي وفق القرار الأممي 2254.
الواقع أن هذه التحليلات مفرطة في تفاؤلها، ولو أن بشار الأسد وقادة أجهزته الأمنية يقبلون اليوم بشيء كهذا فعلاً، لكان الأمر مدعاة للاحتفال لا للغضب؛ هل يمكن أن نتصور قبول الأسديين بأي معارضين كطرفٍ في عملية انتخابية من أي نوع؟ لو كان تَصَوُّرُ شيء كهذا ممكناً لكُنّا في مكان غير هذا الذي نحن فيه الآن، لكنَّ الأسديين يحتفلون اليوم بافتتاح متحف لتخليد ذكرى شخص لا تُعرَفُ مأثرةٌ له سوى أنه كان يجيد ركوب الخيل، وأنه كان الابن الأكبر لكابوس سوري طويل اسمه حافظ الأسد.
ولكن هل يمكن أن يكون الأسديون قد قبلوا بهذا تحت ضغط روسي، وأن تكون خطوة الائتلاف هذه استعداداً لهذا المسار؟ ليس لدينا معلومات موثوقة، لكن لا شيء يوحي بحدوث أمر كهذا حتى الآن. وإذا كان هناك موافقة أسدية لفظية على هذا المسار، فالأرجح أن النظام سيتنصّل منها لاحقاً بطريقة أو بأخرى، ذلك أن قبول التنافس مع معارض، حتى لو كان من عيار نصر الحريري، سيعني قبولاً بمبدأ أن معارضين للأسدية يحق لهم أن يتواجدوا في مؤسسات الدولة والنظام، ويحق لهم أن يعبروا علناً عن معارضتهم تلك، خاصة أن المعارضة ستحصل في مقابل هذا على مقاعد وزارية وفق التحليلات والتسريبات الشائعة. قبول الأسديين بشيء كهذا يساوي تَجَرُّع السم بالنسبة لهم، وهم كانوا قد ارتكبوا «خطأً» مماثلاً في درعا نتيجة الضغط الروسي، أفضى إلى مشهد مهيب يهتف فيه عناصر منضوون رسمياً في الجيش السوري ضد الأسد، وهو «الخطأ» الذي تحاول أجهزة النظام الأمنية «إصلاحه» بشتى الوسائل الآن.
ثمة سيناريو آخر ممكن نظرياً فقط، وهو أن يكون الأسديون موافقين على سيناريو المشاركة في الانتخابات في مقابل أن يصير نصر الحريري ورفاقه الائتلافيون أسديين قولاً وفعلاً، بحيث لا يعني اشتراكهم في الانتخابات المقبلة خرقاً للهيمنة الأسدية الرمزية. لكن هذا يتطلّب أن يتنصّلَ الائتلافيون من تاريخهم القريب، ويتراجعوا عن بياناتهم ومواقفهم، بما في ذلك بيان تأسيس المفوضية الوطنية للانتخابات نفسه، الذي وردت فيه عبارة «النظام المجرم»، والذي تَضمّنَ كلاماً عن «انتخابات نزيهة لا مكان فيها لرأس النظام». وربما يكون ائتلافيون كثيرون مستعدين للخوض في أمر كهذا، لكن هذا سيُفقدهم أهميتهم، لأن المطلوب هو اشتراكُ معارضين مع الأسديين في حكم سوريا، وفي اللحظة التي يكفّون فيها عن كونهم معارضين، تنتفي الحاجة لهم تماماً. تلك هي معضلة أي معارضين راغبين أو مستعدين اليوم للعودة إلى حضن الأسدية، وتلك هي معضلة النظام نفسه أيضاً، إذ كيف يمكن أن يشترك معارضون معه في الحكم دون أن يكونوا معارضين أصلاً؟ تشتغل مخابر الأسدية بشكل حثيث على إيجاد حلّ لهذه المعادلة المستحيلة.
وبينما كان سوريون كثيرون غاضبين من خطوة الائتلاف تلك، وفي يوم الإعلان عن تأسيس المفوضية نفسه، نشرَ الموقع الرسمي للائتلاف خبراً مرفقاً بصورة، يظهر فيها نصر الحريري وهو يزور مشروعاً لإسكان مهجري الغوطة الشرقية قرب مدينة الباب بريف حلب، ويظهر معه عصام بويضاني زعيم التشكيل الإجرامي السلفي الذي اسمه جيش الإسلام، الذي ارتكب جرائم لا تحصى، من اختطاف وتعذيب وقتل في شبكة سجون رهيبة في دوما، إلى ملاحقة ناشطين والتضييق عليهم، إلى عرض أسرى مدنيين في أقفاص في الشوارع، إلى قتل على أساس طائفي في عدرا العمالية، إلى اختطاف وتغييب أربعة من أنبل المناضلين ضد الأسدية، ورفض الإدلاء بأي معلومة حول مصيرهم خلال نحو سبع سنوات منذ ارتكاب الجريمة.
لا تحمل هذه الصورة جديداً، لكن الحديث عنها ضروري طالما أننا نتحدث عن تعويم الأسد، ذلك أن الائتلاف بتركيبته وسلوكه وأدائه السياسي يقوم من حيث لا يدري بأقصى ما يمكن القيام به لتعويم الأسد؛ التبعية لأجندات وسياسات الدولة التركية، وتغطية جرائم ومجرمين من قبيل جيش الإسلام وغيره، والمراوغات اللفظية الفارغة، واحتقار العدالة والديمقراطية، والاستمرار في موقعه بالاستناد إلى معادلات دولية وليس إلى إرادة أو تفويض جزء من السوريين. أما عن خطوة تأسيس مفوضية الانتخابات، فالأرجح أنها لا تعني شيئاً، وأنها استئنافٌ لمسار من تلبية الشروط والطلبات التركيّة، التي يحتاج المسؤولون الأتراك إلى أن يتحدثوا عن تلبية المعارضة لها في جلساتهم ومفاوضاتهم مع المسؤولين الروس.
لن يشارك الائتلاف في انتخابات العام 2021 التي ستجريها الأسدية، وإذا خابت تحليلاتي وشاركَ فعلاً، فستكون هذه خطوة إضافية على طريق انهيار الأسدية الطويل الدامي الذي ما نزال في بدايته، وكم هو محزنٌ أن يكون ائتلافٌ كهذا شريكاً في خطوة كهذه.